الرئيسية » حول آليات التمويل المتاحة لمقاومة انتشار فيروس كورونا بتونس

حول آليات التمويل المتاحة لمقاومة انتشار فيروس كورونا بتونس

مقاومة انتشار فيروس كورونا هي عبارة عن حرب حقيقية تعيشها الشعوب في مواجهة هذا الوباء، ولخوض أي حرب هناك تكلفة مادية لتمويلها، لكن ما نلاحظه في الحرب التي تخوضها البلدان لمكافحة هذا الوباء المستجد عدم توازن الميزان الاقتصادي و المالي مع المتطلبات المالية لهذه الحرب بين الدول المتقدمة الغنية ودول تعاني أصلا من مشاكل اقتصادية و مالية كبرى كحال الدولة التونسية التي تعاني أصلا من هزّات اقتصادية واجتماعية منذ حوالي عشرة سنوات.

بقلم فيروز الشاذلي

هذه الوضعية الحرجة جعلت العديد من المواطنين العاديين يتساءلون عن كيفية تمويل هذه الإجراءات المطلوبة كالحجر الصحي الجماعي وتعطّل بعض الأنشطة الاقتصادية التي تهدّد الاقتصاد التونسي بخسارة بالمليارات من الناتج الداخلي وفقدان الآلاف من الطبقة الشغيلة لوظائفهم خاصة في القطاعات المتضررة مباشرة.
لا بد أن ندرك في البداية أن وباء كورونا هو عبارة عن جائحة استثنائية تتطلب حلولا استثنائية من حيث البحث عن الموارد المالية اللازمة لتجنيب بلادنا ويلات انتشار الفيروس، فالأولوية المطلقة الآن هي حماية المواطن التونسي قبل كل شيء فالشعب هو جوهر وجود الدولة وتمويل آليات مكافحة هذا الفيروس مهما كانت مكلفة لن تكون بحجم الخسائر البشرية والمادية في صورة لا قدّر الله وانتشر الفيروس.

تمويلات استثنائية تستند إلى مبدأ القوّة القاهرة

نحن الآن حيال ظرف غير طبيعي يجعلنا تحت طائلة القوّة القاهرة التي فرضها علينا واقع محاربة انتشار فيروس كورونا مما يجعلنا أمام إلزامية إعادة تنظيم أولوياتنا في توفير التمويلات العمومية لعمليات التعويض للأنشطة والقطاعات المتضررة من توقف نشاطها بسبب حظر التجول وعملية الحجر الجماعي وما يترتب عنه من فقدان الآلاف لوظائفهم، لذلك يجب على الحكومة في البداية إعادة هيكلة ميزانية الدولة لسنة 2020 بصفة جذرية من خلال إعادة برمجة نفقات الدولة على ضوء النفقات الطائلة التي تتطلبها عملية الحجر الصحي العام من تعويضات مالية لأصحاب المشاريع و العمال المسرّحين وكذلك خط التمويل لعمليات تأجيل القروض الصناعية والاستثمارية من البنوك العمومية و الخاصة.

هذا الظرف الاستثنائي يحتّم إذا التخلّي عن برنامج النفقات الكامل المبرمج لسنة 2020 مع الإبقاء فقط على النفقات الأساسية كالأجور وخطوط التمويل المرتبطة بالقطاع الصحي، أما القطاعات الأقل أولوية فيقع إدراجها ضمن برنامج تقشف نظرا لعدم وجود بديل آخر، مما يوفر للدولة على الأقل قرابة 1000 مليون دينار من ميزانية التصرف نحن في أمس الحاجة لها.

بالنسبة لبرنامج الاستثمارات العمومية بالعنوان الثاني من الميزانية، الأكيد أنه سيشهد هو كذلك مراجعة كبيرة بحكم عاملين أولهما التركيز الحالي على الاستثمار في البنية التحتية في المجال الصحي وما تمثله من أولوية مطلقة مرتبطة أساسا بتوفير آلات الرعاية الطبية للمصابين بفيروس كورونا خاصة أن مداواة هؤلاء المرضى تعتمد أساسا على أقسام الإنعاش و الآٍلات الطبية باهظة الثمن كأجهزة التنفس الاصطناعي.

العامل الثاني مرتبط بالظرف نفسه فالاستثمار العمومي يتطلب أرضية سانحة لإجراء طلبات العروض والدراسات الفنية اللازمة ولكن للأسف الأرضية غير سانحة لذلك على المدى القريب مما يجعل الدولة في وضعية التزام قانوني فقط مع الشركات و المقاولين الذين بدأوا فعلا في إنجاز مشاريع عمومية قبل ظهور هذه الجائحة. أما بقية المشاريع فعلى الأغلب سوف يتم تأجيل إشارة الانطلاق في مقابل تحويل الاعتمادات المخصّصة للغرض إلى تمويل عملية مكافحة وباء كورونا، لكن سوف تجد الدولة نفسها في هذه الحالة أمام مشكلة أخرى وهي تضرر العديد من الشركات الصغرى والمتوسطة بحكم اعتماد هذا النوع من المؤسسات على الصفقات العمومية وتقليص حجم الاعتمادات المخصصة لها سوف يفتح مشكلة أخرى تضاف إلى مشاكل القطاعات الأخرى.

أكثر عنصر يجب على الدولة التونسية أن توظف فيه جهدا ديبلوماسيا للاستفادة منه لتمويل هذه الحرب هو كيفية التعامل مع المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنوك الأوروبية للاستثمار لأننا في مرحلة قوةّ قاهرة تخول لنا حسب القانون الدولي التفاوض مع هذه المؤسسات لتأجيل سداد فوائض هذه القروض إلى السنة القادمة على أقل تقدير وهنا لا نعني إعادة جدولة الديون لأن الجدولة تفترض إعادة احتساب الفوائض حسب التأخير الحاصل من البلد المقترض والحال أننا لم نمتنع عن القيام بواجب السداد بل بحكم ظروف خارجة عن النطاق الموضوعي، مع العلم أن جميع هذه المؤسسات الدولية أبدت مواقف إيجابية تجاه التجاوب مع متطلبات المرحلة ومراعاة الظرف العالمي وهو ما يمكن تونس على الأقل من 1200 مليون دينار أخرى هي في أمس الحاجة إليها.

من جهة أخرى لا ننسى أن انهيار أسعار النفط العالمية سيكون له أثر إيجابي جدا من حيث تقليص الاعتمادات المخصّصة لدعم المحروقات و التي كانت مقدرة بحوالي 1800 مليون دينار مع اعتماد سعر 65 دولار لإعداد ميزانية 2020 كما نلاحظ الآن فالأسعار قد انخفضت كثيرا إلى مستوى يتجاوز الثلاثين دولارا بقليل وهو ما سيمثل تقليصا في نفقات الدعم بحوالي 800 مليون دينار.

الشفافية والاعتبار من أخطاء التعويضات بعد الثورة

تعبئة هذه الموارد المالية عبر إعادة هيكلة نفقات الدولة وتأجيل سداد مستحقات المؤسسات المالية الدولية يمكن أن يوفر للدولة مبدئيا خط تمويل بقرابة 3000 مليون دينار (حسب الميزانية المقررة لسنة 2020) مع إمكانية اللجوء إلى خط التمويل الذي وضعه البنك العالمي على ذمة الدول الأعضاء التي تعاني مشاكل مالية في التصدي لفيروس كورونا كتونس.

هذا بالنسبة لمشكلة التمويل، لكن تبقى مشكلة صرف هذه التمويلات في أمكنتها الصحيحة هي الأكبر وخاصة من حيث تطبيق مبدأ الشفافية في إسناد هذه التحويلات المالية وهو ما يحتم على الحكومة في التفكير جديا منذ الآن في وضع تصور وخارطة طريق كاملة مع قوانين ملائمة لتحديد المتضررين الحقيقيين وعدم التلاعب بآليات التعويض كما وقع سابقا بعد أحداث الثورة حينما تقرّر إسناد تعويضات استثنائية للمؤسسات التي تعرضت لخسائر مادية في أحداث الثورة فوجدنا مؤسسات اقتصادية قد تم تعويضها ماديا بالرغم من عدم تعرضها إلى أي اعتداء أو تخريب في مقابل مؤسسات متضررة حقيقة ولكن ملفها الإداري لا يتطابق مع المعايير التي تم إقرارها في الأمر الحكومي المتعلق بالتعويضات.

نفس هذا التلاعب وشبهات فساد مازالت إلى حد الآن تلاحق ملف تعويضات شهداء وجرحى الثورة، بداية من القائمة النهائية التي مازالت محل خلاف و العدد المضخم للجرحى وما رافق هذا الموضوع من شبهات حول مصداقية إسناد شهائد طبية لأشخاص لم يكونوا أصلا في الأماكن التي حصلت فيها مواجهات في أحداث جانفي 2011.

لذلك مسؤولية الحكومة تجاه هذا الملف ستكون مسؤولية جسيمة ولا يمكن لها النجاح في إدارته إلا من خلال مبدأين، أولا اعتماد المقولة التاريخية للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة حول المهم والأهم بترتيب أولويات التعويض حسب تضرر القطاعات الاقتصادية والعمال المنضويين تحت هذه القطاعات والمبدأ الثاني هو اعتماد الشفافية من خلال تقنين جميع إجراءات دراسة الملفات إلى حدود مرحلة التعويض النهائية و التنقيص إلى الدرجة الصفرية من احتمالية الاجتهاد الشخصي للمشرفين على ملف هذه التعويضات من خلال اعتماد المعايير الواضحة، لأننا بكل صراحة لا نريد أن يفتح ملف آخر يبقى لسنوات طويلة محل تجاذب وشد وجذب حول شبهات فساد قد أرهقت الاقتصاد والمجتمع التونسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.