الرئيسية » سيرة ذاتية ـ القطار الذي فات (المقال الثالث عشر): كسكسي سترازبورغ

سيرة ذاتية ـ القطار الذي فات (المقال الثالث عشر): كسكسي سترازبورغ

صالح القرمادي.

يواصل الشاعر والكاتب سوف عبيد سرد سيرته الذاتية وهو يتعرض في هذه الحلقة من جديد إلى العلاقة بين العالم العربي و أوروبا والفرق في التربية و التنشئة بين بلداننا و البلدان الأوروبية من حيث تكريس البعد الإنساني و موقع الفرد في المجتمع و احترام البيئة.

بقلم سُوف عبيد‎

ما كدتُ أخطو بضعَ خطوات على العُشب اليانع لأصِلَ إلى ضفاف البحيرة الصّغيرة في المنتزه حتى صاح بي حفيدي الذي بلغ منتصف سنته الخامسة وفي لهجة العتاب الشّديد بلغة فرنسية سلسة قائلا : “لا ندوس الأعشاب أبدا فقد نقتل الأزهار” وأشار إلى المَمرّ المخصّص الذي يُوصل إلى البحيرة غير بعيد منا فأسلمت له يدي ليقودني وسرعان ما زجره أبوه قائلا : “ما هكذا تخاطب جدّك !” فقلت له دَعهُ يعبّر كما يريد ومعه الحقّ فلقد تعلّم في روضة الأطفال هذه التوصيات في المحافظة على الطبيعة وأنا سعيد بملاحظته لي وحماسه في الذّود عنها”.

أوروبا أولى البوّابات التي نُطل منها على العالم والعلم والحضارة

شتّان بين تربيتنا وتربية بلاد الإفرنج والبَونُ أكبر وأكبر بين تربيتنا وتربية اليابان أو الصّين فهناك وهنالك يُنشِئون أطفالهم ـ بدرجة أولى ـ على قيم الاِنضباط والعمل والمبادرة والتعاون والاِبتكار أمّا رياض الأطفال لدينا فهي مُحتشدات كي يحبس الأولياء فيها أطفالهم ليستريحوا من شَغبهم وهي محلات تجاريّة لأربابها الذين همُّهم الوحيدُ هو الرّبح السّريع والوفير بلا رقيب ولا نظير وبلا برامج مدروسة لتحقيق ما نصبو إليه من اِعتزاز بشخصيتنا المتأصّلة في القيم الإنسانية والثريّة بأبعادها كي يتسنّى لها التفاعل الإيجابي مع بقية الأمم والشّعوب. فلقد أضحى العالم قريةً فالمُتجوّل في باريس وضواحيها يلاحظ مختلف الأجناس والألسنة والأزياء والمعتقدات وقد أدرك الفرنسيون أن هذا الاِختلاف والتنوّع لا يزيد بلادهم إلا قوّة بالاِستفادة من خبرات الوافدين إليهم ومن طاقاتهم ولا يزيد الثقافة الفرنسية إلا اِنتشارا في بقية البلدان فينتج عن ذلك الاِنتشار سُؤدُدُ فرنسا ويتّسع تأثيرُها ويزيد في العالم الذي تتنافس الأمم فيه بجميع الطرق على كسب خيراته الظاهرة والباطنة والحاضرة والآجلة ومنها الطاقات البديلة ومن أهمّها الطاقة الشمسية المتوفّرة طيلة كامل شهور السّنة في منطقة شمال إفريقيا القريبة جدّا من أوروبا.

أوروبا… هذه القارة التي يجب أن تكون علاقتنا بها متوازنة متعادلة ولكن لن تكون كذلك إلا إذا نحن اِرتقينا بأنفسنا في جميع المجالات وأصلحنا من أمرنا واِنسجمنا في ما بيننا ـ شعوبًا وبلدانا ـ فهي جارتنا وأولى البوّابات التي نُطل منها على العالم والعلم والحضارة وهي تُعتبر اِمتدادا لنا عبر التاريخ دائما فَصِلتُنا بها ظلت قائمةً منذ قديم الدّهور وسابق العصور فمنذ الفينيقيين والقرطاجنّيين الذين وصلوا حتّى إلى ضفافها الشمالية ومنذ الرّومان الذين كان بعض أهمّ قياصرتها وفلاسفتها وأدبائها من شمال إفريقيا ومنذ الاِمتداد العربي المغربيّ الإسلامي الذي اِستوطن الأندلس وصقليّة وجنوب أوروبا ومنذ المدّ العثماني الذي وصل إلى وسط أوروبا ومنذ الحقبة الاِستعمارية الأخيرة التي هيمنت فيها أوروبا على أغلب بلداننا ظلت العلاقات بين هذه القارة وبيننا دائمة الأواصر بين جَزر ومدّ وبين تأثير وتأثّر بحسب قوّة هذا أو ذاك فحتّى بعض أنواع المأكولات صارت مشتركة بيننا ومن خصائص الموائد لدينا ولديهم.

الحب بطعم الكسكسي

أذكر أنني تناولت طبقا شهيّا من الكسكسي في مطعم بمدينة سترازبورغ سنة 1991 بمناسبة مشاركتي ضمن وفد من الأدباء التونسيين وبدعوة من جمعية ـ بين الضفّتين ـ وقد اِخترتُ حينذاك الكسكسي لسببين أوّلا أردت اِكتشاف الكسكسي في بلاد الإفرنج وقد فوجئت بقراءته في قائمة هذا المطعم وثانيا ولعله الأهمّ وهو أنّني كنت يومئذ ذا مَسغبة شديدة فقد تأخّرنا بالغداء ولم نتناول فطور الصّباح فأقبلت إقبالا على ذلك الكسكسي وقد أُحضر لي في قِدر صغير من الفخار فما ألذّ طعمه وقد طُهي بغلال البحر وأين منه قول الأديب صالح القرمادي في إحدى قصائده وقد جعله الشاعر نورالدين صمّود في بيت على بحر المتقارب – كان ذلك آخر عهدنا بأستاذي صالح القرمادي رحمه الله عند الملتقى الثالث للشّعر التونسي بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 ـ:

أحبّك حبًّا شَهيّا طريّا * كلحم الخَروف على الكُسكسي…

يتبع…

مقالات من نفس السلسلة :

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.