الرئيسية » سيرة ذاتية “القطار الذي فات” (المقال الخامس عشر): ذات عصر… ذات ربيع…

سيرة ذاتية “القطار الذي فات” (المقال الخامس عشر): ذات عصر… ذات ربيع…

فتجان قهوة مع الكاتب عبد المجيد يوسف.

يواصل الشاعر والكاتب سوف عبيد نشر سلسلة مقالات سيرته الذاتية وهو في هذا المقال الخامس عشر يروي بعض صداقاته الأدبية و من بين أصدقائه الشاعر الحبيب الزناد والقصاص والناقد عبد المجيد يوسف.

بقلم سُوف عبيد

1-

ذاتَ عَصر من يوم ربيعيّ منْ تلك الأيّام العاصفة التي تَستثني نسائمَه اللطيفةَ، هو يوم في بعض أيّام الرّبيع كأنّه من بقايا عنفوان الشّتاء، اِلتقينا نحن الثلاثةَ ـ عبد المجيد يوسف والحبيب الزنّاد وأنا ـ أمام المسرح بشارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة على أمل أن نجدَ خيمة منتصبةً هناك خاصةً بمعرض الكتاب وعلى أمل أن تنتظم فيها أمسيّة شعريّة فكم كنّا مبتهجين بتلك المبادرة التي هبّ إليها الشّاعر الحبيب الزناد من المنستير بمجرّد دعوة عبر الهاتف وجاء يسعى إليها الأديب عبد المجيد يوسف من سوسة أما أنا فقد ركبت القطار من ضاحية رادس واِخترت اللّقاء بهما وببقيّة الشّعراء بَدل أن أحضر بُروتُوكلات الاِفتتاح في قصر المعرض.

ـ 2 ـ

اِلتقينا أمام المسرح واِبتهجنا عندما قابلتنا الخيمةُ البيضاء الكبيرة ولكن ما لبثنا برهة حتى وصلت إلينا مع صَولات الرّياح العاتية أصوات الموسيقى الصّاخبة فقلنا لعل ذلك من دواعي الاِحتفال واِستجلاب الذين يريدون متابعة الأمسية الشعرية ثمّ اِقتربنا من الخيمة فلمْ نر أحدا من المثقّفينْ ولا أحدا من الوزارة أو الإداريينْ فبقينا واجمينْ حتّى جاءنا الخبر اليقينْ عبر الهاتف أنّ الخيمة قد ضُربتْ أوتادُها ورُفعتْ أطنابُها عند آخر الشّارع بعد السّاحةِ الكبرى والسّاعةِ المُنتصبة في وسطها فاِتّجهنا نَمرُق الرّيح بعزم حاثّين الخُطى كي لا نصل عن موعد اِنطلاق الأمسية متأخّرين، خاصّة وأنّ الصّديق عبد المجيد يوسف هو الذي أوكِل إليه تقديمُ الشّعراء وقد اِستبشرنا عندما لاحت لنا الخيمة البيضاء مُنتصبة ولكن أصِبنا بشيء من التعجّب عندما لم نرَ أيّ شخص أو أيّ حركة من حولها فقُلنا لعل الأمسية قد بدأت وحضرت الجماعة ودخلت قبلنا والجميع فيها ما بين مُنشِدين للشّعر ومُستمعين فدلفنا إلى الخيمة وَجِلينَ، ويا خيبةَ المَسعى عندما قابلتنا الآلاتُ والتّجهيزات المُوسيقية في أحد الأركان كأعجاز نخل هاوية !

ـ 3 ـ

عديد المكالمات قد جرت حينذاك بين الحبيب الزنّاد وعبدِ المجيد يوسف من جهة وبين المسؤلين والمنسّقين في معرض الكتاب وقد نَقلاها لي وتتلخّص في أنّه علينا أن نلتحق بمعرض الكتاب في ضاحية ـ الكرم ـ بوسائلنا الخاصّة فعَقدنا إذن ـ اجتماعا طارئا وخاصّا لبحث المُستجدات ـ بجانب الخيمة الخاوية التي تُصارع الرّياح العاتيةَ وبعد المداولات السّريعة اِتّخذنا قرارنا الحاسم بالإجماع وهو أن نجلس في أوّل مَقهى ونعتبر ذلك أمسيتنا الشّعرية والسّلام على هذه الدّعوة وما شَابهها طالما لم يُحسن القائمون على معرض الكتاب وغيره من الفضاءات الثقافية تنظيمَ مثل هذه المُبادرات وإيلاءَ ما يليقُ بالشّعراء والأدباء ما هُم جديرون به من تقدير واِحترام ضِمنَ منهج ثقافي جديد وشامل.

جلسنا… ومِنَ الشّعر اِنتقلنا إلى القصّة فقد أخرج عبد المجيد يوسف من محفظته مجموعته القصصية الجديدة “وحيدًا… أقطع هذا الدّغل” وأهدانا إيّاها في قطار العودة فتحتُ الكتاب عند القصّة الأخيرة من دُون أن أبدأ بالمقدّمة ولا بالقصة الأولى فتلك عادتي في قراءة الكتب الإبداعية والأديب عبد المجيد يوسف صاحب قلم مِعطاء ومتنوّع فهو شاعر وقصاص وناقدٌ وباحث في اللّغة والأسلوب ومترجمٌ من اللغتين الفرنسية والإيطالية وإليهما ممّا يجعل كتاباتِهِ صادرة عن معرفة ومماحكة.

ـ 4 ـ

قرأتُ الفهرس فإذا القصّة الأخيرة تحمل عنوان “جَريُ الرّياح” وبما أنه يوم ريح بدأتُ بقراءتها فلم أجد الرّياح في القصة ولا على مَهبّها ولا خطاها إنّما وجدتُ حفيف نسمة حُبّ هبّت من جديد في لحظات عابرة عندما التقَى رجُل باِمراة صُدفةً على قارعة الطريق وهي بصحبة طفلتها فمكثا يتحادثان برهة من الزّمن أثارت فيهما الحنين وعند الفراق فاجأتِ الطفلة الرجل بصفعة عندما همّ بقبلة منها فما كان من المرأة إلا أن اِعتذرتْ بأحسنَ منها وذلك بأن قبّلته على خدّه ثمّ اِفترقا، هي إذن قصة قصيرة بأتمّ معنى الكلمة تتجسّم فيها الدعائم الأساسية من وحدة في الزّمان والمكان والوقائع وحالة الشخصيات ضمن أسلوب التركيز والاِقتضاب والتصوير.

ـ 5 ـ

قصّة “الحذاء” قرأتها أيضا وأنا في القطار فقد اِستهواني العنوان لأنه عنوان إحدى قصائدي القديمة ولكنْ شَتّان بين حذاء قصّة عبد المجيد يُوسف وحذاءِ قصيدتي، الحذاءُ في هذه القصّة هو ذاك الذي خرج فيه بعد مغادرته المسجد قبل أن يُتمّ صلاة الجمعة فلاحظ أنّه غيرُ حذائه لضيقه أمّا سبب مغادرته المسجدَ فيعودُ إلى تَبرّمهِ منَ الرّوائح الكريهة ومِمَّا زاد الطّين بلّةً أن نَزل على قميصه لعابُ أحدِهم حتّى بلغ منهُ مبلغًا من البَلل لا يُطاقُ عند ذلك هرول خارجًا يريدُ خلع القميص وتنظيفَهُ فالقصّة جمعت بين الواقعية والنّقد في أسلوب السّخرية والسّهل المُمتنع.

وفي قصّة ـ الحاجة ـ ثمّة إبراز للحالة المادية البائسة لأحد الأساتذة حيث يضطر لأخذ قُفلين ومقبض من حقيبة ملقاة في مكان النفايات رآها مع تلاميذه في جولة دراسية وبعد الرجوع إلى المعهد لمحه أحدهم يتسلل عائدا إلى ذلك المكان فظن أن أستاذه رجع لمعاينة المكان لإعداد درس آخر ولكنه ما كان في الحقيقة يعلم أنّ الأستاذ إنما عاد كي يأخذ تلك الحقيبة ليصلح ببعض قطعها ما أصابه الدّهر من حقيبته القديمة .

أمّا القصّة الأولى فهي “الشّمسُ في يوم قائظ” وهي القصّة القائمة على “الطّرز اللغوي” أقول “الطّرز” لأن الكلماتِ فيها مختارةٌ منتقاة بدِقّة ودِرايةٍ حتّى كلّ جملة فيها تُحيلك على نصّ من عيون اللغة العربيّة سواءً قرآنا أو شِعرًا أو نثرًا للجاحظ أو للمعرّي كان وحتّى لميخائيل نعيمة والبشير خريّف والأغاني الشعبيّة التونسيّة فمجال السّجِلات اللغوية في هذه القصّة مُتنوّع ومتعدّد ولعلّ عبدَ المجيد يُوسف أراد بهذه القصّة الإمتاع بالمباني قبل المعاني فقد رصّعها ببراعة بكثير من التّضمينات.

عندما أتممتُ هذه القصّة توقّفَ القطار فوجدتُ نفسي قد تجاوزتُ محطّة رادس… معًا نقطع المسافات…

يتبع.

مقالات سابقة من نفس السلسلة :

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.