الرئيسية » للحقيقة والتاريخ : فصول من وقائع “الحجر السياسي” زمن النضال الطلابي

للحقيقة والتاريخ : فصول من وقائع “الحجر السياسي” زمن النضال الطلابي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية بشارع 9 أفريل.

صفحة من صفحات النضال الطلابي لما كان الحجر مفروضا بصورة اعتباطية على عدد من المناضلين الطلابيين من طرف بوليس نظام لا يحتمل المعارضة الفكرية و لا التعبير الحر و لا حتى الإستقلالية في الرأي والموقف. فتراه يلاحق الشباب لأتفه الأسباب وبأغلظ التهم.

بقلم مصطفى عطية

كانت ستائر الظلام قد بدأت تتهادى لتغمر ما تبقى من ثغرات ضوء في ذاك اليوم الشتائي الممطر من شهر فيفري 1977. كنت قد دخلت غرفتي بالطابق الثالث من المبيت الجامعي “باردو 2″، بعد عشية مضطرمة صراعات في المركب الجامعي، إحتدت فيها المشادات حتى وصلت إلى التشابك بالأيدي وتبادل العنف الشديد فسالت دماء كثيرة.

ما كدت أستلقي على السرير حتى كاد باب الغرفة ينفجر من شدة الطرق العنيف، يصحبه صخب عارم وصراخ، فتحت الباب وإذا بالعصي البيضاء الغليظة تطوقني وقد رفعها عدد من رجال الأمن المصحوبين بكلاب مكممة.

دفعوني إلى الوراء بغلظة فسقطت ليجروني خارج الغرفة ويدفعوني مجددا على الدرج، تدحرجت من شدة الدفع حتى تكسرت يدي.

حملوني إلى مستشفى الرابطة حيث إستقبلني طبيب شاب بحماس فياض وكأنه كان ينتظرني ووفر لي العناية الفائقة من تقويم ليدي وجبر لها بالجبس، وقد عرفت من بعد أنه طبيب مقيم في سنته الأخيرة، مختص في تقويم العظام وجراحتها، وكان قد شارك معنا في عشية ذاك اليوم في التجمهر الدموي بالمركب الجامعي.

أبقاني الطبيب في غرفته الصغيرة بالمستشفى حتى الصباح. وغادرته على أمل اللقاء مجددا وامتطيت الحافلة رقم 28 التي وضعتني أمام كلية الآداب والعلوم الإنسانية بشارع 9 أفريل. نزلت واتجهت نحو الباب. كان الحراس في حالة تأهب قصوى وبجانبهم العميد محمد اليعلاوي رحمه الله، وما أن رآني حتى أمرني بيده بأن أعود من حيث أتيت.

عدت إلى الحافلة رقم 28 التي ما زالت راسية أمام الكلية فٱمتطيتها لتنطلق بعد دقائق في طريقها الطويل المتقطع بالمحطات المتعددة حتى عادت بعد ساعة كاملة إلى نقطة إنطلاقها : محطة كلية الآداب مجددا. نزلت واتجهت نحو الباب، كان محمد اليعلاوي قد غادر المكان ليبقى الحراس، إستظهرت ببطاقتي الجامعية ودخلت.

” سحقا سحقا للرجعية، إنتهازي وخوانجية “!

كانت ساحة الكلية تغلي كالمرجل، إلتف حولي الطلبة وٱرتفعت الشعارات المنددة “سحقا سحقا للرجعية إنتهازي وخوانجية”.

بعد مدة قصيرة جاءني أحد الطلبة لاهثا وهو يصيح بتأثر بالغ : “لقد أطردوك يا رفيق … لقد أطردوك” وجذبني من يدي السليمة ناحية مكتب الكاتب العام للكلية المرحوم حمادي الساحلي وقد علق على السبورة المقابلة لمكتبه بلاغ هذا نصه: “رفت الطالب مصطفى عطية المرسم بالسنة الثانية تاريخ وجغرافيا لمدة شهرين إبتداء من تاريخ هذا البلاغ لتباهيه بالجرح معبرا عن وحشية البوليس ومحرضا لزملائه الطلبة على التشويش والتمرد ومقاطعة الدروس”.

لم أكن يساريا فالرفاق من ستالينيين وتروتسكيين وماويين ينعتوني ب” البورجوازي الصغير” وأقلهم شدة يصفوني ب”اليميني المتطرف” أما جماعة الإتجاه الإسلامي، وقد بدأ مدهم يتكاثف وصوتهم يرتفع فيلقبوني ب”عدو الله”!

الحجر في شارع غانا و “البوانتاج ” في نهج كولونيا

كان لا بد أن أغادر المركب الجامعي طوعا أو كرها، وأن أنتقل مرتين في اليوم إلى مركز الشرطة بنهج كولونيا لأمضي على حضوري الإجباري ترعاني عيون الشرطة السرية.

إقترح علي صديقي الشاعر عادل المجبري، وكان في سنته الثانية فرنسية، أن أقيم معه في شقة صغيرة بعمارة قديمة جدا داخل أحد الأنهج الضيقة المتفرعة عن شارع غانا. كانت الشقة رغم بياض جدرانها تكاد تكون مظلمة كدهليز قليل التهوئة، لا أغادرها إلا مرتين، صباحا ومساء، بٱتجاه نهج كولونيا لتأكيد حضوري، مصحوبا كالعادة ببوليس سري منضبط في عمله إلى حد إشعاري بالضيق والإختناق.

كان غازي المجبري شقيق عادل طالبا في معهد الدراسات التجارية العليا، وقد أصبح اليوم من كبار الخبراء المحاسبين والأساتذة الجامعيين والناشرين المتميزين في مجال اختصاصه. كان يزورنا في تلك الشقة بين الحين والآخر، فيرفع من معنوياتنا ويشجعنا على المكابدة، وكان عادل يركب المخاطر بأن يهربني كل ليلة أحد إلى منزل عائلته في الشرقية حيث أقضي الليل وأعود فجرا إلى الشقة المظلمة في ذاك الزقاق الموحش. وكانت شقيقته الصغرى سهام، صبية يافعة ولكنها ذكية جدا وفطنة حد الإبهار، تحدثني بشغف، خلال زيارتي الخفية لمنزلهم، عن أخبار النضال الطلابي، والتي كانت تستقيها من شقيقيها غازي وعادل وأصدقائهم وصديقاتهم، وقد أصبحت اليوم محامية لا يشق لها غبار ومناضلة سياسية من الصفوف الأمامية.

الزائر الغريب… والضابط الشاعر

في يوم من الأيام كنت في الشقة المظلمة بصدد مطالعة عدد خاص من مجلة “لومانتيه” لسان الحزب الشيوعي الفرنسي، تضمن جملة من المقالات الممتعة حول “الستالينيين الفرنسية”، سربه لي أحد الطلبة الذين تعودوا على زيارتي خلسة وكان يقطن بنفس النهج، وفجأة سمعت طرقا خفيفا متقطعا، فتحت الباب فإذا بي أمام شاب طويل القامة، ناصع البشرة، ضعيف البنية، زائغ العينين وقدم لي نفسه كطالب في كلية الحقوق يلاحقه البوليس، وتوسل لي نجدته بإخفائه في شقتي.

أدخلته بسرعة وقد كان من شيم التعاضد الطلابي أن أستجيب لطلبه. لا أخفي أني قبلت الأمر على مضض فقد توجست شرا من هذا القادم الجديد. كان لا يتكلم إلا نادرا ولا يبتسم مطلقا، تتراقص عيناه طوال اليوم بشكل مثير للريبة.

وذات مساء يوم أحد إصطحبني عادل كعادته إلى منزل عائلته في الشرقية وما أن وصلنا حتى لفت انتباهي وجود شخص يتابع خطواتنا إلتفت إلى الوراء فإذا بذاك الشاب الطويل الذي آويناه في شقتنا يطلق ساقيه للريح هاربا. لقد كان بوليسا تنكر في صورة طالب مضطهد وٱخترقنا.

من الغد صباحا كنت بمركز الشرطة أرد على ضابط الأمن، وعلى مكتبه العدد الخاص بالستالينيين الفرنسيين، فقد سرقه البوليس المتنكر ليقدمه للمركز كشهادة إدانة ضدي.

كان الضابط متعاطفا معي إلى حد أذهلني. وقد عرفت في ما بعد أنه من هواة كتابة الشعر وأصبح مع مرور الأيام شاعرا متميزا. رحمه الله . بعد انتهاء الحجر بٱنتهاء عقوبة الطرد عدت إلى الكلية “بورجوازيا صغيرا” في تصنيف اليساريين و “عدو الله” في تصنيف الإسلاميين.

* صحفي وكاتب.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.