الرئيسية » أزمة حكم أم أزمة من يتولاه..؟

أزمة حكم أم أزمة من يتولاه..؟

لم نسمع عن رئيس الجمهورية أنه علّق في الأيام الأخيرة على ما يجري في تطاوين وهو ربما أفضل ما في الأمر.

بقلم: سامي بن سلامة

ففي آخر تدخل له تحت ضغط الأحداث كان أجبر الحبيب الصيد رئيس الحكومة السابق على امضاء اتفاقات أثقلت كاهل الدولة وعجزت عن الوفاء بها. أما عن الأحزاب السياسية فلا تغيير يذكر إذ تراوحت تدخلاتها بين الصمت المطبق وبين الشعوذة السياسية وانعدام المسؤولية. منها من تناسى أنها كانت جزءا من السلطة الحاكمة طيلة 3 سنوات ولم ينتفع منها المواطن لا شمالا ولا حتى جنوبا ومع ذلك تواصل سياسة استغباء الشعب ومنها من جنحت سفنها لتحملها الرياح حيث لا تدري، فانبرت تتخذ الموقف ونقيضه بينما غلبت على مجملها الروح الانتهازية وعازتها الشجاعة عن وضع النقاط على الحروف للتصريح بأن المطالب الثلاثة الرئيسية لاعتصام تطاوين مبالغ فيها وغير مقبولة أصلا فضلا أنها غير واقعية وغير قابلة للتحقيق.

ومع التأكيد على شرعية الاحتجاجات الشعبية ووضوح أسبابها وضرورة المحافظة على سلميتها وتخفيض سقف مطالبها فإنه لا يجب كذلك إغفال الوضع المتردي للمالية العمومية والاعتراف بأن الدولة شبه مفلسة لا تقدر على عمل الكثير.

يبقى الموقف اللافت في هذا الخضم هو موقف حركة النهضة وهي تشكل جزءا من الحكم ومن الحكومة، إلا أن شبهات تغذية الاحتجاجات ما انفكت تحيط بها.

حكمت الحركة تونس مدة 3 سنوات ولم تكشف لنا عمّا يختزنه ترابها من ثروات ولم تحسن ظروف عيش أهلنا في تطاوين وفي بقية مناطق الجمهورية. لم تنجز الحركة باستثناء ربما تركنا نعيش انعكاسات سياساتها وسياسات من سبقها ولحقها منذ تسلمت السلطة في ديسمبر 2011.

في ظل هذا الوضع المتأزم اكتفت حكومتنا وهي لا تملك لا برنامجا ولا خططا واضحة بسياسات ردود الأفعال وبقرارات متخذة على عجل ويراد من رئيسها غير المدعوم حزبيا بأن يطفئ النيران المشتعلة ولو بملابسه.
يخشى أن تدخل تونس قريبا في دوامة كبيرة من الاحتجاجات العفوية وغير العفوية تخرج الأمور عن السيطرة وقد تتفتق عبقرية البعض عندها إلى دعوة الجيش إلى تولي الأمور جهويا أو وطنيا.

يدفع البعض الأمور إلى أقصاها للتعبير عن ذاته أو رغبة منه في العودة إلى السلطة بينما يرغب البعض الآخر في إسقاط الحكومة الفاشلة للحصول على وزارات اضافية ويدفعها البعض الآخر في الاتجاه نفسه للتخلص من مسؤولية الفشل في وضع حلول طالما وعد بها ولم يتحقق منها شيء. يخسر المواطن التونسي في نفس الوقت شيئا فشيئا قدرته على لتحمل فيهجر السياسة ويلعن الحرية والديمقراطية ويؤهل تدريجيا للترحيب بأي مغامر يعده بتوزيع السمن والعسل وبعض براميل البترول.

يدور البلد برمته في حلقة مفرغة نتيجة فشل جميع من تسلموا الحكم بعد الثورة في تحقيق الحد الأدنى وأصبح لزاما على جميع الوطنيين أن يعترفوا بحقيقة أنه لا وجود لحلول سحرية وأن عليهم البحث عن مكمن الخلل.

وهو لا يكمن فيمن حكم ويحكم ولو أن نصيبه من المسؤولية غير هين والا لكانت انتخابات تشريعية سابقة لأوانها قد تمثل حلا ممكنا ولإعتبرنا أنها ضرورية لاختيار أغلبية جديدة تحكم البلاد ببرنامج واضح بعيدا عن التوافقات المغشوشة بين تجار الوطنية وتجار الدين.

أعتقد أن أية انتخابات سابقة لأوانها أو في موعدها الدستوري لن تغير من الأمور شيئا فقد استفحل الداء فضلا عن أنها قد تعيد نفس الأغلبية أو أغلبية مغايرة من أحد الحزبين الحاكمين وقد جربناهم منذ سنوات ولم يصحّوا.

إن الإشكال الرئيسي الذي يعطل حركة البلد مؤسساتي بالأساس ويتمثل في الدستور ذاته وقبل ذلك في نظام الحكم كما سطر في فصوله وفي النظام الانتخابي الذي أعد لكيلا يسمح بإفراز أغلبية واضحة تتيح لأي كان حكم البلد والخضوع للمحاسبة على أداءه.

عانينا جميع طيلة عقود من تأثيرات النظام الرئاسي بنسخته الرئاسوية، وقد شلّ حياة البلد السياسية ووصل إلى حد القضاء عليها مع وصول بن علي للسلطة. وهو نظام وإن حقق بعض المطلوب منه اقتصاديا واجتماعيا في مرحلة معينة إلا أنه أخفق في إقرار الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي على السلطة وأدى إلى استفراد فرد واحد بها. كان ذلك دافعا مهيمنا لدى بعض مكونات السلطة التأسيسية لاستبعاد مثل ذلك الخيار في الدستور الجديد مع أنه عدم تناسي رغبة البعض المحمومة في الهيمنة وفي إرساء حكم الأحزاب.

نعيش اليوم في ظل نظام “ديمقراطي” لم تستقر أسسه بعد ولم تعد الظروف التي كانت تسمح باستفراد الحاكم بالسلطة متاحة لأي كان. فقد تحرر الشعب التونسي واسترجع مواطنته المسلوبة ولم يعد يخشى الانفراد بالسلطة. ومن الممكن التفكير في إعادة تجميع أشلاء السلطة التنفيذية المشتتة وإعادة إحياء النظام الرئاسي وفق قواعد دستورية واضحة تمكن من منح صلاحيات واسعة للرئيس تحت مراقبة صارمة من البرلمان مع التخلي عن منصب رئيس الحكومة.

علينا في نفس الوقت اعتماد نظام انتخابي جديد يتخلى عن نظام القائمات الذي يجمع لنا الغث أكثر من السمين لاعتماد نظام يقوم على الاقتراع على الأفراد على دورتين إن لزم الأمر.

همش نظام القائمات الكفاءات وكرس الرداءة ليفلت جميع المنتخبين من المسؤولية الشخصية ومن المحاسبة، فوضع البلد تحت سيطرة ما يسمى بتنسيقيات الأحزاب وهي بالمناسبة أجهزة غير منتخبة تسلب أعضاء البرلمان صلاحياتهم ولا تمكن من تأسيس حياة ديمقراطية سليمة بل قد تحيل الحكم وتسلمه إلى عصابات المال الفاسد كما نشاهد بأم أعيننا حاليا.

إن دستورنا من جانبه وإن كان يحوي قواعد جيدة تحمي حريات المواطن وتكفل له حقوقه إن طبّق بعيدا عن التأويلات المصلحية المنغلقة فكريا وسياسيا إلا أنه يضم كذلك قواعد سيئة لا تصلح لبلد صغير مثل تونس.
وبقطع النظر عن خطورة مسألة تقسيم البلاد إلى أقاليم مع استسهال البعض الخوض في مواضيع مثل الانفصال والفيديرالية، فإن فكرة تعميم الحكم المحلي واعطاء صلاحيات موسعة للجهات والمحليات وإن كانت فكرة جيدة في حد ذاتها في إطار نظام ديمقراطي مستقر وفي حالة زوال الخشية من فشل التجربة الانتقالية إلا أنها فكرة سيئة تماما في وضعية انتقال ديمقراطي هش أفرز دولة ضعيفة ومترددة وخاضعة لأهواء وتمويلات أجانب وأقارب وعلينا كأضعف الإيمان الحذر منها.

فقد فشلت الدولة في تحقيق التنمية في كامل المناطق رغم الامكانيات المتاحة لها منذ الاستقلال ولا تهمنا هنا الأسباب والمسببات لكن المهم ألاّ ضمان أن تنجح التجربة جهويا في المستقبل مهما وضع من امكانيات.
مردّ ذلك عوامل مزمنة منغرسة في تركيبتنا الجماعية ولكنها شديدة الوضوح أهمها تلك الثقافية والحضارية. لم نكتسب بعد ثقافة العمل والانتاج ونعشق الفوضى ولا نعرف معنى للتنظيم ولا نعترف بالقواعد حتى تلك التي نساهم في وضعها ولا نحترم القوانين ونحترم من يخالفها. نحن هكذا، ومن يحكمون اليوم في المركز لا يختلفون عمن سيحكمون غدا في الجهات.

نخشى جديا من مافيات جديدة تستولي على السلطة جهويا وتتولى الأمور كما يحلو لها بدون امكانية التدخل من السلطة المركزية التي قد تصبح عاجزة عن السيطرة على الوضع.
إن الموضوع شائك لا شك في ذلك لكن لعل البدء التفكير في حلول عملية له يمثل أيسر السبل لفتح حوار يتيح الخروج من هذه الأزمة وعدم الدخول في أخرى أعمق ولو بعد حين.

 

*المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.