الرئيسية » حديث الجمعة : حقائق عن حزب النهضة قبل الحكم وبعده (2)

حديث الجمعة : حقائق عن حزب النهضة قبل الحكم وبعده (2)

ذكّرنا في الجزء الأول من هذا الحديث ببعض الحقائق الثابتة عن حزب النهضة لعلها تحمل المتقاعسين من صقور النهضة على القبول بها وعدم مواصلة المراوغة؛ فلا بد من الكف عن اعتبار اللعبة السياسية خدعة أبدا أو لا تكون كما ظهر ذلك خلال سني الحكم الإسلامي للبلاد.

بقلم فرحات عثمان

فأملنا وطيد في أن تدّعم تلك العودة إلى الماضي القلةُ المستنيرة في صفوف هذا الحزب فتقبل بضرورة التغيير، لا للأساليب فقط داخل النهضة، بل وأيضا وحتما جانبا من الفكر السياسي الإسلامي الذي تحجر فغدا مخالفا لأبسط قواعد الديمقراطية. إذ بالإمكان تفعيل قراءة صحيحة للإسلام بربوع الخـضراء.

نحن نرى هذا من المتحتّم، وقد طالبنا به المرار العديدة، لأن فيه دوام النهضة كحزب سياسي، وفيه أيضا الفرصة السانحة لتمكين الإسلام الديمقراطي من النجاح بتونس؛ على أن يكون طبعا الإسلام الإناسي الذي نحلم به والذي تستحقه البلاد وشعبها.

لهذا، توجهنا في كتابنا قبل الأخير «الفتوحات التونسية. ما بعد الحداثة الإسلامية»* برسالة ختمت ذيل الكتاب عنوانها: « ألوكة أخيرة لراشد الغنوشي أو شاهدٌ لما بعد حداثة النهضة التونسيّة»؛ وهذه مقتطفات منها بدون الحواشي؛ مع العلم أن الكتاب، الذي حرصنا على إيصال نسخة منه إلى الشيخ الأستاذ، أزعجه  أي إزعاج إلى حد أن مصالح الحزب الإعلامية حرصت على منع الكلام عن المصنّف في الإعلام التونسي، بما فيه المستقل؛ لذا قلّ من تحدّث عن الفتوحات التونسية بتونس بخلاف البلاد العربية؛ وهذا من العجب العجاب!

النهضة والإسلام السياسي بتونس:

«لنختم الذيل بالعودة إلى الأقوال المسجلة عن الشيخ راشد الغنوشي… هي هذه المرة من كتابه الآخر في الحرّيات العامّة في الدولة الإسلاميّة… تقول، يا سيدي، حفظك اللّه: «الاستبداد هو منبع العنف والشرّ، وهو جزء من علاقات الحيف تفضي إلى مرض المجتمع.» وتضيف: «هذ الكتاب مؤسّس على قناعة تامّة بصلاح الإسلام لكلّ زمان ومكان، لأنّه كلمة اللّه الأخيرة، فهو دين الفطرة، المعرب عن أشواقها وحاجاتها الانسانية العميقة بما يجعله مؤهّلا لاستيعاب كلّ كسب معرفي وخبرة إنسانيين، لا يضيق بهما ولا يتناقض معهما… ». نحن لا نقول غير هذا، وما ورد في الخواطر والذيل لهو امتحان لزعيم الإسلاميين على صدق نيّته ونزاهة فكره.

فهل من المفيد التذكير بهذه المقابلة في الإسلام بين النفس الأمّارة والنفس المطمئنة التي يسهى عنها أهله، بينما لا بد من الانتباه إليها والتذكير بها ؟ إنّه من النفس الأمّارة الاعتقاد في إسلام مخادع، مقاتل، يخصي الحقوق ويقزّم الحريات. إيمان النفس المطمئنة إيمان مسامحٌ متسامحٌ يدعم الحقوق كلها ويمجّد الحريات بلا استثناءات، أخذا بما وصل إليه العقل البشري المحض.

أيا شيخي الكريم، ألا تمتهن النهضة اليوم ما كانت تعيبه على الأنظمة السابقة التي كانت سياستها «مجرد أمانيّ وألعاب بهلوانية ليست هي بحال العنصر الأساسي المحدّد في السياسة ألا وهو ميزان القوة »، كما قال زعيمها وذكّرنا به في الخواطر ؟ ألا يعتقد الإسلاميون أنّ القوّة الحقيقيّة هي قوّة الشعب وأنّه شعب حرّ أبيّ وليس فقط مسلما أو عربيا على أرض تونس ؟ وأين تقويمكم الصارم للأوضاع بالبلاد ونزاهة مقولتكم، وأين القبول بالآخر المختلف حتى وإن كان أقلية ؟ أليست هذه أخلاقيات الإسلام والسياسة الأخلاقيّة قبل أن تكون مبادئ الإسلام؟ لقد أكد البيان التأسيسي لحركة الاتجاه الإسلامي «على أنّ حركة الاتجاه الإسلامي لا تقدّم نفسها ناطقا رسميا باسم الإسلام في تونس ولا تطمع يوما في أن ينسب هذا اللقب إليها »، إلاّ أنّه يضيف أنّ الحركة «ترى من حقّها تبنّي تصوّرا للإسلام يكون من الشمول بحيث يشكّل الأرضيّة العقائديّة التي منها تنبثق مختلف الرؤى الفكرية والاختيارات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تحدّد هويّة هذه الحركة وتضبط توجهاتها الاستراتيجيّة ومواقفها الظرفيّة.»  هذا لغويّا من لحن الكلام ومن التصحيف الإرادي، وبلاغيا من البديع، وسياسيا من الدغمائية والماكيافيلية. أليس هذا اللحن معناه التضاد، أي أن تكون اللفظة الواحدة حاملة معنيين متضادين ؟ تلك قطعا الماكيافيلية السياسية التي تمرّر الدغمائية على أنّها من باب الأخذ بما شاع، بينما تغض النظر عن التفتّح الذي تدّعيه.

لقد بيّنت النهضة تعلّقها بالنظام الديمقراطي الذي ينبني لا على حقوق الأغلبية بل خاصّة على حقوق الأقليّة التي من شأنها أن تصبح أغلبية. فهلا مرّت من «الأرضية العقائدية »، وهي من باب النظرة العموديّة للأشياء التي ملتها الشعوب، إلى نظرة أفقيّة، فنّهتم بعقائدية أفقية هي ملك الجميع، لكل مواطنة ومواطن التوجّه نحوها حسب مكانه وزمانه وخطوته ومشاربه ؟… لقد ذكّرتُ بقولك إنّ «الحركة الإسلاميّة… دخلت بقوّة كأن ليس في البلد إسلام سابق، وكأنّها فاتح جديد يريد أن يعيد تشكيل الإسلام في تونس تشكيلا كاملا، ثمّ تبين بعد ذلك أن هناك تراثا إسلاميا في تونس ».

كما ألمعتُ إلى قولك إنّ «للمجتمع كلمته، وردّ فعله، وأنّه ليس عجينة طيعة وأنّ الشعب التونسي الذي يبدو مائعا ليّنا في الحقيقة له ثوابت .»  نعم، سيدي، نحن نشاطرك القول إنّ للمجتمع كلمته. إلاّ أنّك، كزعيم إسلامي، وبفضل ما تتميّز به من حسن نيّة وتأكيد على التغير وقبولك للتغيير، فقد دلّلت أنّ لاوعيك، أو ر بما هو لاوعي أنصارك، ما انفكّ يخضع لما يميّز تصرفات من انتقدتهم بنفسك.

فقد بيّنت، في نفس المقال،  أنّ ما نجحت النهضة في تجاوزه «هي مسائل لا يزال بعضها أو كثير منها موضع أخذ ورد لدى الكثير من الأوساط الإسلاميّة بعد قرابة عقدين». الحال نفسها بتونس، إذ لم تنجح بعد البلاد في مسيرة استبدال القوانين التي تعرضنا في هذه الخواطر للبعض منها. أمّا ما تمّ تغييره، بل «وما قُبل منها تمّ غالبا تحت مطارق الواقع القاهر ولم يستند إلى تأصيل وقاعدة فكرية ».

فهلاّ قبلت النهضة ما أكّدنا عليه من ثوابت صحيحة دينيا حسب مقاصد الشريعة كتحقيق المساواة في الإرث أو تحليل حريّة شرب الخمرة أو العلاقات الجنسية بين المتراضين من البالغين، بما فيهم المثليين؟ إذا فعلت ذلك، أتت عندها حقّا بهذا التأصّل الذي تتحدث عنه.

النهضة وسياسة الإسلام الصحيحة:

صدقتَ، يا شيخنا، حين قلت إنّ «طبيعة السلطة في تونس طبيعة انفرادية »؛ هذا لم يتغير. ف «التألّه، تأليه الدولة في تونس » يستمر بمنظومة الديكتاتورية و «المشروع السلطوي » للإسلام. وبقيت «مشكلة المجتمع التونسي مع الدولة » على حالها. وقلت أيضا، ونستسمحك التذكير به : «إنّ ثقافة الصلح والإصلاح تنطلق إذن من فكرة التواضع وترك الغرور والرغبة في التعلّم من الآخرين والجرأة والصرامة في نقد الذات من طريق تربيةٍ وإنعاش نفسنا اللوامة » .

إنّ ما يتطلّبه الوضع الراهن بتونس الجديدة لهو العمل بسياسة ما بعد الحداثة. وقد بيّنا علم السياسيين بالبديع وامتهانهم له كما يمتهن الشاعر علم القوافي دون معرفة، ضرورة، بالعروض. وقد قال المتنبي إنه فوق العروض ! إنّ سياسة ما بعد الحداثة، ما لم تكن أخلاقية كما تحتّمها عودة الروحانيات، لهي من امتهان الشعر كما تكلّم فيه الفرقان الذي خصّ الشعراء بسورة كاملة، هي من أطول السور كلمات. ألم يمر حزب النهضة من فكر التواضع إلى ضدّه، ومن ترك الغُرور إلى امتهان تصرف الغَرور، ومن نقد الذات إلى تنمية اللذات في التمسّك بالحكم وتصريفه لأغراضه باسم الدين ؟

لعلي أخطئ وإنما كان ذلك قبل ارتقاء سدّة الحكم. ولعلّ ما يدّل على عدم تعلّق النهضة بالديمقراطية تجربتها في الحكم. ولعل أفضل نقد لذلك ما جاء في كتابك عن تجربة الحركة الإسلاميّة حيث بيّنت في الحكم تهافت كلّ مقولاته وقناعاته ؟ من ذلك ما تذكره، يا شيخنا، عن «البراغماتية المميّزة لفكر الترابي » الذي غذّى فكرك.

فهل تعتّد اليوم بمثل هذه الدغمائية السودانية ؟ وماذا عن مرجعيتك الأولى، الخمينية ؟ حقّا، لقد مرّ شعب تونس الجريح من «النفاق البورقيبي وتعريته من تيجان الحداثة الزائفة » إلى نفاق وزيف جديدين باسم الإسلام هذه المرّة ! فكيف تقبل بهذا وأنت مؤتمن على الفهم السليم لدين القيّمة ؟ السؤال المطروح اليوم هو: هل حقّا «تطّورت الحركة الإسلاميّة التونسيّة من فكر شمولي إلى فكر تعدّدي ؟ » فعندما تقول «إنّ الإسلام روح هذه الأمة، فأ نّى لتحريكها وتعبئتها لمشروع دون المرور بالإسلام الذي أطلق للعقل العنان وحّرره من كلّ وصاية »، أتساءل أين الفعل لتأكيد هذا القول في الواقع بخصوص الحقوق والحريات التي تعارف عليها الضمير العالمي لكل حضارات البشر وسوّغها العلم فأصبحت من ثوابت الإناسة ؟ أين فتوحات الإسلام في ميدان المواضيع المسكوت عنها، وهي من ميزة هذا الزمان ؟ أليس الإسلام ملّة العصر بما أنّه خاتم الأديان ؟ فكيف لا يكون في مقدّمة المنافحين عن الحقوق الإناسيّة كلها دون أي مراوغة أو تحيّل ؟ ليس هذا من الأخلاق الإسلاميّة الصحيحة ! فأين شهادتك للعصر ؟

إنّك أقررت بأخذك بفكر مالك بن نبي واعتبرته من منظريك. أليس هو من يقول في، شروط النهضة : «نحن في العالم الإسلامي نعرف شيئا يُسمّي الوقت، لكنّه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة الزمن التي تتّصل اتصالا وثيقا بالتاريخ»؟ فهل عرفت النهضة التونسيّة الزمن اليوم، وهل أفاقت لوقع التاريخ الذي حطّ رحاله بتونس لنستيقظ من غفوتنا ونخرج من وقت العدم إلى الوقت الصوفي ؟

يقول المفكر الجزائري الفذ في مذكراته : «بدأت تتراءى لي تباشير عالم جديد وتاريخ إنساني جديد وهما يُطلاّن من القرن العشرين.

والمثقّف المسلم مسؤول على إشراك الإنسان المسلم في تشييد هذا العالم الجديد وعلى إدماجه إلى أبعد حدّ مع القوى الصانعة لتاريخه ». فأين مساهمة شيخنا وما هي طبيعتها ؟ أنت تعرف أيضا مقولة رجل الفكر الروماني، السياسي الباهر والفيلسوف الرواقي : تجري الرياح بما تشتهي السفنّ العارفة لطريقها. فما هو الطريق لتونس، سيدي راشد، أرشدك اللّه وأرشدنا لأفضل السبل مما فيه خير العباد أجمعين ؟ هذا يقتضي الخروج من فخّ الاستعمار الذهني (العلمي، حسب بن نبي)، ومن قابلية الإمبريالية، وهي ما نعتها بالقابلية للاستعمار، ومن علمويتنا وإسلامويتنا، وقبل كلّ شيء رفض وضع الزعيم أي القزم المتزعّم. فألقاب السلطنة في غير موضعها، خاصّة في عولمتنا الراهنة، مثل ادّعاء القطّ محاكاة صولة الأسد.

تحدّث بن نبي طويلا في أمراض الأنا ونبّه منها دون جدوى.وقد اعترف بصدق تحليله الزعيم الجزائري بن خدة، فقال إنّه «كُتب النجاح للأنا، وهو مصدر العناد والتعنّت والتسلّط. ذلك المرض الذي أصاب زعماءنا وأصمّ آذانهم عن كلّ معارضة، وجرّهم إلى التفرعن وهم لا يشعرون.

وإذا أضفنا إلى ذلك ما كان من رداءة وانعدام الكفاءة، لابدّ أن نتوقّع كلّ العواقب الوخيمة.»… وأنت، سيدي الشيخ، قد بينتَ في كتابك أنّ تلك هي أيضا مسيرتك، إلاّ أنّ، الظاهر، أنّك وقفت في منتصف الطريق، فهلا أكملته وقد توفر لك ما لم يحصل لقدوتك، أي مقاليد السلطة ؟ فالخوف الخوف اليوم أن تكون حالك مثل هؤلاء الذين قال فيهم كلاما لاذعا، لكنّها تبقى قولة حقّ، وللحقّ لسعة لا تُطاق. يقول بن نبي في، وجهة العالم الإسلامي، عن سبب اختياره أن يكون شاهدا على القرن : «ذلك أنّني أخشى أن أجد نفسي يوما كإنسان نذلٍ قضى حياته متنكّرا في صورة إنسان نزيه».

طبعا، نحن ننزه شيخنا عن مثل هذه الصفة. لكنّنا نرى أنّه لم يعد ممكنا للنزهاء، بعد شهادة بن نبي، التعلّق بورقة التوت الإصلاحيّة المعهودة في ثقافة إسلاميّة بارت وفقهٍ كسد، إن لم نقل فسد.

لنُعيد معا قراءة هذا المقطع من مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، وهو يُعد من أهمّ كتبه، ومن أواخر ما نشر: «إنّ المدرسة الإصلاحيّة منذ محمد عبده لم تنتبه إلاّ قليلا إلى أنّ الذات الإسلاميّة قد سقطت في هُوّة. لكن إخراجها من تلك الهوة يقتضي أحد أمرين: فإمّا أن يُبعث فيها نَفَس روحي جديد كما فعل لوثر Luther وكالفن Calvin في أوروبا، أو أن تحدث فيها ثورة فكرية كتلك التي قام بها ديكارت Descartes ، وبمعنى آخر: يجب إعطاؤها دفعا خلاّقا للأفكار بشكل من الأشكال.

ولم تتمكّن المدرسة الإصلاحيّة من الأمرين: فلا هي نجحت في إصلاح ولا قامت بثورة، بل وقعت هي نفسها في الهوّة وهي تصيح: إنها في الهوّة». أملنا أن يكون راشد الغنوشي، وقد مكّنته الأقدار من الفرصة السانحة، شاهدا هو الآخر كمثاله الجزائري، لا على القرن الجديد فقط، بل على ما بعد حداثة النهضة التونسيّة أيضا، سواء كانت حزبا أو حضارة.

 

* «الفتوحات التونسية»… من أجل فهم صحيح للإسلام

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.