الرئيسية » في زيارة لكازينو صفاقس، محسن مرزوق يستذكر ظروف وفاة والدة في نفس المكان منذ ما يقارب نصف قرن

في زيارة لكازينو صفاقس، محسن مرزوق يستذكر ظروف وفاة والدة في نفس المكان منذ ما يقارب نصف قرن

في تدوينة على صفحته الفايسبوك، تحدث محسن مرزوق، أمين عام حزب مشروع تونس، عن زيارة أداها أخيرا إلى منطقة كازينو صفاقس حيث وقف على إحدى مواجع طفولته، وهو وفاة والده في نفس المكان بعد خروجه بقليل من المصنع الكيميائي الملوِّث NPK حيث كان يعمل. نعيد نشر هذه التدوينة المؤثرة التي تكشف صفحة من التاريخ الشخصي للناشط الحقوقي والسياسي.

بعد عقود، بفضلكم، وقفتُ على مكان موت أبي لأول مرّة. حين وافق أعضاء من تنسيقية البيئة المجاهدة من أجل حقّ صفاقس في الحياة والهواء النظيف، على مصاحبتي في زيارة لكازينو صفاقس، لم يعرف أحد منهم أنني ذاهب هناك أيضا للوقوف على مواجع طفولتي. لم يكن أحدٌ من مرافقيّ من مشروع تونس بصفاقس يعرف كذلك. لما اقتربنا من البحر والصخور الجاثمة على بابه كان قلبي يتقلّب مثل ديك مذبوح وكنت أحسُّ أن كل ماء البحر أمامي سيكون خزان دموع قديمة ستنفلت كنوافير الهواء لو سلّمتُ نفسي للبكاء.

في هذا المكان منذ خمسين عاما خرج والدي من المصنع الكيميائي الملوِّث NPK الذي كان يعمل فيه وهو يحسّ بضيق في صدره. نزع ملابسه في حرّ سبتمبر وكأنه يريد أن يسبح. ولكنّه سقط في الماء مغشيا عليه ليموت في أقصر من ذراع بحر. وقتها كنت طفلا. لم أقف على هذا المكان أبدا لأسأل الصخر والبحر عن تفاصيل فجيعة يُتْمِنا أنا وإخوتي وترمّل والدتي وسنها تحت الثلاثين.

ولكنّ هذا الساحل المُراوغ لا يخفي فقط قصة موت عابرة. بل إنه يعيد شدّي لأبي من ذاكرة شحيحة عنه. أحد لقطاتها أنّه أخذني طفلا معه ذات يوم لنفس المكان حين كان فيه الكازينو، مطعما ومقهى ومسبحا، يعجّ بالقهقهات الحرّة.نفس المكان.

صورتان متناقضتان لطفولة سعيدة شاهدتها ولموت لم أشاهده. حول شخص واحد. أبٌ لم أحفظ منه سوى ذكريات قليلة صفعتني بها ريح البحر المالحة.

شكرا لنجيب غربال وشفيق العيادي وصديقي قديما وحاضرا جاسم كمّون، لنضالهم مع رفاقهم من أجل أن يعود الكازينو لصفاقس. تلك المدينة التي أغلق في وجهها بحرها ولُوِّثَ هواؤها بالسموم بعد أن كانت نموذجا في التوازن بين تجارة البحر وصيده وجنان الغلال والزيتون. شكرا لهم لأنه لولا المبادرات المواطنية لما عاد الكازينو لسكان صفاقس. شكرا لهم لأنهم يواصلون معركتهم النبيلة فالطريق ما زال طويلا. شكرا لهم لأنهم منحوني فرصة الوقوف على مكان موت والدي. لقد استرجعت خطاه. وأعدتُ سقاء عروقي حيث نبتت. شكرا لمن كان معي هناك. فقد ساعدوني أيضا على المصالحة مع ذاكرتي ومع جهتي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.