الرئيسية » العدالة في تونس زمن الكورونا وتحديات الرقمنة

العدالة في تونس زمن الكورونا وتحديات الرقمنة

تعتبر رقمنة العدالة من متطلبات المحاكمة العادلة التي بنيت على الفصل في القضايا في أجل معقول وتقريب العدالة من المتقاضي. في ظل هذا الوضع الوبائي الصعب الذي يلتزم فيه المقيمون في أغلب دول العالم بالبقاء في الحجر المنزلي تنعقد الجلسات بصورة اعتيادية في الدول التي تعتمد الرقمنة في إجراءاتها. بينما تعطلت جلسات المحاكم ومصالح المتقاضين في الدول التي حافظت على الأطر التقليدية لسير الجلسات. فأين نحن في التجارب المقارنة للعدالة الرقمية؟

بقلم سارة اسماعيل *

أعلن المجلس الأعلى للقضاء في شهر مارس الفارط عن تعليق العمل بالمحاكم بسبب انتشار فيروس كوفيد 19 توقفت بموجبه الكتابات بكافة محاكم الجمهورية عن قبول الطعون الجزائية والمدنية. وتعطلت مصالح المتقاضين واقتصر العمل على قضايا الموقوفين والقضايا الاستعجالية الشديدة التأكد. بالإضافة الى البطء وتعقيد إجراءات التقاضي في الأوقات العادية طرحت أزمة فيروس كورونا المستجد على منظومات العدالة في تونس والعالم تحديا جديدا يتمثل في استمرارية المرفق العدلي في ظروف القوة القاهرة و برزت الرقمنة كواحد من أوكد الحلول في إطار التحول الرقمي.

وتتجسد رقمنة المحاكم على أرض الواقع في حشد وسائل تكنولوجية متطورة تغني عن الورق والسجلات والدفاتر وغيرها من الوسائل التقليدية للعمل القضائي التي تعودت عليها محكمتنا منذ خمسين عاما خلت. بل أنه قد حان الوقت للتغيير بإرساء عدالة رقمية في سبيل تحقيق جودة العدالة كمرفق عام وتعصيرها وتحقيق النجاعة المطلوبة.

مزايا العدالة الالكترونية

من مزايا العدالة الالكترونية تيسير الوصول إلى العدالة واقتصاد الجهد والوقت ذلك لأن جميع الخدمات عادة ما تكون متاحة عن بعد لجميع المتداخلين في المجال القضائي وتقتصر العدالة التقليدية على الجوانب التى تعجز الرقمنة عن إتاحتها و تتنافى مع مبادئ العدالة العامة. لأن العدالة المرقمنة سريعة وناجزة تمكن من تقريب العدالة من المواطنين وتعزيز ثقتهم بها وتحقيق المساواة بينهم وتقليص الرشوة والفساد وتحقيق الشفافية والنزاهة وتحسين مردودية المحاكم والبت في القضايا في الوقت المناسب بشكل لايضر بنوعية الأحكام.

كما تمكن المحامين من متابعة تطورات القضايا وأنواعها وتخفيف الأعباء على الدولة بتجنيبها نقل المشتبه بهم من أماكن الإيقاف الى المحكمة وذلك لأن المساءلة تتم عن بعد باستعمال وسائل السمعي البصري. كما تتيح المنظومات العدلية المرقمنة إيداع المستندات وعرائض الدعوى الكترونيا أي دون الحاجة لتنقل الأطراف ويتم خلاص مصاريف الدعوى بواسطة وسائل الدفع الالكتروني. ويمكن ربط المنظومة بمنظومات وزارات أخرى لوزارة الداخلية في ما يتعلق ببطاقات الجلب و التفتيش وغيرها.

التجارب المقارنة

غير أن صور المحكمة الرقمية تختلف من بلد إلى آخر ومن أنظمة إلى أخرى حسب إمكانيات الدول المادية واللوجستية والكفاءات المتوفرة لديها والميزانية المرصودة لقطاع العدالة ودرجة ملائمة التطور التكنولوجي مع الأنظمة القانونية النافذة.

وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية على سبيل المثال والتي أنشأها نظام روما الأساسي من أول من تبنى الرقمنة من خلال نظام موحد للإجراءات وقواعد الإثبات بين مختلف الجرائم التي تدخل في دائرة اختصاصها. وهي تعتمد آليات ووسائل عمل تختلف عن القضاء العادي. بحيث يمكن أن تعقد المحكمة جلساتها في مقرها الأصلي في العاصمة الهولندية لاهاي لكن يجوز للمحكمة أن تعقد جلساتها في مكان آخر عندما ترى ذلك مناسبا. ويتم سماع الشهود عن طريق تكنولوجيا العرض المرئي واستخدام وسائط الإعلام الصوتية في الدولة في صورة عدم إمكانية سفرهم إلى مقر المحكمة. وذلك بالنسبة لجلسات الدوائر التمهيدية والابتدائية.

ويكون كذلك حضور المحامين والخبراء وغيرهم من الأشخاص عن طريق وسائل الاتصال السمعية البصرية كما يكفل لهم القانون جواز تقديم الالتماسات أو المطالب باستعمال وسائل سمعية بصرية أو غيرها من الاشكال الإلكترونية كما يقع تسجيل الاستجوابات بالصوت أو الفيديو حسب إجراءات معينة تتمثل في تبليغ الشخص المستجوب بلغة يفهمها بأنه سيقع استجوابه بالصوت أو بالفيديو بدون تنازل الشخص عن حقه في حضور محام عند تسجيل استجوابه وفي حالة حدوث توقف عند الاستجواب تسجل حالة توقف والمدة الزمنية واستئناف الاستجواب.

وعند انتهاء الاستجواب تتاح للشخص توضيح شىء مما قاله أو إضافة شيء لم يقله. ويسجل وقت نهاية الاستجواب وتنسخ محتويات الشريط بأسرع ما يمكن بعد نهاية الاستجواب. ويوضع ختم على الشريط الأصلي ويتم بعث نسخ الى المستجوب أو محاميه للتوقيع عليه.

التجارب الأمريكية-اللاتينية

اعتمدت الدولة الكندية نظام التقاضي الالكتروني بواسطة شبكة خارجية خاصة تسمى الاكسترنت Extranet . وهي تربط مكتب المحامي عبر وسائط مباشرة بقصر العدالة. وتتيح للمحامي القيام بإجراءات التقاضي عن بعد من مكتبه دون التنقل إلى المحكمة. وفي الولايات المتحدة الأمريكية ظهر ما يسمى بالمحامي الرقمي أو الإلكتروني يقوم بربط مكتبه بزملائه وموكليه عبر شبكة الاتصال ويقدم استشارات رقمية.

في الولايات المتحدة الأمريكية ساعد على ظهور نظام التقاضي الالكتروني هو التشريع في حد ذاته الذي أدخل تعديلات على القواعد الفيدرالية في الإجراءات المدنية لتكتسي الوثائق الإلكترونية نفس حجية الوثائق الورقية وقامت عام 2000 بتبني مشروع قانون الدعاوى الالكترونية عن طريق نظام يتيح لكافة المسجلين في المنظومة من الاطلاع على المعلومات عن الدعاوى في أي وقت واستخراج الأحكام عن بعد. وشمل هذا الإجراء المحكمة الفيدرالية ومحاكم الاستئناف ومحاكم المقاطعات. وفي ولايات ميتشيغان وديلاوير ولويزيانا تم تطبيق ما يسمى بالمحاكم الافتراضية Cybercourt، التي تقوم على استخدام التقنية الحديثة في إجراءات القضايا المدنية دون الحاجة للحضور الشخصي الخصوم ومحاميهم.

التجارب الآسيوية: تجارب نموذجية

يعود ظهور أول محكمة افتراصية لتسوية الخلافات في سنغافورة. الى عام 2000 حيث افتتحت أول محكمة من نوعها متخصصة في تسوية الخلافات المتعلقة بالتجارة والأعمال الإلكترونية وذلك عبر موقع على الانترنت كبديل عن المحكمة التقليدية تنظر في الخلافات التجارية والمالية. وهو أمر فرضته متطلبات التجارة الإلكترونية والتباعد الجغرافي بين الشركات والتجار. وتقدم المحكمة التجارية الدولية السنغافورية خدمات سريعة وبرسوم رمزية جدا.

وتقدم المحكمة خدماتها بالاشتراك مع سبع جهات قضائية على رأسها وزارة العدل والمجلس الاقتصادي التنموي ومحاكم الخلافات الصغيرة والمركز الدولي السنغافوري للوساطة. وعلق وزير العدل السنغافوري هوبنغ كي على هذا الإنجاز بقوله “سواء رضينا بذلك أم لا فإن الإنترنت جعلت من عمل المحاكم اليوم عابرة للحدود وهذا ما سيخير رجال الأعمال والمال على اختيار الأسلوب الأمثل في التعامل شبكيا في المستقبل”.

ترفع الدعوى لدى هذه المحكمة الالكترونية عن طريق استمارة على موقعها على الإنترنت ويسلم فورا عدد القضية. ثم تقوم المحكمة بمراسلة المدعى عليه في ظرف ثلاثة أيام من استلام الدعوى.

القارة الاوروبية: الاقتصار على المجال التجاري

أصدر الاتحاد الأوروبي توجيهات للدول الأعضاء تحث على استعمال الوسائل التكنولوجية في العالم الالكتروني وفي مجتمع المعلومات في فض النزاعات. وهو ما تضمنته المادة 17 من التوجيه الأوروبي رقم 31/2000 بشأن تنظيم الجوانب القانونية لخدمة مجتمع المعلومات ومن الدول التي طبقت هذا التوجه المملكة البريطانية. ففي محكمة لندن للتحكيم الدولي يقع استخدام تكنولوجيا المعلومات في إدارة عملية التحكيم بموجب اتفاق المحكمين وأطراف النزاع.

وقد وقع اعتماد بروتوكول مجمع لندن للمحكمين الذي يضبط استخدام تقنيات المعلومات في تبادل المستندات وغيرها من المعلومات فيما بين أطراف النزاع والمحكمين وبين أطراف النزاع أنفسهم بما يلائم احتياجات عملية التحكيم. فهذا النظام من التحكيم السريع المتمثل في التحكيم الالكتروني الافتراضي هو صور من صور التحكيم في مجالات التجارة الإلكترونية والملكية الفكرية المتعلقة بالإنترنت إذ يتم تقديم طلب التحكيم الى المركز المعني بواسطة ملء النموذج المبين على موقع الانترنت. بلغت سنة 2018 نسبة استعمال الفيديو في التحكيم الدولي 43% من المتنازعين.

الدول العربية : تجارب جنينية

أما في الدول العربية فقد بقيت الخطوات بطيئة ومحتشمة لان المحاولات لاترتقي الى تركيز محكمة رقمية تؤدي إلى إعفاء المحامين والخصوم من الحضور لدى المحاكم . من التجارب الأكثر نضجا نذكر محاكم دبي والمغرب. حيث أحدثت دبي منظومة التقاضي الذكي الذي يمثل مثالا واقعيا للمحكمة الرقمية حيث يسمح بإجراء محاكمة الكترونية مرئية. ويجمع هذا التطبيق على منصة رقمية كلا من القاضي في قاعة المحكمة والمدعي والمدعى عليهم والشهود والخبراء والمترجمين وغيرهم في وقت واحد وأماكن مختلفة. ويكون حضور الشهود أمام القاضي حضورا إلكترونيا.

كما تعتبر المغرب نموذجا عربيا لرقمنة المحاكم حيث وضعت استراتيجية لرقمنة المحاكم على مدار سبع سنوات من عام 2013 الى عام 2020. وكان المخطط في البداية يشمل المحكمة التجارية بمراكش ومحكمة النقض والمحكمة الابتدائية بالدار البيضاء والمحكمة الابتدائية بفاس ومكناس والناظور وأغادير وطنجة وتطوان. وتوفر المنظومة خدمة تتبع القضايا وخدمة الاطلاع على السجل العدلي ولائحة الإعلانات القضائية والسجل التجاري والخريطة القضائية.

على مستوى طرق العمل يقع توزيع الملفات على القضاة إلكترونيا إذ تتبع المحكمة طريقة رقمنة جميع الملفات ويقع تداولها إلكترونيا مع المحامين ومساعدي القضاء ومراكز الشرطة. ووقع تدريجيا إنهاء الازدواجية بين ما هو ورقي والكتروني. باعتماد لامادية السجلات والمطبوعات.

تونس: ولادة قيصرية

في تونس الخطوات نحو الرقمنة بقيت خجولة رغم وجود اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي تعود الى ديسمبر 2015 لدعم المجهود الوطني الهادف إلى تعصير الجهاز القضائي. ورغم أنه أدى الى ولادة الدائرة النموذجية عدد 29 بالمحكمة الابتدائية بتونس إلا أنها لم تنجح بسبب عدم جاهزية المحاكم من حيث البنية التحتية ونقص الموارد البشرية من حيث العدد والكفاءات.

وقد كان انتشار الوباء سببا في الدفع إلى الإمام بالمنظومة العدلية حيث تبلورت مبادرات في الآونة الأخيرة تحت ضغط انتشار وباء الكورونا ومنها صياغة مقترح حول الجلسات عن بعد بالنسبة للموقوفين بين وزارة العدل وهيئة حماية المعطيات الشخصية باستعمال تقنية. ال visioconférence بعد إعلان إدارة السجن المدني بالمرناقية عن تخصيص فضاء لذلك.

وصدر مرسوم من رئاسة الحكومة في 30 أفريل لتأطير الجلسات عن بعد ويتعلق بإتمام مجلة الإجراءات الجزائية وهو مرسوم ينص الفصل الأول منه على إضافة فصل مكرر (الفصل 141مكرر) إلى مجلة الإجراءات الجزائية يمكن من خلاله للمحكمة أن تقرر من تلقاء نفسها أو بطلب من النيابة العمومية أو المتهم، حضور المتهم المودع بالسجن بجلسات المحاكمة والتصريح بالحكم الصادر في شأنه، باستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري المؤمنة للتواصل بين قاعة الجلسة المنتصبة بها المحكمة والفضاء السجني المجهز للغرض، وذلك بعد عرض الأمر على النيابة العمومية لإبداء الرأي وشرط موافقة المتهم على ذلك.

كما تعالت في فترة الحجر الصحي اصوات من المتدخلين في المرفق العدلي كنقابة عدول الإشهاد للتسريع بإدخال تعديلات على المنظومة القانونية تسمح بتسجيل العقود عن بعد بينما ارتفعت أصوات أخرى للتحذير من خطر المساس من حقوق المتقاضين وضمانات المحاكمة العادلة خلال الجلسات الافتراضية.

وتظل هذه القرارات إرهاصات لن تؤتي أكلها إلا ببلورة مشروع متكامل حول رقمنة الإجراءات المدنية والجزائية واستغلال التكنولوجيات المتطورة لإحداث محكمة حديثة وإلكترونية “صفر-ورقية”.

* محامية متحصلة على الماجستير في قانون الأعمال.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.