الرئيسية » حديث الجمعة: في طبيعة الإسلام الروحانية التي أفسدتها السياسة

حديث الجمعة: في طبيعة الإسلام الروحانية التي أفسدتها السياسة

 

بقلم فرحات عثمان

إن التزمّت الذي يعصف اليوم بالإسلام عصفا فيكاد يذهب به في لب لبابه، أي سماحته وروح السلام فيه والحقوق والحريات، ليأتي من جهل عامة الناس لدينهم ولما عاشه من أحداث، إذ هم يكتفون بالشعارات وبتأويلات المتاجرين بالإسلام.

هذا الجهل هو الذي ينبغي القضاء عليه لتعريف الناس بحقائق دينهم حتى لا ينطلي عليهم دجل أهل السياسية الدينية الذين يجعلون من الحق باطلا لحاجة في نفس يعقوب.

الإسلام مطية خزعبلات السياسة:
هؤلاء يجعلون الإسلام سياسة لا دينا، فتنطبق فيه وعليه خزعبلات السياسة لا روحانيات الدين. مع العلم أن مثل هذه الخزعبلات رافقت الإسلام منذ نشأته، وتأزّمت مع وفاة النبي حيث ثبتت القطيعة بين الروحانيات الخالصة كما هي في الرسالة النبوية والدين الهجين، مطية أهل السياسة، كما أصبح حاله ما إن لبّى الرسول داعي ربّه.

لقد ظهر ذلك جليا جلاء الشمس في ربيعة النهار منذ وفاة الرسول الأكرم. فممّا يجهله عامة الناس ظروف موته، لا فقط ما يحيط بها من غموض بخصوص إمكانية الوفاة لأجل تسمّم، بل خاصة ما رافقها من صراع على السلطة بين أقرب أقربائه من الصحابة. هذا الذي يهمّنا اليوم الكلام فيه، لأنه يُلقي الضوء على ما آل إليه الدين من آلية للحكم والتسلط على رقاب الناس، بينما أتى سلاما، إذ جاء ليحرّر المؤمن من أي خضوع بشري، بما أن العبد لا يُسلم أمره إلا لخالقه، ما يضمن حريته تامة مع الناس؛ فلا تسلّط، أيا كان، باسم الإسلام الذي لا كنيسة فيه ولا بيعة!

نتكلّم في موت النبي هذ اليوم، إذ أن 8 جوان يوافق يوم وفاته سنة 632 مسيحية. نبيّن أوّلا أن الرسول الأكرم عند السلف الصالح كان مجرّد بشر، ولم يقع تقديسه في الدين، بل كان ذلك من لدن تجّاره. ونبيّن ثانيا أن السياسة واستعمال الدين لأجل الحكم ظهر منذ يوم وفاة المصطفى؛ وذلك ما أساء له وخلق الفواجع، إذ فقد الإسلام طبيعته الروحانية الأولى ليصبح آلية للحكم كما يبيّن ذلك تاريخه ويؤكده حاضره اليوم. فرغم أن الإسلام الأصيل يفصل الإيمان والمعاملات، بما أنه دين ودنيا، ولا يضع واسطة بين العبد وخالقه بما أنه لا أساقفة ولا كهانة فيه، أصبح الفقيه هو الفاتق الناطق بالدين، وأصبحت الدولة تحكم باسمه، وهذا من التجنّي الفاحش على دينٍ مدني بالطبع، لا يخلط بين الشعائر التي هي للحياة الخاصة والمعاملات التي لا دخل للشعائر فيها.

النبي بشر لا معبود :
أول ما يلفت الانتباه، هو أن المسلمين الأوائل لم يقدّسوا الرسول كما نفعله اليوم؛ إنه كان حامل رسالة، فهي التي تُقدّس؛ أما شخصه، فبقى محل الاحترام والتبجيل، لكن كبشر من شأنه أي يخطىء في أمور الدنيا. ثم إنه أيضا من شأنه أن يموت، فيُخلَف في الأرض. هذا ما سارع الأنصار إليه حال وفاة النبي، دون انتظار الفراغ من مراسم الدفن.

لقد علمنا كيف تنافست قريش والأنصار خلافة الرسول دون تبجيل قدره كرسول، فتُرك مع أهله يسهرون على غسله وكفنه، بينما حرصوا على تصفية أمور الدنيا، لا تمنعهم من ذلك أية قدسية شخصية للرسول، إذ بانتهاء مهمته الدينية أصبح بشرا من سائر البشر، تتغلب أمور الدنيا في ميراثه السياسي. هذا ما جعل القبائل العربية تثور، لا على الدين ضرورة، بل على تسلّط قبيلة باسمه، لما له من دور في إخضاع العربي. وقد بيّن ذلك ابن خلدون أتمّ بيان.

السياسة لا دخل للدين فيها:
كان اجتماع سقيفة بني ساعدة أفضل الدليل أنه لا دخل للدين في السياسة؛ فالاعتبارات الدينية تُركت، ومنها إمكانية استخلاف علي لصفته من أهل بيت النبوّة، لأجل الاعتبارات الدنيوية، ومنها شوكة قريش ووزنها في العرب. قس على ذلك موقف القبائل العربية من الدين إذ قبلت به على شرط عدم الخضوع للنفوذ السياسي.

أما ما كان من تصرّف الخليفة الجديد، أبو بكر، فذلك منه كرجل سياسة لا رجل دين، إذ رفض الموقف الديني الصحيح الذي كان لعمر، وهو الاعتراف بحرية القبائل مادامت باقية على الدين؛ وكانت الحال تلك، بما أنها رفضت الإتاوة في قالب الزكاة لا تعاليم الدين. ولئن كان موقف الخليفة الأول صائبا، فلا شك أن هذا لم يكن من الزواية الدينية، بل السياسية، إذ هو يؤسس لدولة، التي أوكد واجباتها بسط سلطتها وقمع كل عصيان للنظام المركزي.

نعم، تم ذلك باسم الدين؛ إلا أنه كان مخالفا لروح الدين الأصيلة ونصه في مقاصده؛ ولعل تاريخ الإسلام كان يختلف عمّا صار إليه وعمّا هو اليوم لو لم تكن فيه حروب الردة التي هي أولا وقبل كل شيء تلك الحروب السياسية التي مأتاها الخلط بين الدين والسياسة؛ وهذا ما سيفسد الإسلام منذ البداية. مثال ذلك الاعتقاد بتحريم الارتداد؛ وهو خطأ فاحش، ارتكبت به الجرائم ولا زالت ترتكب في حق الإسلام الصحيح.

الدين لا دخل له في السياسة:
إن لإسلام بصفته كإيمان روحاني يفصل الدين عن الدنيا فلا يخلطهما رغم صفته التمامية أي كشعائر دينية ومعاملات دنيوية. والدليل التاريخي على ذلك أن الخلافة، بما فيها تلك التي تزعّمها علي، ابن عم الرسول، تركت المدينة ومكة للنزوح بعيدا عن أقدس المقدّسات. وكان ذلك التأكيد البيّن على ضرورة التفريق بين الدين والسياسة حتى لا تشين السياسة لطبيعتها المخاتلة الدين في قدسيته وصفاء مبادئه. بذلك، كانت عاصمة الدولة الإسلامية الكوفة ودمشق ثم بغداد، إلا في الفترة الأولي، وهي انتقالية، كانت الدولة فيها في ظرف النشأة، فإذا الدين سياسة لا مجرد إيمان كما رأينا مع أبي بكر وعمر.

إنّهما قاما بدور الزعيم العسكري الذي ينشر الدين بالفتح، وليس هو إلا إمبريالية دينية، إذ الإسلام الصحيح، أي الروحاني، يمنع الاعتداء على الغير ولا يقر إلا ردة الفعل للدفاع عن النفس. ذلك لأن اعتناق الإسلام لا يكون إلا عن قناعة وبحرية تامة؛ وهكذا كانت الحال في بداية الإسلام قبل أن ينقلب سياسة، ما أفسد الدين الحنيف.

السياسة أفسدت الإسلام:
قلنا أن الإسلام منذ موت الرسول، مع الظروف التي تمّت فيها وفاته ثم ما تبع ذلك من تنازع على الحكم، فقد روحه السنية الروحانية من أجل التجارة السياسية التي تمّت به وباسمه. ولا أدل عن ذلك من رفض عمر ومن معه طلب النبي في آخر ساعات حياته أن يترك لهم كتابا لا يظلّون به بعده؛ فلعله كان يقصد حفظ الدين من السياسة.

أمّا الدليل الآخر الثابت، فهو هذا التاريخ المليء بالفواجع باسم الدين، وسنذكر أهمها، في حديث الجمعة القادمة، تلك الجناية السياسية الأولى في الإسلام المتمثّلة في قتل الخليفة الراشد الثالث، التي حدّدت ملامح الدين، إذ بها يمكن فهم ما يحدث اليوم من تعاسة في إيمانٍ أراده الله رحمة للعالمين فإذا به يصبح نقمة بفعل أهله قبل أعدائه.

لنذكر فقط هنا أن السياسة هي التي جعلت الخلافة الأموية تلعن على المنابر ابن عم الرسول ومن أحبّه، وهذا، كما قالته أم سلمة، زوج الرسول، لهو من باب لعن الخالق ورسوله، لأنهما أحبا عليّا. نفس هذا الإسلام السياسي الدعيّ هو الذي جعل شيعة علي بن أبي طالب تألهه، والخارجين عليه يقتلون النساء الحوامل والأطفال باسم الدين، رغم أنهم من أصحاب الجباه السود لكثرة الصلاة، إذ كانوا من عبّاد الإسلام ومن القرّاء. أليس هذا يذكّرنا اليوم بداعش للتي ما أتت بجديد؟ فهي تطبّق الفقه الإسلامي الذي نعمل به رغم أنه فسد في العديد من جوانبه!

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.