الرئيسية » في ذكرى رحيل القاضي مختار اليحياوي: بين القلم والميزان

في ذكرى رحيل القاضي مختار اليحياوي: بين القلم والميزان

ننشر أسفله نص الكلمة التي ألقاها الكاتب بجمعية اِبن عرفة الثقافية يوم الأحد 22 ماي 2011 بمناسة تكريم صديقه مختار اليحياوي ـ وهو القاضي التونسي الذي قال لا في وجه الظلم فناله العسف وهو صديق دراسة الشاعر في معهد اِبن شرف بتونس العاصمة وأصيل بلدته غمراسن التي تقاسما كثيرا من ذكرياتها.

بقلم سُوف عبيد

ذات صيف من أصياف سنوات القرن العشرين وفي حُوشنا الكبير ببئر اِكتشفتُ المذياع فقد جاء به عمّي عليّ العائد وقتها من الجزائر فكنت أجلس إلى ذلك الصندوق الأخضر بعد صلاة المغرب لعَلّني أشاهد عبر الأضواء المنبعثة منه مصدر ما يعجّ به من أصوات وموسيقى فقد كنت أتخيل الناس داخله بحجم النّمل أو الذباب.

في تلك الأعوام بدأت أسمع الكبار يتحدثون بكلمات لم أكن أعرف معانيها مثل فرنسا ـ بورقيبة ـ بن يوسف ـ
جمال عبد الناصر ـ بريطانيا ـ الجبهة…

بعد هذا الاِكتشاف المذهل بقليل تسارعت بيننا أخبار الجندرمة والجيش الفرنسي الذي ظلّ يحتفظ بثكنة رمادة بالجنوب التونسي فشرعنا نحن الأطفال بأمر من الكبار طبعا ننتقل من حُوش إلى حوش نجمع القِرَبَ والأغطية نحملها على الأحمرة والبغال لتكون إسنادًا للمتطوّعين الذين شاركوا في المعركة ولا أنسى أبدا ساعة وداع عمّي مصباح في ذلك الصباح المغيّم البارد ليلتحق بالمجاهدين.

في الذكرى الأولى لجلاء الجيش الفرنسي عن مدينة بنزرت رافقت إليها والدي رحمه الله فرأينا أثر الرّصاص على جذوع الشوارع مازال باديا وما زلت أذكر الرئيس بورقيبة وهو يتوسّط جمال عبد الناصر وأحمد بن بلّة ووليّ العهد اللّيبي.

ثمّ في جوان سنة 1967 نزلنا أفواجا تلاميذَ وطلبة وشبابًا إلى باب البحر حيث اجتمعنا هناك من المعهد الصادقي ومن معهد اِبن شرف وكلية الآداب فسلكنا باب المنارة وباب الجديد وباب الجزيرة هاتفين : فلسطين عربية – فلسطين عربية – ثم تجمّعنا أمام سفارات بريطانيا وألمانيا والمركز الثقافي الأمريكي وجميعها كان في منطقة البحر ولست أدري كيف كانت تُرفعُ السيّارات ثمّ تٌقلب وبسرعة تشعل.

بعد أيّام كنا نودّع كتائب من الجيشرالتونسيّ وهو يتّجه إلى مصر عبر ليبيا فوصل بعد فوات الأوان…

*

كنا جيلا نعشق أبا ذر الغفاري
ونحبّ لُوركا وغيفارا
ويستهوينا مَاوْتسيغنغ وياسر عرفات
وننطلق بدءا من تونس
ومن تونس إلى المحيط والخليج
وإفريقيا والمتوسّط والعالم
فالكون أرحب
الكون أرحب…

*

كانت حرب رمضان / أكتوبر 1973 و النصر الذي لم يكتمل وكانت المحاكمات والإضرابات إلى أن جثم الخمبس الأسود في جانفي 1978 فكان الرّصاص ومنع الجولان ثمّ عاد ذلك الرّصاص في جانف 1984 فاِدلهمّت واِنسدت الآفاق إلى ذات سبت الموافق ل 7 نوفمبر سنة 1987.

*

يومها وبعده من الأيام حسبناها الحرية
اِستبشر الذي اِستبشر
حلُم الذي حلم
واِنخرط في الجوقة الذي اِنخرط…

*

بتوالي الأعوام اِنكشف الأمر وتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود فبدأت الكوابيس تتكدّس والآفاق تضيق والشباب يُلقي بنفسه في البحر طلبا للنجاة حالمًا برغد العيش في بلاد الإفرنج فتونس تلك الخضراء أمست جرداء…

*

صمت مَن صمت
و الذي اِنتهز الفرصة تسلّق
… والذي… والذي… والذي اِنتحر
والذي غُيّب وراء القضبان في الظلمات
والذي قيل إنه مات

ولكنَّ القِلّةَ البَرَرَةَ وناضلت وتحمّلت الويلات بالحقّ وقالتهاعاليا…لا… لا
أنتَ من أولئك الكرام العظام يا صديقي
مثال الشّجاعة والصّمود والتحدّ والثّبات
اليوم لقيتُك فكان العناق
المعذرة إذن
إن لم نلتق في زنزانة
ربما اِلتقينا في مسيرة
أو في صخب
أو ذات يوم ربيعي في عزّ الشّ
المعذرة
إن اِفترقنا سنواتٍ وسنوات
المعذرة
إن أصابني الإعياء
أو حتّى اليأس في وقت من ما
اليوم لقيتك
فلقيت تونس الحريّة
تونس التحدّي
تونس العطاء
تونس الإباء… تونس الخضراء
تونس التي تفخر بك
أنت يا صديقي
لأنّك أحد أبطالها الشّرفاء الذين قالوا زمن العُسر لا…لا…لا
فلمْ تنحنِ ولم تُساومْ
دائما كنتَ تقاوم
أمامًا تمضي
لا يمينا لا يسارًا
لا وسَطْ
إنّي شاعر
القلمُ في يده ما سقطْ
وعزائي اليومَ وسُلواني ياصديقي
عندما قلتَ لي إنّك كنتَ تقرأ لي دائمًا
ذلك شرفي فقطْ …

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.