الرئيسية » فرنسوا بورغا أو الإسلامويّة أصلاً تجاريّا

فرنسوا بورغا أو الإسلامويّة أصلاً تجاريّا

سيكون من الصعب في هذا المقام أن أجيب عن السؤال المهمّ الّذي طرحه الصديق وائل صالح، المدرّس المشارك بمعهد الدراسات الدولية بجامعة كيبك في مونتريال، والمختصّ في جغرافيّة الإسلام السياسي، ليكون عنوانًا لسلسلة من المقالات بلغ عددها إحدى عشر مقالا، وهو سؤال : “الإسلامويّة… لماذا تتعاطف معها الأكاديميا الغربيّة ؟”، وحسبي هنا التعرّض إلى فرنسوا بورغا (François Burgat) الذّي تمّت الإشارة إليه في المقالة السابعة من السلسلة استنادا إلى رأي صديقنا Seniguer Haoues (الأستاذ المحاضر بجامعة ليون، والمختصّ في العلوم السياسيّة)، الّذي بيّن “إنه يلغي من قائمة أدواته التحليلية الاختيار المتعمد والواعي، وبالتالي الإيديولوجي، للإسلاميين الذين يقررون الانخراط في التطرف والعنف المسلح و الإرهاب”، مضيفا “وكأنّ بورغا يعمل على ”تبييض“ أو ”غسل“ العنف الذي يرتكبه الإسلاميون، عن طريق تجاهل الأسس الأيديولوجية لهذا العنف”.

بقلم نادر الحمّامي

ولئن كان هذا صحيحًا تمامًا فإنّي اخترت أن أتعرّض إلى الموضوع من زاوية أخرى تحاول اختزال ثوابت فرنسوا بورغا في تعرّضه للإسلام السياسي بالإضافة إلى ما يمكن أن يكون محرّكا لمثل تلك الثوابت.

I. ثوابت فرنسوا بورغا :

احترف فرنسوا بورغا الكتابة حول تيّارات الإسلام السياسي على كِبَرٍ في منتصف ثمانينات القرن العشرين بعد عمله في الجزائر، وبالخصوص بعد تصاعد اتّجاهات التيّارات الإسلامويّة والتحوّلات الطارئة عليها استتباعا لما سمّي “الثورة الإيرانيّة” سنة 1979، ومن أهمّ تحوّلات الإسلام السياسي السنّي في تلك الفترة سعيه إلى الاقتداء بالإسلام السياسي الشيعي واتّخاذه مثالا للوصول إلى الحكم بعد عهود من مهادنة السلط القائمة في كثير من البلدان لضرب التيّارات اليساريّة. ويبدو من خلال الاطّلاع على مسيرته أنّه لم يكن مهتمّا بمثل هذه المسائل، وأنّ اختصاصه في الحقوق كان بعيدا نوعا ما عن مثل هذه القضايا المرتبطة بالإسلام السياسي وإشكاليّاته، ولعلّه، على سبيل التخمين، لم يسلم ممّا طرأ على الحركات الإسلامويّة في بداية الثمانينات من تحوّلات، فكتب المقالات والكتب وألقى المحاضرات ونشر البيانات الكثيرة، وكلّ ذلك انطلاقًا من كتابه الأوّل في هذا المجال: “الإسلام السياسي المغاربي: صوت الجنوب” الصادر سنة 1988، وصولا إلى كتابه الأخير الذي اطّلعت عليه، “فهم الإسلام السياسي” الصادر سنة 2016. وبقطع النظر عن هذا التعدّد فإنّه بإمكان المطّلع على كتابات بورغا بدقّة أن يقف بوضوح على ثلاثة ثوابت في مقاربته للإسلام السياسي يكرّرها باستمرار وتشكّل العمود الفقري لمواقفه:

1- تعويم مصطلح “الإسلام السياسي”:

من المقولات المتكرّرة في كتابات بورغا أنّ مصطلح “الإسلام السياسي” لا يجب أخذه على إطلاقيّته، إذ أنّه في نظره لا يمكن أن نضع “كلّ تيّارت الإسلام السياسي في سلّة واحدة” على حدّ عبارته، بل هناك تفريعات. ومثل هذا القول وإن بدا ظاهريّا فيه نوع من الوجاهة بحكم تعدّد التيّارات الإسلامويّة واتّجاهاتها واستراتيجيّاتها، ولكنّه في الآن نفسه يعيد بصورة كليّة ما تردّده التيّارات الإسلامويّة من رفض مثل هذا المصطلح أوّلا، ولا سيّما لدى الحركات الإسلامويّة التي وصلت إلى الحكم بعد 2011، وثانيا عدم النظر إلى مرجعيّات الإسلام السياسي التي هي واحدة في حقيقة الأمر والاهتمام بالتفريعات من قبيل إسلام سياسي متشدّد وآخر عنيف وآخر معتدل، إلخ. وهذا يخفي التقاء كلّ هذه التفريعات الظاهريّة ضمن مرتكزات واحدة ومنطلقات ثابتة لديها جميعًا وفي طليعتها رفض المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان ومكوّنات الثقافة الديمقراطيّة، والحريّات الفرديّة، والمساواة بين المرأة والرجل، وكلّ ذلك استنادًا إلى النصّ الديني عمُومًا ممّا يجعل الأمر في النهاية تنويعات على مقولة الحاكميّة.

2- “الإسلام السياسي” نتيجة الاستعمار والاستبداد السياسي:

الثابت الثاني العزيز على فرنسوا بورغا اعتباره أنّ الإسلام السياسي الراديكالي أو العنيف هو نتيجة الهيمنة الغربيّة والاستعمار منذ القرن التاسع عشر إلى ستّينات القرن العشرين أو قبلها بقليل حسب المستعمرات، وأنّ العنف الّذي تتبّناه الحركات الإسلامويّة هو أيضا نتيجة للاستبداد السياسي والدكتاتوريّات الّتي حكمت المجتمعات الإسلاميّة في الفترة الّتي يسمّيها “ما بعد استعماريّة”، وبالتالي فإنّ العنف الّذي يمكن أن تنزع إليه تيّارات الإسلام السياسي لم يكن، حسب بورغا، من طبيعة تلك التيّارات بل إنّها لا تتبنّاه فكريّا، وهولا يعدو أن يكون ردّة فعل على الظلم والقهر سواء كانا متولّدين عن الاستعمار الأوروبيّ أو الدكتاتوريّة الحاكمة في البلدان الإسلاميّة. وهذا ما يجعل كل العنف الّذي مارسته الحركات الإسلامويّة “مبرّرًا” إذ هو “عنف الضحايا” المدافعين عن أنفسهم والوقوف في وجه الهيمنة والتغريب وفسخ الهويّة، ليصبح الإسلام السياسي عند بورغا “صوتا مقاومًا”، يوازي حركات التحرّر السياسي باعتباره صوتا يسعى إلى “الاستقلال الثقافي والحضاري”، وهو “صوت الجنوب” كما ورد في عنوان كتابه، بكلّ ما يحمله العنوان من “شاعريّة” نصرة المظلوم “الجنوبي”، “الآخر المقهور”، فيشعل بشكل أو بآخر فتيل “صراع الحضارات” متبنّيّا مقولة “المظلوميّة”.

3- الإسلام السياسي مسألة هوويّة :

هذا الأمر يركّز عليه بورغا كثيرًا، إذ يعتبر أنّ الإسلام السياسي هو ذو طبيعة هوويّة بمعنى أنّ الأمر لا يتعلّق بالإسلام في حدّ ذاته أو السياسة في حدّ ذاتها، فالعلاقة بينهما عضويّة لا انفصام لها، وأنّ السياسة هي من جوهر الإسلام، وأنّها مكوّن جوهريّ فيه، ولا يمكن أن يكون هناك إسلام دون سياسة، وأنّنا إذا فصلنا الإسلام عن السياسة يفقد المسلمون كلّ هويّة وهذا ما يطمح إليه الغربيّون في نظره؛ فهؤلاء يريدون أن يفقد المسلمون هويّتهم. وبالتالي فإنّ الفصل بين الديني والسياسي في المجتمعات الإسلاميّة مستحيل لتعارضه مع الإسلام. بذلك يتطابق رأي بورغا مع مقولة “الاستثناء الإسلامي” الّتي روّج لها برنارد لويس (Bernard Lewis) وصاموييل هانتغتون (Samuel Huntington)، في الغرب، وتبنّتها أيضًا الحركات الإسلامويّة وكلّ منظّريها تحت شعار “الإسلام دين ودولة”. وكلا الموقفين يؤدّيان إلى الاحتجاج ضدّ العلمنة والعلمانيّة بما هي سبيل لتحقيق دولة المواطنة الحديثة (1).

ومن ناحية أخرى فإنّ ما يذهب إليه بورغا ينسجم تمامًا مع كتابات الإسلاميّين الذّين رفعوا شعار الدفاع عن الهويّة وخصوصا منذ التسعينات من القرن العشرين لتعويض شعار الدفاع عن الدين. فالواضح أنّ ترويج خطاب “تهديد الهويّة” أكبر أثرا في المجتمع من خطاب “تهديد الدين”. وبناء على ذلك تصبح الإسلامويّة هوويّة، وهي “الصيغة الأمثل للتعبير عن الإسلام”(la bonne version de l’islam)، على حدّ عبارة بورغا، فالإسلام عنده لا يمكن أن يكون إلاّ إسلامًا سياسيّا، وهنا يلتقي بامتياز مرّة أخرى مع كلّ دعاة الإسلام السياسي.

II. ما وراء الثوابت “الفكريّة”:

بالإضافة إلى ما استخلصناه من ثوابت “فكريّة” قادت كتابات فرنسوا بورغا حول الإسلام السياسي بما يتماهى تمامًا مع كلّ مقولات الإسلامويّين، فإنّه لم يكتفِ بذلك بل إنّه يتجاوز هذا الأمر إلى تبرير حتّى ما يعترفون به من أخطاء كما حدث فعلا في عدّة مناسبات. فالمتتبّع لمواقف بورغا يلاحظ أنه يعمل باستمرار على خلق “جماعة ضغط”، تتكوّن من مثقّفين، وسياسيّين، وجمعيّات، تخدم أهداف الإسلاميّين. ومثل هذا الضغط اتّخذ أشكالا كثيرة في مناسبات متعدّدة قد يضيق بنا المقام هنا لذكرها وسوف نكتفي بالإشارة إلى ما يتعلّق أساسا بمساندة الإسلامويّين ورموزهم ومسانديهم بكلّ السبل، ذاهبا إلى حد اعتبار مسألة الإسلام السياسي منطقة محرّمة على كل من يخالفه الرأي أو المقاربة، وكأنّها حكر عليه وعلى أتباعه ومسانديه. وهذا الأمر يتّضح في عدّة مواقف يمكن أن نذكر بعضها على سبيل المثال.

إنّ مواقف بورغا الدفاعيّة الواضحة على التمويل القطري الداعم للإخوان المسلمين في أوربّا يكشف عن ارتباطاته إلى حدّ بعيد، ويمكننا الوقوف على ذلك من خلال حواره الّذي أجري معه تعقيبا على الوثائقي الّذي أنجزه الصحافيّان (Georges Malbrunot et Christian Chesnot) “قطر، حرب التأثير في إسلام أوروبّاQatar, guerre d’influence sur l’Islam) d’Europe) الذي بثّ في أوائل سبتمبر 2019، بعد أن نشر تقريرا في أفريل من السنة نفسها تحت عنوان : « Qatar papers : comment l’émirat finance l’islam de France et d’Europe » وكشف تمويلات جمعيّة قطر الخيريّة لأكثر من 140 مشروعًا في إيطاليا وفرنسا وبلجيكيا وألمانيا من ضمنها مساجد، ومدارس، ومراكز ثقافيّة كلّها مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين.

وقد تمّ إنجاز الوثائقيّ على مدى عامين كاملين مع جمع آلاف الوثائق المؤكّدة لذلك. في إجاباته يلحّ بورغا على أنّ الإخوان المسلمين تطوّروا بين 1928 و2011 وأنّهم يمثّلون المعارضة الحقيقيّة للأنظمة الاستبداديّة في بلدانهم، ولذلك وصلوا إلى الحكم بالانتخابات، ونفى عنهم كلّ مظاهر الراديكاليّة، وحين يسأل عن “ازدواجيّة الخطاب” عند الإخوان المسلمين، يقرّ بوجود هذه الازدواجيّة ولكن في الغرب وليس عند الجماعة، ويحاول بشتّى الطرق قراءة الأرقام المرتبطة بـ “قطر الخيريّة” ليبيّن أثرها الضعيف في أوروبّا وفي فرنسا، ليقول إنّه لا يعارض تلك التمويلات والمشاريع، ويشكّك في مصداقيّة التقرير في كلّ مناسبة تتاح له ويقزّمه واصفا إيّاه بأنّه مجرّد “كُتيّب” (pamphlet). ويذهب بورغا إلى أنّ الأمر مضحك بالنسبة إليه حين يُقال إنّ التدخّل القطري في أوربّا أكبر من تدخّل العربيّة السعوديّة، بل إنّه يعتبر الدور القطريّ ضعيفا وحتّى هامشيّا مقارنة بالدور الجزائري أو التونسي أو المغربي أو التركي، ليأخذ بعد ذلك موقفًا معاديًا للإمارات العربيّة المتّحدة بناء على موقفها السياسي من الإخوان المسلمين ومن قطر، ويلمّح إلى مؤامرة إماراتيّة مفادها تكليف الإمارات قراصنة أمريكيّين للتجسّس على حسابات “قطر الخيريّة”. إنّ استقراء ما وراء الحوار وتحليل خطابه يبيّن أنّ القضيّة في جوهرها دفاع عن الجهة الأكثر اتّهامًا بتمويل الحركات الإسلامويّة والداعمة لها شرقا وغربًا وبطرق مختلفة ومن ضمنها استقطاب “النخب المثقّفة”، لغايات سياسيّة بالأساس. والحقيقة أنّ مثل هذه المواقف الصادرة عن بورغا متعدّدة حين يتعلّق الأمر بقطر، وقد برز ذلك مثلا في تصريحه إثر اتّهام طارق رمضان بالاغتصاب والتحرّش الجنسي، إذ اعتبر في تغريدة على تويتر أنّ الأمر لا يعدو أن يكون “مؤامرة دوليّة سعوديّة إماراتيّة”. وفي كلّ الأحوال لم يكن من الممكن لفرنسوا بورغا أن يسير في غير ذلك الاتّجاه وهو رئيس مجلس إدارة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع باريس، ذلك المركز المموّل قطريّا.

وغير بعيد عن نظريّة المؤامرة، فإنّه اعتبر تحليلات الإعلام الفرنسيّ لما رُوّج له على أنّه محاولة انقلاب في تركيا على نظام أردوغان بأنّه تواطؤ فرنسيّ إسرائيليّ وكان ذلك عبر نحته لعبارة « télavivision ». وفي السياق ذاته كان فرنسوا بورغا أيضا من الّذين وافقوا صدري الخياري، أحد مؤسّسي “أصليّو الجمهوريّة”(Les indigènes de la république) ، تلك الحركة المتّهمة بكلّ أشكال العنصريّة والتمييز، في تهجّمه على كمال داود الّذي أشاد بمبادرة الرئيس التونسي سنة 2017 فيما يتعلّق بالمساواة في الميراث، وقد اتّهم الخياري أنّ داود من المؤكّد أنّه ساند المبادرة الرئاسيّة لأنّه تقاضى أموالا على ذلك.

بمثل هذا التوجّه، كان بورغا يتدخّل في قضايا عديدة سواء في فرنسا أو في غيرها من البلدان، لتتطابق بالكليّة دائما وأبدًا مع مواقف الحركات الإسلامويّة وبالخصوص مع بنيتها الذهنية القائمة على التبني لنظرية المؤامرة خدمة للشعبويّة ولعب دور الضحيّة. ولكن الأمر يتجاوز ذلك، فبورغا يدافع عن الإسلام السياسي وكأنّه “أصل تجاريّ” يريد احتكاره لما يدرّه من أرباح. ولذلك نراه لا يتورّع عن مهاجمة كلّ من يخالفه الرأي أو التوجّه، بالاعتماد على تهم عادة ما تكون جاهزة : الإسلاموفوبيا بالنسبة إلى الغربيّين، والعمالة للغرب إذا كان من يخالفه من المجال العربي أو الإسلامي. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن تعامله مع المسلمين والعرب لا يخلو من تعال واحتقار، في تواصل مع النظرة الاستعماريّة: فهؤلاء هم موضوع أبحاثه ولا يحقّ لهم النظر في ما يتعلّق بمجتمعاتهم إلا من خلال منظاره وتحت إشرافه وفي إطار رؤيته.

* أستاذ الحضارة العربية والإسلامية بجامعة قرطاج والرئيس المؤسس لجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية – فواصل.

Voir Mohamed Cherif Ferjani, Pour en finir avec l’exception islamique, éd. Nirvana, Tunis 2017, p.7

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.