الرئيسية » سيرة ذاتية ـ القطار الذي فات (المقال السادس) : مجالس الأنس

سيرة ذاتية ـ القطار الذي فات (المقال السادس) : مجالس الأنس

مقهى لونيفار بشارع الحبيب بورقيبة.

في هذا المقال السادس من سيرته الذاتية الشاعر سوف عبيد يستعرض ظاهرة المقاهي الأدبية أو تلك التي كان يجتمع فيها الكتاب و الفنانون في تونس العاصمة في السبعينات و الثمانينات من القرن التلي و كانت بمثابة النوادي لها روادها و أتباعها و لجيل الكاتب سوف عبيد فيها ذكريات كثيرة.

بقلم سُوف عبيد

سلامًا على تلك المجالس
سلاما على تلك المقاهي
سلاما سلامًا

عديدةٌ هي المقاهي التي جلستُ فيها للقراءة والكتابة حينا ولمحادثة الأصدقاء حينا آخر من بينها مقهى “المغرب” الذي كان بشارع فرنسا فقد كان يرتاده كثير من الأدباء الذين أدركتهم من بينهم البشير خريف وأبو زيّان السّعدي وحسن نصر والتّابعي الأخضر. وقد جلست فيه لأوّل مرة مع الأديب علي دَبْ سنة 1972 فصرت أستأنس بالجلوس فيه كلما وجدت الوقت المناسب خاصّة عندما أقتني الصّحف والمجلات من الكُشك المقابل له على الرصيف فأسارع بتصفحّها وقراءة بعض الصفحات منها حيث يطيب الاِنزواء هناك في عشيّات الصّيف على زقزقات أسراب عصافير أشجار باب البحر، لكنّ مقهى المغرب تحوّل منذ سنوات عديدة إلى دُكانيْن لبيع الملابس الجاهزة فكم جلس الأدباء هناك وكم وقفوا أمامه في أحاديث لا تنتهي وكم من كتاب وكم من مجلّة وصحيفة تبادلوها وكم من قصيدة وقصّة ومقالة قرؤوها وكم من فكرة تطارحوها !

سلاما على ذلك المجلس
سلاما على ذلك المقهى

سلاما سلاما على مقهى “الكون” بشارع الحبيب بورقيبة فقد جلستُ فيه سنوات عديدة مع أصدقائي الشّعراء محمد رضا الكافي وعبد الحميد خريف وخالد النجار ومختار اللغماني وعزوز الجملي ومحمد أحمد القابسي والتهامي الهاني ومع عديد الشّعراء والأدباء الآخرين بالإضافة إلى بعض أصدقائي من طلبة كلية الآداب بتونس من بينهم علي عبيد ومحمد علي بالعابد وأحمد الدبّابي والبزّازي العيّاري الذين كانوا من رفقاء الجنديّة أيضا.

كنت أجلس في مقهى “الكو ” عند الصّباح فبعد الظهر يمتلئ بفئة أخرى من الروّاد الذين يتحلّقون صاخبين وشاءت الظروف أن أغيب عن ذلك المقهى سنوات متوالية بعد أن تفرّق الشّمل ثم جلستُ فيه مرة بعد ذلك فإذا النادل قد عرفني وتذكّرني ولم يشأ أن يقبل مني ثمن القهوة حتّى بعد إلحاحي، أحسست حينذاك بعمق المشاعر الإنسانية التي تُفاجئنا من لَدُن أشخاص بسطاء نلتقيهم في خضمّ الحياة اليومية فيشحذون نفوسنا بقيم المروءة والشهامة.

وتعودُ
خُطايَ إلى المقهَى القديمِ
كان المَشربُ على اليسارِ
ذكرى لأصحابِي
فصارتِ الكأسُ اليمينَ مَجراهَا
والجالسونَ على اِنتظارِ
قد وقفُوا
ثمّ رحلوا بالأعوامِ على عَجلٍ
أرى…لاأرى
وحدَها المَرايا
لمّاعةٌ
هُنّ سبعٌ وسبعونَ من بياضِ الثّلج
على هامتِي
غير أنّ الشّمسَ في الشّارع
زقزقاتٌ و لوحاتٌ
فتونسُ العصافيرُ ما بَرِحتْ
وما بَحّتْ
وإن قطعُوا شجرَ باب البحر قالت
سأبني أعشاشِي في السُّطوح
وفي زوايا الجُدْران
وعلى الأسلاك قالتْ
وإن هدّمُوا… وإن ردَمُوا قالتْ
أجيءُ بين الحُلم و الحُلم
أسرابًا أسرابًا… فوقَ الجُفون
مُزقزقةً في طيّاتِ المعاطفِ
وإن طال الشّتاءُ
سأنسابُ
وأبني أعشاشِي في القلوبِ
قالت
الخضراءُ خضراءُ
في كل الفُصول
كلُّ نافذةٍ… نافذتِي
كلُّ بابٍ… مَفتوحٌ
لأحبابِي
عندما أدخلتُ يدي في جيبِي
مُنصرفًا
كدتُ ألامِسُ ريشَها
فأسرعَ النّادلُ وتَلقّانِي
ثمّ هَشَّ وبَشَّ وقال
هو أنتَ…وبالأحضان
قهوتُكَ يا سيّدِي
على حسابِي

سلاما سلاما

مقهى “الرّوتوندة”.

سلاما على مقهى “الرّوتوندة” ببناية الكُوليزي بشارع بورقيبة فقد جلستُ فيه سنواتٍ عديدةً خاصة عند صُبحيات أيّام الأحد حيث تلتئم في رُكن من الطابق العلويّ منه جماعةُ “نادي القصّة” ومن بين المواظبين على ذلك المجلس الأدباء رضوان الكوني وأحمد مَمُّو ومحمد الهادي بن صالح والتّابعي الأخضر ويوسف عبد العاطي والناصر التّومي ومصباح بوحبيل وغيرهم ويِحُلُّ بينهم من حين إلى آخر أدباء وصحفيّون آخرون فهذا المجلس الأدبيّ ظل سنوات مستمرّا حتّى أضحى مُلتقًى وعنوانا معروفا بين الأدباء التونسيين وحّتى لدى كثير من الأدباء المشارقة وهو أقرب إلى أحاديث الأنس وتبادل الأخبار والكتب والتعارف منه إلى الخوض في المسائل الجديّة العميقة. وقد جلستُ في هذا المقهى عند الصباح في غير أيام الأحد أيضا فأنتحِي طاولة جانبا وأنكبّ على القراءة أو الكتابة ساعة أو ساعتين ثمّ أنصرف وقد جلستُ في رحاب ذلك المقهى مع أصدقاء كثيرين من الأدباء والشّعراء والصحفيين من بينهم محمد المَيْ ومحمد بالرجب ونور الدين بالطيّب وسالم اللبّان وغيرهم… فساحتُه الداخليّة هادئة وقليلة الروّاد في الصّباح لكنها بعد الظهر تُمسي حلقات حلقات تعُجّ بالدخان و القوارير الأخرى.

سلاما على ذلك المجلس
سلاما على ذلك المقهى

سلاما سلاما على مقهى “فلُورن ” في أوّل شارع قرطاج فقد عرفت فيه عن قُرب صديقي الشاعر محمد بن صالح الذي بادرني بالتحيّة بعدما تملّى ملامحي فصرنا نتواعد فيه كلما أتى إلى العاصمة من المنستير وقد ضمّ هذا المقهى مجلسا صباحيا يوميّا متنوع الروّاد وكنت أجلس فيه من حين إلى آخر لمعرفة آخر أخبار الأنشطة الثقافية وقد كان من روّاده المواظبين المُمثّل محمد بن علي والسينمائي عُمَار الخليفي والموسيقي محمد القرفي والفنّان الفوتوغرافي محمد العايب والأدباء محمود بلعيد وسمير العيادي ومحمد بن رجب ومحمد الفريقي وعبد الحميد خريف ونور الدين بالطيّب وآخرون يجلسون قليلا أو يمرّون وقد ألقوا التحيّة عابرين من بينهم الرسّام بوعبانة الذي كان يجلس وحده.

ولا أنسى السيّد حسن بوزريبة المسؤول عن مهرجان قرطاج في بعض دوراته والذي اِستجاب لاِقتراحي في تنظيم سهرة الشّعر بمسرح قرطاج سنة 1992.

كانت سهرة ممتعة متنوّعة الأصوات وبإخراج مسرحي للبشير الدّريسي الذي اِقترح أن يسير الشّاعر في ممشى بين الشّموع ثم ينزل إلى الركح على مدارج فُرشت بساطا أحمرَ إلى أن يقفَ أمام المنصّة فيُلقي ما أراد من شعره ـ بدون رقابة مُسبقة ـ في مُدة عشرين دقيقة.

تسلّم كل شاعر في تلك السّهرة مكافأة مالية لعلّها كانت أكبر مكافأة في تونس بالنّسبة للشّعر!

وقد أقام الشّعراء الوافدون من خارج العاصمة في فندق أربعة نجوم وقدّم هؤلاء الشّعراءَ تِباعا في السّهرة الأديبان محمد البدوي وعلياء رحيم…

مقهى باريس.

سلامًا على تلك السهرة
سلاما على تلك المقاهي
سلاما على ذلك الزّمن…

سلاما على شارع الرشيد ببغداد هو قلبها النابض إذْ تنطلق منه الحياة بطيئة هادئة وتعود إليه صاخبة هادرة على ضفّتيْ نهر دجلة…

من شارع الرشيد يمكن أن ترى الحضارة التي اِنبثقت في بلاد الرّافدين قبل آلاف الأعوام وذلك عندما تلاحظ البناء بقوالب الطوب ومن خلال خطوط المباني وزواياها, ويتسنّى لك أن تُلامس بصمات الحضارة العربيّة عندما تشاهد خشب النّوافذ والشّرفات وقد نُقشت بدقّة وفنّ ضمن ثنائية الأنوار والظلال طبقا لمتطلبات المناخ ولعادات الشّرق في حُرمة البيت، وما أروع المآذن الأسطوانية المُسَجّات بالخَزف الأخضر والأزرق والأصفر في هندسة تُثير التأمّل وتُشيع الجلال وتبعث الجمال نحو عوالم المحبّة والصّفاء!

تلك هي بغداد : أخذتْ من كل الحضارات وصهرتها وبتوالي العصور اِستطاعت أن تجعل لنفسها طابعا خاصّا يلوح في شاعريّة الحياة وفي الذّوق المرهَف وفي حركة الناس وهم يَسْعَوْنَ بجدّ رغم المِحن ورغم تحديّات الزّمن.

بالقُرب من شارع المتنبّي الذي يبدأ من شارع الرّشيد ثمّة مقهى أمّ كلثوم… إنّه مقهى طريف أوصلني إليه صديقي الشّاعر إبراهيم زيدان الذي تعرفت إليه سنة 1984 أثناء زيارتي الأولى لبغداد ومن تلك المناسبة صرنا أصدقاء…

كل شيء عتيق في هذا المقهى : من البلاط إلى الأرائك إلى المراوح المتدليّة من السّقف ومن الأغاني المسجّلة على الأسطوانات إلى الأغاني الأخيرة في السّبعينات لأمّ كلثوم, تلك الأغاني التي تستمرّ من السّاعة السابعة صباحا إلى الحادية عشرة ليلا دون اِنقطاع.

أنشِئ هذا المقهى في سنوات الستّينات من القرن العشرين وظلّ محافظا على نمطه وعلى تقاليده من أب إلى اِبن بدون أي تغيير لأن صاحبه الأوّل كان من عشّاق أم كلثوم وثمّة روّاد محافظون على اِرتيادهم هذا المقهى سنوات طويلة للاِستماع وتراهم ينتظرون أغنيتهم المفضّلة السّاعات الطوال حتى أنّهم صاروا يُعرَفُون لدى عريف المقهى بأغنية من أغاني كوكب الشرق فتراهم وهُم منصتون شاردين بين صَوتها وصُورها في مختلف المناسبات عبر السّنوات وهي تُزيّن جُدران المقهى التي ما كادت تلوح بينها… إنّهم روّاد أوفياء لأمّ كلثوم ـ السِتّ ـ ولأمّ كلثوم المقهى… إنّهم من أعمار متفاوتة ومن فئات متنوّعة تراهم يترشّفون الشّايَ وكأنّي بهم يترشّفون الفنّ الأصيل والذّوق الرّفيع, فما أروعها من ساعةٍ في ذلك المقهى.

يتبع.

المقالات السابقة :

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.