الرئيسية » تونس : ديمقراطية المَحّار أم ديمقراطية السلطعون؟

تونس : ديمقراطية المَحّار أم ديمقراطية السلطعون؟

الديمقراطية لا يمكن اختزالها في عمليات انتخابية مزورة بالتمويلات الفاسدة.

دون أدنى شكّ أنّ ما مرّت به البلاد التونسية منذ عشر سنوات فيه الكثير من الممارسة الديمقراطية من قبيل حريّة الرأي والإعلام، إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية بصفة دورية، و التداول الديمقراطي على السلطة… لكنّ في المقابل هل إنّ هذه الأمور كافية أم ما زال الكثير على الطريق؟

بقلم ميلاد خالدي *

الديمقراطية الاجتماعية

فعلا الديمقراطيّة التي يطلبها الشعب تتجاوز ما ذكرته آنفا لتتضمّن مسائل حياتية أخرى من بينها التوزيع العادل للثروة، العدالة الاجتماعية، الحقّ في الماء الصالح للشراب، الحقّ في التغطية الصحيّة، الحقّ في العمل، الحقّ في الرفاهية، الحقّ… الحقّ… الحقّ… هو بمعنى آخر الديمقراطية الاجتماعية التي غابت عمدا وليس سهوا وهذا هو كعب أشيل موطن الضعف والقصور والذي في الأغلب سيكون سبب هلاكها وتحلّلها كما هو الحال بالنسبة لهذا المسار الديمقراطي المتعثّر والآيل للسقوط.

حسب تاريخ الشعوب فإنّ الديمقراطية العارية والجائعة و المُتسوّلة لن تثمر ولن تدوم طويلا لأنّ الصندوق والتصويت لا يُسمنان ولا يُغنيان من جوع، لا سيّما عندما تكون الطبقة السياسية الحاكمة انتهازية و وصولية وهذا ما حصل في الآونة الأخيرة: استحقاق انتخابي كلّ خمس سنوات بيد آنّه مرفوق بوعود انتخابية كاذبة وزائفة وتسلُقيّة، كان للمُهرّبين والمافيوزيين والهاربين من أروقة العدالة النصيب الأكبر، وتمّ ذلك كلّه باسم الديمقراطية. فقد تحوّلت، إذن، الديمقراطية من حكم الشعب إلى حكم الحزب الحاكم بأمره والناهي بالأصوات التي تحصّل عليها بطرق مُلتوية وارتشائية وهذا لا يختلف فيه إثنان في الحقيقة. فالديمقراطية بقدر ماهي ليّنة وناعمة ومُجزية بقدر ماهي غليظة و كاسرة و مهادنة ومُفترسة وهذا لسوء الحظ يجُرّنا إلى ازدواجية استخدام الديمقراطية، بين ديمقراطية المَحّار وديمقراطية السلطعون.

ديمقراطية المَحّار أم ديمقراطية السلطعون؟

    يقول الفيلسوف اليوناني افلاطون “الديمقراطيّة هي شكل ساحر من أشكال الحكم، مليئة بالتنوّع والفوضى، وتوزّع نوعًا من المساواة، وعدم المساواة على حدّ سواء”. هذه القولة تشير إلى أنّ الديمقراطية سلاح ذو حدّين أو عُملة ذو وجهين يمكن قراءتها وتوظيفها وممارستها بحسب نوايانا وأهدافنا وبرامجنا.

في هذا السياق عقدت استعارتان للديمقراطية وأين نحن منهما في تونس، هل هي ديمقراطية المحَار أم ديمقراطية السلطعون؟ علما وأنّ هذين الكائنين البحريين يتقابلان في عديد الخصائص والنقاط. من خصائص المحَار أنّه يحمل بين صدفتيه أنفس ما عنده ألا وهو اللؤلؤ والذي يتشكّل بفضل تراكمات وتغيّرات وتحوّلات من حبّة رمل بسيطة إلى حبّة لؤلؤ مكنونة. وهو نفس الشيء بالنسبة للمسار الديمقراطي في تونس، فهو مسار طويل وعسير متوقّف على تراكم التجارب والسياسات، إلاّ أنّ هذا المحاّر رغم صلابة قشرته يبقى رخوا ومُهدّدا كما يسهل كسره و تشويهه و التلاعب به والعودة به إلى المربّع الأوّل و نواته الأولى الرخيصة ألا وهي حبّة الرمل أو غيرها من الأجسام الغريبة المكوّنة له. فهناك من لا يرضى بنعومة الملمس و بهاء المنظر فيحنّ مباشرة إلى ماضي اللؤلؤة الرملي الرخيص وكأنّه لا يستحقّ الأحجار الكريمة ولا ترتقي إلى مقامه. تلك اللؤلؤة هي في الحقيقة تتويج لمسار وحصيلة أعمال، هي بكلّ بساطة عُصارة الديمقراطية من حريّات فردية وجماعية وحقوق إنسان وغيرها: هي الديمقراطية القحّة التي تبقى رهينة مسؤوليتنا إمّا أن نحافظ عليها أو نُتلفها في أوّل حاوية تعترضنا. وهنا لا يفوتنا أنّ نُعرّج إلى أنّ ديمقراطية تونس تأخذ الكثير من ديمقراطية المحَار في جانبها الرخوي الضعيف وجانبها التراكمي القيمي النفيس.

أمّا ما إذا كانت ديمقراطية تونس من قبيل ديمقراطية السلطعون أم لا ؟ أو هي تستلهم منها، فتجدر الإشارة أوّلاً إلى أنّ من سمات حيوان السلطعون أنّه يرتاد الشقوق والثقوب ويُقيم في الكهوف، وهذه الأماكن المظلمة غالبا ما يلتجأ إليها السياسيون والطبقة الحاكمة قصد إخفاء ما يمكن اخفاءه من عيوب وهنات و فصول من الدستور لا تخدمهم.

بلغة أخرى، فإنّ الشقوق هي شروخ في صرح الديمقراطية، يستغلونها لإغراقها في الأعماق أين الضوء يقع تعتيمه، فبحر الظلمات يفضّله أولئك الذين يهربون بالحقيقة إلى متاهات يصعب الوصول إليها، لأنّ الممارسة الديمقراطية لديهم تقوم على المتاهات و الظُلمات.

من خصائص ديمقراطية السلطعون أيضا أنّها لا تسير بصفة مستقيمة ومباشرة، وإنّما بصفة جانبية غير مباشرة أو مراوغة إلى حدّ ما وهذا ما دأب عليه السلطعون في حياته وتنقّلاته. والديمقراطية المراوغة لا تقدر على الصمود لأنّ أقصر طريق هو الحواشي، لاسيّما أنّ هناك من يترشح للانتخابات التشريعية ويكون ديدنه الحواشي والأطراف ولا يجرأ على مواجهة المركز باعتبار أنّ المركز يكتنفه الضوء و الحقيقة.

إذا اعتبرنا أنّ ممارسي السلطة و نوّاب الشعب من الجنس الرجالي، فإن أغلبهم يتقاتل و يتصارع من أجل امتيازات أكثر و ضمانات أكبر ومناصب أرفع وهو ما يحصل عند ذكر السلطعون.

    هذه هي ديمقراطية السلطعون حين يُنمّي مخلبا حادّا وكبيرا من أجل جلب ما يرغب به واستقطاب الأطراف التي يراها توافقه وتُجاريه فإذا كان مخلب السلطعون يُوظّفه لاستقطاب الأنثى فإنّ في حالتنا هذه يوظّفه السياسي لاستقطاب مصالحه الذاتية والضيّقة. فضلا عن أنّ السلطعون لديه القدرة على التضحية بإحدى أطرافه أو أرجله في حالة إحساسه بالخطر والتي يمكنه أن يعوّضها بنموّها من جديد. وهذا ليس بالغريب عن أحزاب تعيد تشكّلها من جديد ببروزها على الساحة بثوب رديء رغم فشلها وفظائعها وأهوالها. فكلّ حزب يشعر أنّه في خطر هذا دليل ضدّه على أنّه فاشل وألحق الويلات بهذا الشعب، حينها لا داعي له أن يضحّي بطرف من الأطراف. تلك هي الديمقراطية الحالية في تونس شيء من المحّار و شيء من السلطعون، و ما أكثر مخالب السلطعون.

ديمقراطية الوعي و القانون

     يقول السياسي الأمريكي توماس جفرسون لا تزيد الديمقراطية عن كونها حكم الغوغاء، حيث يمكن لواحد و خمسين في المائة من الشعب استلاب حقوق التسعة و أربعين في المائة الآخرين”. هذه المُعادلة الغبيّة للديمقراطية يمكن أن تجلب الوبال للشعوب لا سيّما الشعوب التي يغلب عليها الجهل و غياب الوعي و القانون كما الحال في بلادنا منذ ستين سنة حتى يتعاظم الأمر في العشرية الأخيرة. فالديمقراطية دون وعي مواطِني تؤول إلى ارتزاق، خاصّة عندما يقع شراء ذمم الناخبين ببعض الدنانير وهو ما حدث في انتخابات 2014 و 2019 حيث لا يعي المواطن و السياسي خطورة ما أقدما عليه والباب الانتهازي الذي ولجا إليه.

فالديمقراطية المُلوّثة بالرشوة والارتشاء والتمويل الخارجي مآلها الفشل والانحدار، وإذا لم يقع تطبيق القانون بصفة شفّافة ونزيهة وعادلة فإنّ الخراب سيستمرّ. ليست الديمقراطية تلك التي نوظّفها لمعاقبة خصومنا وتبرئة حلفائنا ومجازاتهم، إنّها ديمقراطية الوعي المدني و القانون الجزري: وعي المواطن وهذا فصل مهمّ يُقال فيه الكثير، لأنّ الوعي والمصلحة العامّة والوطنية قيم وأسس تبنيها العائلة والمدرسة و الإعلام و الفضاء العاّم: يعني الوطن لا يُشترى ولا يباع ولا يُبتزّ بإسمه. فالحُريّة التي تُوفرّها الديمقراطية، حسب ما يذهب إليه، المفكّر الفرنسي مونتسكيو هي الحقّ في أن تعمل ما يُبيحه القانون لا غير. إذن، فديمقراطية المحّار تبقى منشودة و مطلوبة بشرط تحصّنها برافد الوعي و سدنة القانون.

* كاتب من تونس.

miledkhaldi@yahoo.fr

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.