الرئيسية »    حصريّا/ المؤرّخ خالد عبيد يكتب:هيئة الحقيقة والكرامة و لُعْبة الضحك على ذقون التونسيين…

   حصريّا/ المؤرّخ خالد عبيد يكتب:هيئة الحقيقة والكرامة و لُعْبة الضحك على ذقون التونسيين…

                                 

بقلم:خالد عبيد – مؤرّخ مختصّ في التاريخ السياسي المعاصر

طالعتنا السيّدة رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة مؤخرا بتصريح إعلامي، كان بداية الانطلاق لحملات مَحْمُومة بيّنت مدى الحقد والكُرْه الذي يميّز التونسيين ويؤشر على مدى الهاوية التي نحن نَنْحدر إليها دون أن ندْري أو ندْري، فهل من المعقول والوضع في تونس على ما هو عليه الآن أن نطلق مثل هذا التصريح؟ والذي، والحق يقال، اعتبرناه يجسّم حقيقةً الخَلَل الذي أصاب مسارّ العدالة الانتقالية، وذلك منذ ما قبل تكوين هيئة الحقيقة والكرامة، خللٌ أُريد له أن يكون متعمّدا، لأنّ القائمين عليه آنذاك بعضهم من الجَهَلة ولا يفقهون شيئا من علم التاريخ الذي هو من أصعب العلوم الإنسانية حتى لا نقول أصعبها، والبعض الآخر نضيف إليه صفة أخرى مع الجهل وهي الحقد، فاعتقد جازما أنّه قد حان الوقت لإقامة محاكمة تاريخية لدولة الاستقلال وبدا مَزْهوّا كالطاووس لأنّه دخل متوهّما “التاريخ” من خلال تكريس  “التاريخ المُضَادّ” الذي لا وجود له إلاّ في مخيّلته الساذجة والبسيطة.

وبما أنّ الخلل موجود منذ البداية، فلا يمكن أن ينجرّ عنه إلاّ هذا الانحراف في مسار العدالة الانتقالية والذي سبق أن بيّناه في السنة الفارطة بالحجج والمؤيّدات، وكنّا نعتقد واهمين أنّ الطرف الآخر قد استوْعب جيّدا ما معنى علم التاريخ؟ ومدى قيمة المؤرّخ المختصّ؟ لأنّه ليست لدينا أيّة مشكلة شخصية مع أيّ كان، مشكلتنا الوحيدة كمؤرّخين هي في التطاول على اختصاصنا وفي الإصرار على ذلك، والظهور بمقام الذي يُعطي الدروس للمؤرّخين في كيفية القيام بعملهم، والأخطر من كلّ ذلك، استغلال المنابر الإعلامية لتجييش العوامّ من خلال محاولة توظيف التاريخ في صراعات جانبية لا دخْل لنا فيها، ولا نسمح أبدا بأن يقع الزجّ بعلم التاريخ فيها، لأنّنا ندرك مُسْبقا مدى  الخطر الجسيم لمثل هذا التصرّف الأرْعن.

وعليه، لا بدّ أن نقدّم بعض الملاحظات التوضيحية إلى الرأي العام حتى لا يقع التلاعب به  من جديد خاصّة وأنّ الرهان أصبح واضحا مثلما سنبيّن لاحقا:

– أوّلا في الجهل: وهو ليس بالعيْب باعتبار أنّها وباقي أعضاء الهيئة بعيدون كلّ البعد عن اختصاص علم التاريخ، إذ هي تجهل أنّ ما ذكرته بخصوص وجود أرصدة أرشيفية في فرنسا خاصّةً هو أمْر معْلوم لدى المؤرّخين منذ سبعينات القرن العشرين، وأنّ جزءا كبيرا منه قد تمّ استنساخه وجلْبه إلى تونس  منذ ذلك الوقت وإلى حدّ سنوات قريبة بفضل الرئيس الحبيب بورقيبة الذي كان وراء هذا القرار الذي تختصّ به تونس دون غيرها من البلدان العربية، وتجهل أيضا أنّ الجهة المخوّلة لذلك هي المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر وليس مؤسّسة الأرشيف الوطني كما ذكرت في تصريحها الإعلامي.

لكن لا تجهل أبدا أنّ هذا الأرشيف متوفر بهذا المعهد الذي يحتوي على حوالي 4   آلاف بكرة فيلم نسخها الأصلية محفوظة في مؤسسة الأرشيف الوطني وفق المواصفات العالمية لحفظ الأرشيف، وتحتوي هذه البِكْرات على حوالي 700 ألف وثيقة أرشيفية دأب على رصدها والإشراف على استنساخها من فرنسا منذ سنة 1982 عشرة من خيرة المؤرّخين وقتها لتوفيرها للباحثين في تاريخ تونس المعاصر، وهذه الوثائق هي منذ عقود على ذمّة الباحثين في التاريخ !

كما أنّ السيّدة رئيسة الهيئة تجهل أنّ هذه الوثائق الأرشيفية هي فرنسية ونِتَاج فرنسي حتى وإن كانت تتعلّق بتونس أو غيرها، وهو أمر بديهي، وهذه الهيئة تجهل أيضا أنّ الأرشيف في فرنسا لم يعد محكوما بقانون الاطّلاع بعد مرور ستين سنة، وذلك منذ سنة…2008، وتجهل أيضا أنّ هناك وثائق يمكن الاطلاع عليها وفق قانون متعارف عليه ووثائق أخرى لا يمكن الاطلاع عليها من الناحية القانونية إلاّ بعد تقديم مطلب معلّل لذلك، وهنا بإمكاني أن أشهد وأنا الذي تنقلت مرارا إلى هذه المراكز الأرشيفية التي تتحدّث عنها رئيسة الهيئة بأنّه لم يقع رفض أيّ مطلب قدّمته في الغرض وكذلك الأمر لزملائي من المؤرّخين بما فيه الاطّلاع على وثائق هامّة جدّا..ولم نكن في حاجة أبدا  إلى “الطرق الملتوية” التي تحدّثت عنها رئيسة الهيئة في تصريحها، لأنّه وببساطة غير موجودة بتاتا هناك.

– ونتيجة لهذا الجهل بالأرشيف وقواعده وبعلم التاريخ اختصاص التاريخ المعاصر، فإنّ هذا التمشي، الذي قامت به هيئة الحقيقة والكرامة منذ قيامها والمتمثل في رصد الأرشيفات التي تهمّ تاريخنا والموجودة في الخارج وخاصّة فرنسا، يُعدّ لا فائدة منه وخاصّةً هو إهدار للمال العام بالنظر إلى أنّ مثل هذا التمشي يتطلّب تكرار سفرات إلى الخارج أكثر من مرّة وما يستتبع ذلك من مصاريف كبيرة بالعملة الصعبة من حيث الإقامة…..بينما لو كلّفت هذه الهيئة عناء نفسها وطلبت منّا وقتها استشارةً لجنّبناها وجنّبنا المال العام كلّ هذه التكاليف العبثية، ما دام جزء كبير من الوثائق الأرشيفية موجودة هنا في تونس، وهي تدرك ذلك، إضافة إلى معرفتنا الدقيقة بما هو موجود خارج تونس ليس في فرنسا فقط بل في بلدان أخرى…

– وقد اقترن الجهل أيضا هنا بالرغبة في تجييش الجهلة و”البافْلُوفِيين” وذلك من خلال تكرار أكثر من مرّة أنّ فرنسا ما زالت تستعمر تونس في جانب إرثنا التاريخي والأرشيفي والإيهام خاصّة، – قد يكون عن جهل- ، بأنّ هذه الوثائق الفرنسية هي مِلْك تونس !

– ولم يكن هذا التجييش المقترن بالجهل صدْفةَ، بل هو تمهيد للأخطر على الوحدة الوطنية بين التونسيين وعلى السِلْم الوطنية وذلك من خلال ربْطه بالمُرَاوغة، فكلّ ما ذُكر بخصوص الأرشيف و”البطولات الوهمية” التي قامت بها هذه الهيئة على طريقة دُون كِيشُوت ونعني هنا خاصّة مسألة “الطرق المُلتوية” في الاطّلاع على الأرشيف والتي لم يكن توضيح الهيئة بكافٍ لتوضيح هذا الالتواء “المزعوم” بل ربّما ورّطها أكثر، قلت، كلّ ما قامت به إنّما هو تمهيد لـ”تفجير” فرْقعة خاوية هي تِرْدَاد لِمَا سمعناه منذ سنوات في خضمّ التجاذب السياسي حول أنّنا لا نمتلك ثرواتنا على قلّتها وأنّنا ما زلنا مستعمرين في بلادنا و… ثرواتنا ليست ملكا لنا..وهي ترّهات وأضغاث أحلام القائمين عليها لكن الخطير هذه المرّة أنّ رئيسة الهيئة تقوم بنجدة هذا الشق من السياسيين من خلال إعلانها “الاكتشاف” “التاريخي” عن وثائق خطيرة مثلما ذكرت عن “اتفاقيات خبايا الأرض اللي تعملت الكلّ في 1955 وصالحة لليوم هذا” على حدّ تصريحها.

وهنا ودون الدخول في مهاترات عقيمة مع من لا صفة له، بِوِدِّي أن تثبت السيّدة الرئيسة وهيئتها الموقرّة هذا الادّعاء وفق القاعدة القانونية: “البيّنة على من ادّعى”، فلعلّني وباقي زملائي لا نفقه شيئا أمام فَطَاحِلَة الهيئة ورئيستها؟ ولعلّنا ليست لدينا القدرة على الاطّلاع على الوثائق “بالطرق الملتوية” التي استعملتها الهيئة مع مصالح أرشيفية فرنسية؟ ! اطّلاعٌ مُلْتوٍ مكّنها من أن تصرّح إعلاميا بأنّ فرنسا تخزّن السلاح النووي في…بنزرت، وهنا لم أتمكّن من أن أتمالك نفسي كثيرا من فرط الضحك على ذقني…وذقن غيري من التونسيين.

في الأثناء، لم أفهم وفق عقلي البسيط ما دخْل معركة بنزرت في مسار العدالة الانتقالية حتى تجنّد لها الهيئة كلّ هذا الجهد خارج تونس من مالٍ وأشخاص ؟ جهدٌ تُرْجم على أرض الواقع من خلال التوضيح الذي نُشر على موقع الهيئة بتاريخ 9 مارس الجاري وفيه نقْر على رابط وثائقي ، وكنت أتخيّل أنّني سأكتشف وثائقيا غير معروف بالمرّة، فإذا بي أجد عملية دمج لشريطين وثائقييْن في شريط واحد.

وبإمكان المبتدئ الذي يعيش في كوكب آخر أن يتفرّج عليهما وذلك بِنَقْرٍ بسيط على كلمة “بنزرت” بالفرنسية في هذا الموقع الفرنسي المعروف حتى يشاهد هذيْن الفيلميْن أحدهما يمتدّ على 14 دقيقة والثاني حوالي 10 دقائق، كنت أظنّ واهماً في البداية أنّ هذا الوثائقي قد اقتنته الهيئة من هذا المركز الفرنسي للأرشيف السمعي البصري، لكن تبيّن أنّه مجرّد تحْميل هُوَاة للرابطيْن ! وكان شعوري وقتها أنّه قد تمّ “استبْلاهي” فما بالك بالإنسان العادي؟ !

فإذا كانت الوثائق “المكتشفة” و”الخطيرة” عن ثرواتنا الباطنية على شاكلة هذا الفيلم الوثائقي فيا خيبة المسعى ?!

والخطير هنا في نظري، أنّ هذا الفيلم الوثائقي الفرنسي بثته فرنسا بين أواخر شهر جويلية 1961 وسبتمبر 1961، بعد الحرج الذي أصبحت عليه عالميا، جرّاء تدويل قضيّة بنزرت في المحافل الأممية، وما اسْتتبع ذلك من ضرورة توضيح وجهة النظر الرسمية الفرنسية لدى الرأي العام الفرنسي والعالمي، فكانت هذه الأفلام الوثائقية عبارة على وسائل دعائية لتبرير الإصرار الفرنسي على البقاء في بنزرت، وإظهارها في موقف المدافع عن نفسها الذي اضطرّ للدفاع عن نفسه أمام جموع “المهاجمين ” من مدنيين وعسكريين دون القيام بأيّة مجزرة سوى سقوط بعض الضحايا القلائل اضطرارًا ؟ !

وهنا بإمكاننا أن نفهم هذا الموقف الفرنسي لأنّه يدرك مسبقا أنّه ارتكب جريمة حرب في حق التونسيين وقتها، لكن ما لم أفهمه إلى حدّ الآن ما دخْل صراع بين دولتين، واحدة تريد استكمال سيادتها على الأرض وهي تونس وأخرى مستعمرة لهذه الأرض وترفض الجلاء عنها فحدثت المواجهة، قلتُ ما دخْل هذه الحرب بين دولتيْن  في مسار العدالة الانتقالية الذي يهمّ “الانتهاكات الجسيمة” لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الدولة بحق مواطنيها؟ !

حقيقةً  لم أفهم !

فهل هذا المسار يشمل الجرائم الفرنسية في تونس منذ سنة 1955 إلى حدّ آخر 2013؟ حقيقةً أريد أن أفهم ! لأنّه، إذا العدالة الانتقالية تشمل فرنسا فلماذا لم يقع التطرّق إلى جرائمها أيضا بحق أهلنا في ساقية سيدي يوسف وعلى كامل الحدود التونسية الجزائرية منذ سنة 1955؟ ولماذا لم يقع التطرّق أيضا إلى جرائمها بحق أهلنا الأشاوس في الجنوب التونسي منذ سنة 1955 وخاصّة سنة 1961 في معارك الجنوب المجهولة من أجل تحرير الأرض التونسية من الفرنسيين؟ !

وهنا أرجو أن أكُون مخطئا في تخميني الذي ذهب بي بعيدا فاعْتقدَ أنّ أعضاء الهيئة ورئيستهم يروْن في معركة بنزرت “إرضاءً لنرْجسية بورقيبة “كما قال زعيم حزب سياسي ذات يوم عندما كان حزبه في الحكم ومازال، وهو الذي يقف بقوّة وراء وجود هؤلاء الأعضاء الآن، وحزْبُه هو الذي يدافع عنهم الآن بشراسة، بالرغم من أنّ هذا المسارّ الانتقالي للعدالة في شكله الحالي بات واضحا الآن أنّه ليس إلاّ انتقاميا، غايته إعمال معاول الهدم في أُسس دولة الاستقلال لإحداث الفراغ تمهيدا لنشر ثقافة “الجهل المقدّس” التي نعيش منذ مدّة على وقْعها.

أرجو أن يكون تخميني خاطئا حتى لا تُوسم الهيئة بالانحياز إلى أطراف معيّنة وبأنّها تمارس نمطا جديدا من العدالة الانتقالية سيُدرّس لاحقا وهو كيفية تطويع هذا المسار من الانتقالية إلى الانتقامية؟ وحتى لا يتأكّد ما يتهمه بها “خصومها” من أنّها لا تلوي على شيء إلاّ محاكمة دولة الاستقلال والرئيس الحبيب بورقيبة؟

في الأثناء، لديّ يقين بأنّ هذه “الفرْقعة” غايتها هي الإلهاء عن الجدل المحموم بخصوص حصيلة هذه الهيئة طيلة أربع سنوات وخاصّة مدى قانونية قيام الهيئة بزيادة سنة إضافية في نشاطها من عدمه وما ستشهده أروقة البرلمان في هذا الصدد لاحقا، وهذا يندرج ضمن ما يسمّى بالخطّة” الاستباقية” التي طبّقها الأمريكان في غزْوهم للعراق سنة 2003، وتحاول الآن الهيئة استنساخها من خلال التلاعب بمارد الحقد والكراهية المُستبْطن لدى جزء لا بأس به من التونسيين اعتمادا ومرّة أخرى على توظيف التاريخ.

وهذا التوظيف بالذات هو الذي دفع زملائي ودفعني الآن كي أتفاعل معه بالرفض، وهو تأكيد مرّة أخرى بأنّ تونس لا يمكنها أن تنهي نهائيا ما أسميته منذ مدّة بجراح الذاكرة إلاّ من خلال “الطريق الثالث” ، طريق يبتعد نهائيا عن التخوين أو التقديس أو التكفير أو التأليه، طريق عماده أنّ لدى التونسيين تاريخ وحيد يجمعهم بإيجابياته كي يُرَاكِموا عليها وبسلبياته كي يتعظوا منها حتى لا تتكرّر الآن فتكون شرّا مستطيرا عليهم وعلى كلّ من ينفث بكلّ قوّة من أجل إحْياء الأحقاد، طريقٌ يعبّده حَصْريًا المُتضلّعون في اختصاص التاريخ المعاصر، ما عدا ذلك سينْهار الطريق على من فيه في انتظار تساقط كلّ البُنْيان لا قدّر الله !

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.