الرئيسية » للتأمل فقط : رحل الكاتب الكبير ألبار ممي وهو يردد : ” أنا تونسي أكثر منكم ” !

للتأمل فقط : رحل الكاتب الكبير ألبار ممي وهو يردد : ” أنا تونسي أكثر منكم ” !

رحل، يوم 22 ماي 2020، الكاتب الكبير ألبار ممي، أصيل تونس، حيث ولد في عام 1920، بعد عمر طويل شارف القرن من الزمان، قضى أكثر من ثلاثة أرباعه في البحث والتأليف حتى طال مرتبة علية تضاهي مراتب كبار معاصريه أمثال سارتر وكامو وجون دانيال وإدغار موران وغيرهم .

بقلم مصطفى عطية *

قرأت لألبار ممي أغلب كتبه، وقابلته لأول مرة سنة 1991، وكان قد حل بتونس في زيارة نظمتها له وكالة الإتصال الخارجي، كان تعارفنا الأول هذا منطلقا لصداقة امتدت على امتداد ثلاثة عقود، تخللتها رسائل عديدة، كان حتى آخر حياته يكتب رسائله بخط اليد ويرسلها لي عبر البريد العادي، إذ يرى في ذلك ضربا من ضروب الصداقة الحميمة.

يتقن العربية ويحفظ آيات من القرآن !!!

إقترحت عليه سنة 2006 ترجمة كتابه الشهير “Portrait du colonisé, précédé de Portrait du colonisateur’’ إلى اللغة العربية فوافق على الفور وتولى إقناع دار النشر الفرنسية صاحبة الحقوق التخلي عن حقوقها المادية والإبقاء على ملكيتها الأدبية فقط وهو ما تم بالفعل بعنوان “صورة المستعمر (بجر الميم الثانية) صورة المستعمر(بفتحها)”، ليكون أول وآخر كتاب يصدر له مترجما إلى العربية مما أسعده بشكل كبير، خاصة وانه يحسن العربية لغته الأم كتونسي، وأتذكر أنه قال لي ذات مرة أنه أتقن العربية في المدرسة والمعهد وخارجهما أيضا بٱنكبابه على دراسة القرآن، وأذهلني وقتها بأن سرد على مسامعي بعض الآيات ! سألته : “كيف ليهودي أن يحفظ القرآن”؟ فأجابني : “الإنسان إبن بيئته، وأنا تونسي يهودي ترعرعت في بيئة يطغى عليها الإسلام” ! ولما سألته إن كان مازال يعتبر نفسه تونسيا بعد أن استقر في باريس وتحصل على الجنسية الفرنسية سنة 1973 ؟ أجابني بغضب شديد وكأني أصبته في صميم كرامته : “أنا تونسي أكثر منك سي مصطفى” !!!

يوميات : ” تونس العام الأول “

آخر كتاب قرأته له يحمل عنوان “تونس : العام الأول”، وقد صدر منذ ثلاث سنوات تقريبا، وضمنه يومياته خلال السنة الأولى من إستقلال البلاد، وذلك من منظور مواطن تونسي يهودي متعلق بوطنه ومشدود بقوة لمرجعيته الدينية.

هذا الكتاب يؤكد لقارئه أن التمييز بين المواطنين التونسيين طبقا لمعتقداتهم الدينية مسألة مفتعلة جملة وتفصيلا وأخذت، خلال السنوات الأخيرة وظهور التيارات الإسلامية، حجما لا تستحقه، وهي مدبرة من جهات داخلية وخارجية تسعى إلي إضرام نيران الصراعات العقائدية في المنطقة، لأن اليهود هم ومنذ قرون عديدة، جزء لا يتجزأ من الشعب التونسي وتاريخه وحضارته، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تحويلهم إلى قضية ملتهبة، كما أن هذه الوضعية تتجاوز الواقع التونسي لتنسحب على ديار الإسلام بأكملها، والتي دأبت منذ ظهور الرسالة المحمدية على احتضان وحماية أتباع الديانات الأخرى ومكنتهم من ممارسة شعائرهم بكل حرية، ويسرت إندماجهم في منظومة المجتمعات المسلمة كمواطنين يتمتعون بكامل حقوقهم وعليهم ما على الأغلبية المسلمة من واجبات.

وتؤكد وقائع التاريخ أن هذا الإندماج وصل إلى حد أصبح فيه اليهود والنصارى من أقوى مجموعات النخبة التي تسيطر على دواليب الدولة، حتى أصبح من العادي جدا أن تعثر على قبر يهودي في مقبرة بمدينة إسلامية كالقيروان وقد كتب عليه “هنا يرقد فلان الفلاني المتوفى سنة كذا بالتاريخ العبري الموافق لسنة كذا بالتاريخ الهجري” !

وبعد سقوط الأندلس على أيدي الصليبيين الذين أقاموا محاكم التفتيش لتطهير شبه الجزيرة الإيبيرية من سكانها البهود والمسلمين، تولت الملكة إيزابيلا الكاتولوكية تهجيرهم وطردهم فحطوا رحالهم بتونس والجزائر والمغرب وليبيا أين وجدوا العناية والإحاطة وكل ظروف التوطين والإندماج، وإعتلوا مع مرور السنوات مناصب قيادية عليا في الأنظمة المتعاقبة في هذه الربوع، حتى صدر بتونس، في منتصف القرن التاسع عشر، “عهد الأمان” الذي وفر لليهود وبقية الأقليات الدينية والعرقية المزيد من الحقوق بل الإمتيازات التي تفوق، أحيانا، ما يتمتع به المسلمون من سكان البلاد، وعندما إشتدت المطاردات النازية لليهود في القارة العجوز وخارجها لم يجد هؤلاء ظروف الإقامة الآمنة إلا في ديار الإسلام التي آوتهم وأدمجتهم في نسيجها الإجتماعي وبنت لهم أماكن العبادة لأداء شعائرهم بكل حرية، بالرغم من حالات الفقر والضعف والهوان التي كانت تعاني منها بسبب عسف قوى الإستعمار.

أردت إستعراض هذه الحقائق مذكرا القراء بشخصية الكاتب التونسي الراحل ألبار ممي وروحه الوطنية العالية وقوة إنتمائه إلى بلده الأم تونس رغم الهجرة الطويلة التي إختارها والتي أتى على أسبابها في الجزء الثاني من يومياته.

* صحفي و كاتب.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.