الرئيسية » سيرة ذاتية – القطار الذي فات (المقال الخامس) : المليحةُ العذراء

سيرة ذاتية – القطار الذي فات (المقال الخامس) : المليحةُ العذراء

معهد ابن شرف بتونس.

نواصل نشر سلسلة مقالات الكاتب والشاعر سوف عبيد وهو يعود بالذاكرة في هذا المقال الخامس إلى سنوات المراهقة واكتشاف الأدب والشعر والفن على أيدي أساتذة تونسيين وأجانب نموا فيه حب المعرفة والانتماء إلى الحضارة الكونية دون تعصب أو انغلاق فكري.

بقلم سوف عبيد‎

عندما اِخترتُ شُعبة الآداب في المرحلة الثانية من التّعليم الثّانوي اِنتقلت من معهد الصّادقية إلى معهد اِبن شرف فدرّسني الأستاذ الشيخ سيّدي محمد سلاّم المعلّقات وشِعرَ جميل بثينة وبشّار وأبي نواس.

كان شيخنا يجلس على كرسيّ مكتبه فيُسَوّي من هيئته ويُخرج حُقّة النّشُوق ثم ينطلق في الدّرس كالمحاضرة فيشرح الكلمات بالعودة إلى أصلها واشتقاقِها ويُبيّن مختلف معانيها مُستشهدا بالشّعر والقرآن فأطلعنا على ثراء اللغة العربية ودقائقها. وصادف أن درّسنا أبا نواس في شهر رمضان فكان يُبدي تبرّمه من شرح قصائده وكثيًرا ما يستغفر اللّه عند بداية قراءتها لكنّه عند آخر الدّرس يدعو له بالمغفرة.

“هي الغادةُ حقّا وكأنّ القصيدة قيلت في وصفها !”

صادف أيضا أن جاءت إلى تونس في تلك السنة الفنانة هُيام يونس التي غنّت قصيدة “رَمَت الفؤاد مليحة عذراء” وقد بثّها التلفزيون التونسيّ فجاء شيخنا من الغد وهو يَلهج بالقصيدة المغنّاة ويُثني على صاحبتها بالفصاحة فقال شيخنا إنها أحسنت نُطق الحروف من مخارجها الصّحيحة وأبلغت معاني القصيدة البديعة. وعندما لاحظنا شدّة إعجابه بالأغنية سألناه في مَكر عن رأيه في تلك المغنية ؟

تنهّد شيخُنا ودَقّ من نَشُوقه في أنفه وقال: “هي الغادةُ حقّا وكأنّ القصيدة قيلت في وصفها !”

كان شيخُنا كثير الاِستشهاد بالزّمخشري والأصفهاني وهو لا يعترف بالأدباء والشّعراء المعاصرين ويعتبر لغتهم غير فصيحة حتّى طه حسين يرى في أسلوبه تكرارا ثقيلا … أمّا أبو القاسم الشّابي فيعتبر شعره الرّومنطيقيَّ لا يرقى إلى وصف الطبيعة وغيرها في شعر اِبن الرّومي واِبن خَفاجة.

رحمَ الله شيخي ! كان مُخلصا لثقافته التقليدية المتينة ووفيّا لذوقه القديم وكان مُحافظا على الزَيّ التونسيّ الأصيل صيفا وشتاءً مثل أستاذي الشّيخ سيّدي محمد علي السّهيلي وأستاذي الشّيخ سيّدي محمد الأخوة الذي درّسَنا مادّة التّربية الإسلامية بروح الرّفقة والمحبّة فغرس في نفوسنا القِيم الإسلامية السّمحةَ وقد زاد إجلالا وإكبارًا لدينا عندما كان يَهُمُّ يومًا بدخول القاعة إذْ أصابت وجهَهُ فَردةُ حذاءِ أحدِ التّلاميذ وقد رمى بها زميلا له فلم يغضبْ شيخُنا وإنّما أخذها وقال له بلطف : “لا تَمش حافيًا يا ولدي!”

ودرَسْنا الجغرافيا لدى الأستاذ سيّدي عبد الحميد الجربي ومازلت أذكر كيف كان يُبدي اِستغرابه من سياسة الدّولة الاِقتصادية القائمة على الاِشتراكية بالاِعتماد على القروض الرأسمالية ودرّسنا الأستاذ سيدي أحمد قاسم التاريخ المعاصر بداية من الثورة الفرنسية إلى حرب فلسطين سنة 1948 فكانت دروسه تفتح في أذهاننا مجال الوعي بالقضايا العربية. والأستاذان عبد الحميد الجربي وأحمد قاسم قد أتمّا دراستهما العالية في المشرق العربي مثل سيّدي عبد الكريم المرّاق أستاذ الفلسفة.

لذلك أعتبر أنّه من حُسن حظّي أنّني تتلمذت في تعليمي الثانوي إلى أساتذة جهابذة في اللغة العربية وأدبها إذ أنّ أغلبهم من خرّيجي جامع الزيتونة المتضّلعين، أما في اللغة الفرنسية فقد درّسني أساتذة فرنسيون كانوا حريصين ـ والحق يُقال ـ على تعليمنا بإخلاص ونزاهة بعيدا عن كل الشّوائب الاِستعمارية بل كانوا يصرّحون لنا بحبهم لتونس ولحضارتها العريقة ومساندتهم للقضية الفلسطينية، ودرّسني اللغة الإنقليزية أساتذة شُبّان من الولايات المتّحدة الأمريكية وقد عبّروا لنا مرّاتٍ عديدةً عن رفضهم لحرب بلادهم في الفيتنام، ودرّسني الموسيقى الأستاذ سيّدي العنّابي الذي كان يعزف لنا على كمنجته ونغنّي معه بعض الموشّحات والأناشيد، وفي الرسم درّسني الأستاذ فيكتور سَرفَاتي وهو من أشهر الرسّامين التونسيين في الأكَوَرال، فأنا من جيل تلقّى تكوينا ثقافيّا عميقا ومتنوّعا لذلك نشأنا على الاِعتزاز بتجذّرنا في وطننا وحضارتنا وعلى الاِنفتاح على بقيّة الحضارات والأمم ضمن القيم الإنسانيّة الخالدة.

الاِستماع إلى أمّ كلثوم في ذلك المقهى له رونقٌ باذخ ومُتعةٌ عجيبة

كيف أنسى السيّد ـ أحمد ـ بوّابَ المعهد الذي كثيرا ما أنشدَنا قصائد المتنبّي والمعرّي والشّابي وغيرهم فكنا نَعجَب من قوّة ذاكرته ومن عدم تناسُب مستواه الثقافيّ مع مهنته فكنّا نُجلّه ونُفاخر به تلاميذ المعاهد الأخرى الذين نلتقي بهم في ـ مقهى سيدي بوسعيد ـ عند باب العُلوج حيث كنا نجلس فيه كلما سمح لنا جدول أوقات الدّراسة فالمقهى لدى البعض قاعة للمراجعة والمطالعة وهو للعب الورق لدى البعض الآخر وهو لدى آخرين مكان اِستراتيجيّ حيث يراقبون منه الرائحات والغاديات من آنسات معهد نهج الباشا وقد عُرف ذلك المقهى أيضا ببثّه لأغاني أمّ كلثوم من المُسجّل القديم صباحا مساءً…

هيهاتَ… قد غزا التلفزيون والفضائيات الدّيار والمقاهي فما عُدت أسمع عندما أمرّ من ذلك المقهى “رباعيات الخيام” أو “أنا في اِنتظارك” أو “سيرة الحبّ”.

إنّ الاِستماع إلى أمّ كلثوم في ذلك المقهى له رونقٌ باذخ ومُتعةٌ عجيبة.

المقالات السابقة من نفس السلسلة :

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.