الرئيسية » يوميات مريض بالكوفيد (المقال الثالث)

يوميات مريض بالكوفيد (المقال الثالث)

يواصل الكاتب – وهو رئيس حزب مشروع تونس – رواية تجربته الخاصة مع فيروس كورونا الذي ابتلي به منذ يوم الجمعة 8 جانفي 2021 تاريخ إجرائه لتحليل طبي جاءت نتيجته إيجابية. ننشر أسفله المقال الثالث من هذه السلسلة…

بقلم محسن مرزوق


شكرا لكم كلماتكم كانت شفائي. كلماتكم صالحتني مع الكلمات. ففي بدء البدايات كانت الكلمة. وفِي بدء آخر كانت “كلمة طيبة كشجرة طيبة”. كلمة تخرج من روح صافية. كلمة تبرق في حدقة وتجري على لسان . كلمة على ورقة أو على شاشة تلفون. تمسكها يد مرتعشة وتنظر فيها عينان ذابلتان. عينان تنتظران نبض بريق يوقد فيهما النجوم الزاهية.

شكرا لكم لكلمة تقطر من سماء مفتوحة بلا حساب على شفة روح متشققة، تنتظر حبة مطر باردة حملت في نزولها معها روائح الكلتوس والزعتر والإكليل والشيح وبخار الأنهار البعيدة. ثم توالدت بين تيارات الهواء القطبية والمدارية لتحطّ على مربع الجلد الروحي الجاف فتحقنه بالحياة.

شكرا لكم كل كلمة من كلماتكم التي دعت لي بالشفاء فعلت فيّ هذا السحر العجيب. في تلك الأوقات التي أظلمت خلالها الأشياء حولي وداخلي، تسلّلت كلماتكم لخنجرتي، لرئتيّ ولشراييني وتطوّعت في كتائب الأجسام المضادّة التي تجندت للحرب ضد الفيروس. كل كلمة من كلماتكم حاربت معي بشغف وبطولة. وشيئا فشيئا تحوّل الجسد المنهك بالمعركة إلى حقل ربيعي أزهرت فيه كلماتكم مثل شقيّات بوقرعون الجميلة التي أحبّ.

شكرا لكم أنا مدينٌ لكم. ممتنّ لكم. الْيَوْم منذ هذا الصباح الهادئ، أحسّ أنّني دخلتُ مرحلة الشفاء.

تقول تقارير المعركة، أن الفيروس هزمَ وأن جيوشه تفرقت بين قتيل وأسير وأن قادته صلبوا على أبواب خلاي جسدي. لم يبق سوى معالجة آثار التخريب الجزئي الذي تركه في بعض المواضع. هذا الشفاء هو بفضلكم أيضا.

حولي الغرفة فوضى منظمة. الكتب والأدوية والدفاتر والاقلام، وحركة شخوص التلفزيون تتحرك وحدها دون متابعة. على السرير أنا في الوسط. محاط بكل هذه الاشياء مثل ناجٍ من غرق محاط بحطام سفينة. كنت أوزع كلماتكم الجميلة في أنحاء جسدي وأشوّق أنفي برائحة القهوة ليقرر رأسي أن يرفع نفسه عن المخدة.

قياس الحرارة أولا: طبيعي قياس الاكسجين ثانيا: طبيعي قياس الطقس الآن: من النافذة رماد وبلل مطر هطلت خلال الصباح الباكر.

ما زال وقت الخروج لم يحن بعد. بعد قليل سيأتي الممرّض ليغرس فيّ الحقنة السادسة. ما زالت أربع حقن أخرى طوال الأسبوع. أريد قهوة عربي فأنفي اشتهى الشمّ الذي حرم منه مدّة. هل هناك أطيب من رائحة القهوة العربي في الصباح وفِي المساء؟ أعددتها بنفسي ببطء شديد. لم أكملها حتى دخلت الكلبة ميمي المطبخ. هي نفسها كانت زاهية. لقد أحسّت أن شيئا ما تغيّر للأفضل. قفزت نحوي بحبور ولثمت أصابعي بحماسة. في الأيام الماضية كانت تحوم واجمة. كل العائلة كانت مريضة. وكانت هي تتنقل من جوار سيدتها زينة ابنتي نحونا بنظرات حزينة وذيل محشور بين الرجلين الخلفيتين. ثم تختار ركنا وتجلس صامتة. أما الْيَوْم فقد تغيرت السحنة وعاد النشاط وارتفع الذيل متحركا بعصبية. لم يدم ترحيبها بي طويلا. فجأة رفعت أذنيها وهرعت نحو الحديقة بعصبية. ارتفع نباحها الحاد بينما نطت قطة هاربة فوق السياج.

مع أوّل رشفة قهوة أخذت قرارا: سأطبخ بنفسي الْيَوْم. اشتهيت كسكسي. بماذا؟ سأرى الموجود وأقرر. لو أجد في جمّاد الثلاجة “شوابي” أو قرنيط؟ سيكون ذلك قلب السعادة. رشفة ثانية: بعد انتهائي من كتاب عن المولد في يوسف صاحب الطابع، سأكمل الْيَوْم قصة حياة للة البية قمر.

شكرا للكاتب المتميّز ماهر كمون. هل سمعتم بالبية قمر؟ المحظية الشركسية التي تزوجت ثلاثة بايات تونسيين؟ قصة عجيبة لم أفهم لماذا لم تتحول الى الْيَوْم لعمل إبداعي.

رشفة ثالثة: ما الذي سأفعله الان وفورا وحالا؟ حلق اللحية. يكفي منها، لتذهب مع الفيروس. باقي رشفات القهوة كانت كلها وجوم في الأيام المقبلة. قضايا الوطن النازف المتراكمة. بعد النقاهة، من جديد للعمل. لا بد من أفكار وطرق جديدة، كأنني لم أفعل ذلك أبدا من قبل. شكرا لكم مرة أخرى نهاركم زين…

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.