الرئيسية » للحقيقة والتاريخ : في الذكرى 21 من رحيل الحبيب بورقيبة، كيف أصبحت بورقيبيا حتى النخاع

للحقيقة والتاريخ : في الذكرى 21 من رحيل الحبيب بورقيبة، كيف أصبحت بورقيبيا حتى النخاع

في الذكرى 21 من وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة يوم 6 أفريل 2000، الكاتب يستذكر حادثة غيرت مجرى حياته وهو مايزال طابا ثائرا على الأوضاع في بلاده في السبعينات من القرن الفائث و حولته من معارض شرس لبورقيبة إلى بورقيبي حتى النخاع حسب تعبيره.

بقلم مصطفي عطية *


كان الطقس ممطرا في ذاك الصباح الشتائي القارس من شهر فيفري 1977عندما أيقظني من نوم ثقيل وكوابيس مزعجة طرق عنيف على باب شقتي الصغيرة جدا (ستوديو) في آخر نهج الهند بمنطقة لافايات. كنت تحت مراقبة بوليسية لصيقة بعد أحداث عنف وكر وفر شهدتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بشارع 9 أفريل بالعاصمة.

تبادر إلى ذهني،لأول وهلة، أن صديقتي نادية قد راوغت كعادتها أعين البوليس وتسللت إلى العمارة خلسة لتزورني في شقتي، ولكن ليس من عادتها ان يكون طرقها بكل هذا العنف!

نهضت متثاقلا لأفتح الباب وإذا بي أمام شخصين طويلي القامة عريضي المنكبيين وأنيقي الهندام، طلبا مني ان أرتدي ثيابي ومرافقتهما. لم أتفجأ بطلبهما إذ كنت أنتظر مثل هذه الزيارات بين اللحظة والأخرى.

لم أكن يساريا ولا إسلاميا ولا حتى ديمقراطيا متأوربا، وإنما كنت، ومجموعة من رفاقي في الجامعة، متمردا على كل شيء، معاديا لنظام سياسي كنت أنظر إليه من مجهر محدب يستجيب لطبيعة تمردي.

إرتديت ثيابي ونزلت درج العمارة تتبعني خطوات الشرطيين المدنيين. كان الصمت الجاثم ينتحر على دقات أحذيتهما التي بدت لي وكأنها مصفحة بالرصاص. إمتطينا سيارة صغيرة سوداء، إرتميت في الكرسي الخلفي إلى جانب أحدهما وقد بدا لي كتمثال من الرخام! لم أشأ أن أسأله عن وجهتنا لأني كنت على يقين من أنها لن تكون إلا مخفرا من مخافر الأمن المتعددة.

قالت الماجدة وسيلة بورقيبة: “ما تخافوش، أنتوما ولادنا… والسيد الرئيس باش يستقبلكم”

بعد وقت ليس بالقصير تجاوزنا فيه الإختناق المروري بشارع الحبيب بورقيبة، إنسابت السيارة بسرعة فائقة في اتجاه الضاحية الشمالية فتراكمت في مخيلتي صور قاتمة، وتذكرت وقائع ثورة علي بن غذاهم التي كانت محور الدروس التي يلقيها علينا الدكتور الراحل رشاد الإمام في مدرج كلية الآداب، وكيف زجوا به مغلولا في محبس كراكة حلق الوادي حتى وافته المنية من وحشية التعذيب!  فهل سيحملاني إلى ذاك المكان؟ وفجأة انتابني شعور بالسخرية من نفسي عندما تذكرت أني زرت ذاك المحبس القديم مرارا مع صديقاتي وأصدقائي ورقصنا في رحابه حتى مطلع الفجر بعد أن تحول إلى ملهى ليلي ! إلى أين نحن ذاهبون إذن ؟ لم أجرؤ على السؤال لأني على يقين من عدم الظفر بإجابة من الصنمين الجامدين الذين يرافقاني و أكاد لا أشعر بأنهما يتنفسان.

فجأة توقفت السيارة وانفتح أمامها باب عريض على مصراعيه، تقدمت عشرات الأمتار لتتوقف من جديد وننزل ثلاثتنا. وجدت نفسي في مدخل البهو الخارجي للقصر الرئاسي بقرطاج ! لم يطل تسمري، المشحون بكيمياء الخوف والإنبهار، طويلا إذ بصوت خافت يدعوني إلى مرافقته.

الحبيب و وسيلة بورقيبة.

مررنا بالعديد من الأروقة ثم توقف مرافقي أمام باب مفتوح لقاعة فسيحة مضيئة وبسط يده امامي داعيا إياي إلى الدخول. فاجأني الجالسون الأربعة على أرائك تلك القاعة المملوءة برفوف الكتب والمزدانة جدرانها بالصور واللوحات الزيتية. إنهم رفاقي في التمرد الطلابي : زياد العموري طالب بكلية الطب، رشاد مزهود وأمين الفقيه طالبان بكلية الحقوق والبشير بن فرج طالب أنقليزية في كلية الآداب! سألتهم عيناي : ماذا تفعلون هنا ؟ فأجابوني بأعينهم : وأنت ماذا تفعل هنا؟ إرتميت على إحدى الأرائك وقد أضافت دهشتي إلى دهشتهم حيرة وٱلتباسا.

مرت بعض الدقائق وكأنها ساعات ثقيلة من الصمت الرهيب، وفجأت انتفضنا وقوفا اثر اقتحام القاعة من قبل إمرأة انيقة، مرفوعة الرأس في شموخ تلقائي، وقد ارتسمت على محياها الأبيض الناصع إبتسامة عريضة وهي تنطق : “مرحبا بيكم… محلاكم”. إنها الماجدة وسيلة بورقيبة ! وأمام استفحال استغرابنا أضافت دون أن تتخلى عن ابتسامتها المبهرة: “ما تخافوش، أنتوما ولادنا … والسيد الرئيس باش يستقبلكم”، ثم إلتفتت إلى عوني البرتوكول وأمرتهما بإدخالنا إلى مكتب جميل، نعرفه جيدا من خلال الصور التي يبثها شريط الأنباء بالتلفزة يوميا عند استعراضه الروتيني لنشاط الرئيس.

كان بورقيبة محاطا بمحمد الصياح و وعلالة العويتي. وقفنا أمامه، نظر إلينا بحزم وقال : “أنا نحب الطلبة الناشطين ولكن ما نحبش المشوشين”، مطط شفتيه وأجال بنظره في وجوهنا متفرسا ثم قال: “هاو قالولي إلي أنتوما إستعملتم العنف ضد حراس الكلية وكسرتو”! إنبرى أحدنا وهو البشير بن فرج وقال : “سيدي الرئيس ما عملنا شيء… لفقولنا التهم”.

غادرت القصر مثقلا بالأسئلة الفكرية والسياسية والإنسانية وحتى الوجودية

كان لتدخل رفيقنا الأثر السحري في فك عقدة ألسننا فأدلينا بدلائنا ونفينا ما نسب إلينا. إنتصب الزعيم واقفا وقال بصوت الآمر الناهي : “سيبوهم يقراو على رواحهم… هاذوما ولادنا معملين عليهم” ! كدنا نسجد على الأرض خاشعين من شدة التأثر.

عندما صافحنا الرئيس فردا فردا وغادرنا مكتبه إلتحق بنا علالة العويتي وأفادنا بأن الرئيس يدعونا للفطور معه ! كنا كمن يسبح فوق سحابة عالية من الحلم الغامر. إلتحقنا بقاعة الغذاء ثم حل الرئيس ومرافقيه وجلس على رأس الطاولة المستطيلة وقد وضعوا امامه صحنا ملونا يطفو فيه ما يشبه حساء الخضار “البرودو”. نظر إلينا طويلا وقال بنبرة يشوبها حس أبوي مثير : “أفطرو على رواحكم أنا حاكم عليا الطبيب ما ناكلش كيفكم”. لم يكن ما وفروه لنا من اطباق يفوق بكثير ما تعودنا عليه في المطعم الجامعي بنهج الحسين بوزيان أومطعم المبيت الجامعي برأس الطابية! كان فطورا ينم عن الزهد والتواضع الذي يعيش عليه بورقيبة في قصره. لم نستطع الأكل فقد كبلتنا الوقائع المتراكمة على إيقاع مفاجئ ومثير وبقينا  مشدودين لما يرويه لنا بورقيبة من مآثر نضاله مشفوعة بنصائحة الأبوية.

عندما غادرت القصر، مثقلا بالأسئلة الفكرية والسياسية والإنسانية وحتى الوجودية،  تحولت إلى بورقيبي حتى النخاع ومازلت وسأبقى.

* صحفي و كاتب.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.