الرئيسية » تونس الجديدة : الخيارات الاقتصادية في ظل أزمة التشغيل

تونس الجديدة : الخيارات الاقتصادية في ظل أزمة التشغيل

لا يمكن مواصلة الحديث في تونس عن عدالة إجتماعية في غياب آليات لخلق الثروة وآليات لإعادة توزيعها بما يحقق النمو الاقتصادي والرخاء الاجتماعي فالغاية الأولى من الازدهار ليست المنافسة واكتساح أسواق جديدة بل تلك وسيلة لتحصيل الثروة التي تعود بالفائدة على الشعب. وفي ظل عجز الدولة الراهن عن الانتدابات بالوظيفة العمومية لا يمكن مواصلة إيهام المعطلين بفتح فرص عمل عن طريق الانتداب بالملفات أو بالمناظرات لوضع حد لظاهرة البطالة وهي غير قادرة على امتصاص الكم الهائل من المعطلين. ولذلك وجب التوجه للقطاع الخاص و تحسين ظروف الاستثمار و خلق الثروة.

بقلم أنور بن حسين *

عرفت تونس منذ الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية بتفعيل المادة 80 من الدستور ليلة 25 جويلية 2021 حراكا شعبيا واسع النطاق طالب بإسقاط الحكومة التي لم تستجب لانتظارات الشعب وواصلت سياسات التهميش الممنهج في غياب حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة والعجز على السيطرة على الوضع الصحي المتردي بتفشي فيروس كورونا وارتفاع عدد الوفيات. كما أن الحكومات المتعاقبة منذ اندلاع الثورة إلى اليوم لم تقدم بدائل لتغيير الواقع التونسي نحو الأفضل كما غابت البرامج العملية لإنعاش الاقتصاد المنهك وإخراج البلاد من الأزمات الخانقة والعثرات المتتالية.

تصحيح المسار السياسي و الاقتصادي

كان هذا الإعلان مفصليا في تاريخ تونس المعاصر, إذ أن ما قام به الرئيس قيس سعيد والذي وصفه البعض بالانقلاب رغم أنه لقي تأييدا جماهيريا واسعا هو انتقال من مرحلة الركود إلى مرحلة إعمال العقل من أجل تحسين الأوضاع وتصحيح المسار السياسي الذي ظل لعقد كامل يتخبط في مستنقع الصراعات الحزبية والحسابات الضيقة وعجز حركة النهضة والائتلاف الحاكم عن الإتيان بالحلول والبرامج الواعدة.

الحركة الجريئة التي قام بها رئيس الجمهورية كرجل دولة أحس بحجم الأمانة التي على عاتقه هي محاولة لإعادة بناء ما وقع هدمه في السنوات الماضية واستشراف مستقبل زاهر للتونسيين سواء من خلال تغيير النظام السياسي الذي اثبت فشله وعدم قدرته على الاستجابة لصيرورة التطور أو من خلال محاسبة الذين أجرموا في حق الشعب وساهموا في انهيار الاقتصاد وتدني القدرة الشرائية للمواطن.

هذا الإنجاز السياسي المفاجئ جعل أصحاب الشهائد العليا والمعطلين عن العمل يجددون أملهم بعدما وقع إجهاض تحركاتهم وتناسي مطالبهم والغرق في الصراعات الضيقة وذلك ما كنا نراه في البرلمان التونسي والمشهد السياسي المتأزم الذي لا يعطي الملف الاجتماعي أولوية مطلقة في حين أن المفروض أن الشعب انتخب برلمانا وحكومة للدفاع عن مكاسبه وتحسين أوضاعه.

نحو نظام رأسمالي وطني يضمن للطبقة الكادحة حقوقها

كما هو معروف في كل مرحلة جديدة لا بد من إعادة ترتيب البيت من الداخل وإرساء مناهج جديدة وسياسات تتماشى مع متطلبات المرحلة وانتظارات الشعب الذي هو صاحب الشرعية وصاحب السيادة في نهاية المطاف. حيث أن الشعب التونسي يتأمل القادم على أحر من الجمر وذلك لمعاناته من التهميش واللامبالاة في الحقبة الماضية. ومن هذا المنطلق وجب وضع خارطة طريق تعمل على تفكيك الواقع بكل متناقضاته وإعادة البناء على أرض صلبة لضمان الاستقرار السياسي وتحقيق النمو الاقتصادي والتوازن الاجتماعي الذي يحلم به كل مواطن تونسي.

و بما أن تونس تعاني مأزقا اجتماعيا شائكا وهو البطالة التي ارتفعت في السنوات الأخيرة لتصل إلى 18 بالمائة نظرا لعدم توفر أرضية ملائمة للاستثمارات وتراجع الميزان التجاري واتباع سياسة التداين التي أثقلت كاهل الدولة. وعلى ضوء هذه المشاكل فإن الحكومة القادمة مطالبة بإيجاد حلول ووضع خارطة طريق اقتصادية تقطع مع الماضي ومع الامبريالية المتوحشة نحو نظام رأسمالي وطني يساهم في الحفاظ على المكاسب الوطنية ويضمن للطبقة الكادحة حقوقها.

وأول ما يجب الإشارة إليه هو ضرورة معالجة مسألة الاقتصاد الموازي وإدماجه في المنظومة الاقتصادية الوطنية مما يساهم في ضخ واردات جبائية إضافية لخزينة الدولة, ومراجعة القانون الضريبي الخاص بالمؤسسات المتوسطة والكبرى وخلق آليات بديلة ومعاصرة تقوم على الحوكمة الرقمية المفتوحة والمحاسبة الشفافة وتفعيل دور الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية والتصدي لظاهرة التهرب الضريبي.

كما على الدولة التونسية أن تتوجه نحو الاقتصاد الذكي من خلال فتح أفاق للاستثمار في الصناعات الخفيفة والذكية وهو الأقرب إلى الواقع ويمكن تحقيقه إذا توفرت الإرادة السياسية وهو ما يخول لتونس خلق أسواق خارجية جديدة وتحقيق الاكتفاء الذاتي بدل الاعتماد على الاستيراد العشوائي الذي أغرق السوق الداخلية وأهدر مخزون العملة الصعبة الذي يمكن توجيهه لقطاعات أخرى ضرورية.

بالإضافة إلى ذلك أصبحت الحاجة ماسة لإعادة هيكلة القطاعات المتضررة مثل قطاع الخدمات الذي يمثل 43 بالمائة من الناتج المحلي الخام الإجمالي ويمثل 49 بالمائة من اليد العاملة الإجمالية والذي ساهم في زيادة نسبة البطالة خاصة بالنسبة للعاملين بالقطاع السياحي.

ولا يمكن غض النظر عن القطاع الفلاحي الذي يعد أحد ركائز الاقتصاد التونسي الذي يحتاج إلى رؤية جديدة ترتكز على تعصير القطاع الزراعي ومعاضدة جهود الفلاحين في حماية المحاصيل من الإتلاف والأمراض. ويمكن للقطاع الفلاحي أن يكون مصدرا لمواطن شغل قارة من خلال ربط المنتوج الفلاحي بالصناعة الموجهة للفلاحة (Externalité Positive) وذلك بتركيز مصانع تعليب ونوى إنتاج للمواد الغذائية تكون قريبة من المناطق الزراعية لتحسين الوضع الاجتماعي في الأرياف ولخلق حركية اقتصادية بالمناطق الداخلية.

ممكنات التشغيل في المنظومة الاقتصادية العادلة:

لا يمكن الحديث عن عدالة إجتماعية في غياب آليات لخلق الثروة وآليات لإعادة توزيعها بما يحقق النمو الاقتصادي والرخاء الاجتماعي فالغاية الأولى من الازدهار ليست المنافسة واكتساح أسواق جديدة بل تلك وسيلة لتحصيل الثروة التي تعود بالفائدة على الشعب.

وفي الوقت الراهن وفي ظل عجز الدولة عن الانتدابات بالوظيفة العمومية لا يمكن مواصلة إيهام المعطلين بفتح فرص عمل عن طريق الانتداب بالملفات أو بالمناظرات لوضع حد لظاهرة البطالة وهي غير قادرة على امتصاص الكم الهائل من المعطلين. ولذلك وجب التوجه للقطاع الخاص الذي بدوره من المستحيل أن يستجيب لانتظارات الباحثين عن عمل بالطرق الهشة للتشغيل نذكر منها عقود الإدماج في الحياة المهنية وعقود الكرامة ,ولهذا أصبحت هناك ضرورة ملحة لتدخل الدولة لإصلاح القطاع الخاص سواء من خلال التشجيع على بعث المشاريع بتقنيات مستحدثة بعيدة عن البيروقراطية والشروط المجحفة والمعقدة أو من خلال الانتدابات المباشرة والجدية والتزام المشغل بالحفاظ على الرأس المال البشري وتكوينه وإدماجه في الحياة العملية. وقد كان القطاع الخاص في الثمانينات والتسعينات رافدا لجهود الدولة, بينما أصبح الخواص اليوم يستغلون اليد العاملة البسيطة ويعبثون بالإطارات المتخرجة وانتدابهم بصفة وقتية لسد بعض الشغورات والإستفادة أكثر ما يمكن من عروض الدولة.

ويمكن تقديم بعض المقترحات التي تساعد على حفظ كرامة المعطل عن العمل ومنها:

  • اقتطاع خصم من أجور الوظيفة العمومية لتوفير منح شهرية وقارة للمعطلين من أصحاب الشهائد العليا تعادل الدخل الفردي الأدنى واقتطاع نسبة من مداخيل الخواص يمكن إدماجها في الأداء الضريبي لخلق صندوق لبعث المشاريع لخريجي الجامعات. وليس الهدف من هذا اثقال كاهل الدولة بل لدفعها على وضع برامج جدية وفاعلة للتشغيل لأن الوضع الحالي لا يحمل الدولة أي مسؤولية تجاه هؤلاء لأنه ليس هناك أي التزام مادي.
  • تفعيل قانون 38 للانتدابات الاستثنائية لمن فاقت بطالتهم 10 سنوات وضرورة تفعيله في اقرب الآجال فقد قام أصحاب الشهائد العليا المعطلين بعديد الاحتجاجات التي عادة ما يقع الالتفات لها ظرفيا لامتصاص غضبهم دون تقديم برنامج عملي وتقدمت مؤخرا في نفس الغرض الجمعية الوطنية لخريجي الجامعات المعطلين والمعنيون بقانون 38 بمراسلة رئاسة الجمهورية بتاريخ 20 سبتمبر 2021 مطالبين فيها ضرورة التعجيل بتطبيق القانون الذي أصبح نافذ المفعول بعد إصداره بالرائد الرسمي بتاريخ 19 أوت 2020 وإيفاء الدولة بوعودها إذ أن هذا القانون مرتبط بفترة زمنية محددة ضبطت بأربع سنوات مرت منها سنة كاملة دون أن يقع تطبيقه على أرض الواقع.
  • ضرورة صياغة الأوامر الحكومية لتقديم تعريف دقيق للمعطل التونسي وماهي واجبات الدولة تجاهه كمواطن.
  • تفعيل القانون عدد 30 المؤرخ في 30 جوان 2020 الذي يتعلق بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني ويضبط هذا القانون الإطار المرجعي ويحدد أهدافه وسبل تنظيمه والآليات الكفيلة بتطبيقه. ومن أهداف هذا القانون هيكلة الاقتصاد غير المنظم والعمل على إدماجه في السوق وليكون خاضعا لعملية العرض والطلب والذي يساهم في تحقيق جودة الحياة لأفراد المجتمع من خلال تضافر الجهود وتوفير السبل الكفيلة بخلق مواطن شغل تعود بالفائدة على أكثر عدد ممكن من الأفراد.

* كاتب وناشط مدني.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.