الرئيسية » تونس بمواجهة خطر الاختناق بالديون الخارجية ولا بديل إلا بالعمل و الإنتاج

تونس بمواجهة خطر الاختناق بالديون الخارجية ولا بديل إلا بالعمل و الإنتاج

سياسة الاقتراض مثّلت خيارا لا مفر منه لتونس في الفترة الماضية ولكن لا يمكن الاستمرار في هذا الخيار إلى ما لا نهاية و البديل ليس بالأمر المستحيل و لكن يتطلب إرادة مرتبطة بالعمل و الإنتاجية وبلادنا لها العديد من الفرص غير المستغلة في هذا الغرض.

بقلم فوزي العبيدي

يعتبر الاستقلال الاقتصادي لأي دولة حجر الزاوية لبناء مستقبل أجيالها القادمة و المكمل الأساسي لاستقلالها السياسي فمناعة الأوطان لم تعد تقاس بمناعة الحدود الجغرافية بقدر ماتقاس بمناعة خياراتها الاقتصادية أمام الدول الدائنة و المؤسسات الدولية المانحة، فلا ننسى في هذا الإطار أن الوصاية الاقتصادية على تونس كانت السبب الرئيسي الذي مهّد للاحتلال الفرنسي وذلك عن طريق لجنة “الكوميسيون” المالي التي انتصبت سنة 1869 بعد أن اشتدت الأزمة المالية بتونس في ذلك الوقت و استحال على الإيالة التونسية تسديد ديونها الخارجية التي بلغت آنذاك 125 مليون فرنك، فأصبحت هذه اللجنة هي التي تحدد وتراقب التصرف في مالية الدولة.

التعجيل بمعالجة ملف الديون الخارجية

لذلك يعتبر ملف الديون الخارجية لتونس من أهم الملفات التي يجب طرحها للدرس و إيجاد الحلول اللازمة لتعديل ميزان النفقات والبحث عن الموارد المنتجة التي تمثل السبيل الوحيد الذي يمكننا من الخروج من هذه الوضعية الصعبة، فسياسة الاقتراض المتواصلة لا بديل عنها إلا إذا توفر العمل و الإنتاج.

بعد تسعة سنوات من الثورة، في بلاد أغلب أنشطتها الإنتاجية كانت معطلة، لا غرابة أن تصل فيها نسبة المديونية إلى قرابة 70% من الناتج المحلي الإجمالي فالاستهلاك دون إنتاج في المستوى انجرَّ عنه تراكم ديون قياسي بمبلغ تجاوز 80 مليار دينار فتفاقم النفقات المتعددة لميزانية الدولة في ظل استكمال جميع الحلول لتوفير الموارد الجبائية التي أصبحت ترزح تحتها المؤسسات الاقتصادية المنظمة أصبح الحل الوحيد هو الاقتراض وهو حل سهل في بدايته وخاتمته مآزق إقتصادية.

هذه السياسة المبنية على التداين بلا حد ولا قيد سوف تجعلنا في النهاية نفقد استقلالية القرار الوطني خاصة على مستوى الخيارات الاقتصادية وإن لم نُعجِّل في مراجعة هذا التوجه والتخفيض من سقف المديونية والتوقف خاصة عن سياسة الإنفاق والاستهلاك بلا هوادة بدون إنتاج سوف نجد نفسنا تحت الوصاية المباشرة لصندوق النقد الدولي و الدول الدائنة كما وقع سابقا لدول مشابهة كاليونان في السنوات الأخيرة، المكسيك و الأرجنتين في الثمانينات من القرن الماضي.

التشخيص الصحيح والموضوعي لملف حساس ومصيري لكافة مكونات الشعب التونسي هو الكفيل بإيجاد حلول فيما بعد وهذا لا يكون إلا بالابتعاد عن تسييس هذا الملف و استغلاله في مناكفات سياسية تضر ولا تنفع بل تبعد عنَّا الطريق الصحيحة لفهم الموضوع.

في هذا الإطار يجب أن نصارح نفسنا بداية أن الدولة التونسية، بحكم الظرف الاجتماعي المتسم بالتوتر بعد 2011، دخلت في نسق تهدئة اجتماعية كانت لها تكلفتها الباهظة وهذا مفهوم بحكم أن أغلب الحكومات منذ الحكومة الأولى التي تولاها المرحوم الباجي قائد السبسي سنة 2011 إلى آخر حكومة حالية وجدت نفسها تلعب دور رجل المطافي أمام الانتفاضات الشعبية، وهو ما انعكس سلبا على التوازنات المالية للدولة التي تحملت نفقات أكبر من طاقتها بكثير.

الترفيع المتواصل في الأجور دون زيادة تذكر في الانتاج

وهنا نستذكر أهم عوامل ساعدت على مضاعفة نفقات الدولة دون وجود موارد متأتية من الإنتاج وهي مضاعفة كتلة الأجور عبر الزيادات غير المدروسة والتي لم يستفد منها فعليا الموظف التونسي الذي أصبح أكثر فقرا وكذلك عبر الترفيع في أعداد المنتدبين في الوظيفة العمومية عبر إدماج عمال الحضائر و الآلية 16 لتصبح تونس أكبر دولة في العالم من حيث نسبة عدد عمال القطاع العام مقارنة بعدد السكان حيث تقدر كتلة الأجور في سنة 2020 بحوالي 20 مليار دينار أي 42% من ميزانية الدولة.

من الأسباب الأخرى التي عجّلت بتفاقم هذه الوضعية هي النفقات المتزايدة من قبل الدولة لتسوية خسائر المؤسسات العمومية والتي تقدر بآلاف المليارات وهنا نستذكر فقط على سبيل المثال رسملة الشركة التونسية للبنك التي وصلت تكلفتها قرابة 1000 مليون دينار بينما المؤسسات العمومية كافة باستثناء القِلَّة تتحصل على منحة تسيير و استغلال سنوية من ميزانية الدولة بينما من المفروض أن تكون مؤسسات إنتاجية تساهم في دعم موارد الدولة.

سمة أخرى زادت المشهد أكثر قَتَامةً هي عدم توجيه القروض الخارجية لميزانية الاستثمار العمومي فلو قيّمنا نسق ارتفاع الاستثمار العمومي بالأسعار القارة لسنة 2010 سوف نجده قد تراجع بنسبة كبيرة حيث لم يتجاوز سقف 6900 مليون دينار مقارنة بسقف 4000 مليون دينار سنة 2010، ليتم توجيه أغلب القروض نحو النفقات الجارية كنفقات الدعم بحوالي 400 مليون دينار.

في السنوات الأخيرة، هناك عديد الأسباب الأخرى التي ساعدت على تضخم المديونية خاصة تدهور سعر صرف الدينار أمام العملتين الرئيسيتين الأورو و الدولار وهو ما يعني عمليا تضاعف الدين الخارجي لتونس بفعل نسق الانحدار الذي سجله سعر صرف الدينار.

علاوة على ذلك سجلت كلفة القروض التونسية ارتفاعا ملحوظا بفعل تراجع الضمانات المقدمة من طرف الفاعلين الدوليين لصالح الدولة التونسية لتكون قادرة على الولوج للأسواق المالية الهامة خاصة على مستوى السوق المالية الأمريكية حيث تقلصت فترة الضمان من قبل الحكومة الأمريكية من 17 سنة إلى 6 سنوات فقط وتقلص كذلك ضمان الحكومة اليابانية ممثلة في الوكالة اليابانية للتعاون الدولي إلى 10 سنوات فقط وهذا يرجع بالأساس إلى تدهور الترقيم السيادي لتونس من قبل المؤسسات العالمية وهذا ما دفع إلى ارتفاع نسبة الفائدة عند الاقتراض إلى نسب عالية.

كشفت التقارير الرسمية لدائرة المحاسبات أن تونس ستسدد، بداية من سنة 2021 وحتى سنة 2025، دفعات قروض بقيمة ألف مليون دولار سنويا وستواصل تونس سداد القروض المتحصل عليها مع موفى سنة 2016 إلى حد 2055. علما و أن التزامات الدولة بلغت بعنوان الاقتراض الخارجي، للفترة 2011-2016 زهاء 38 مليار دينار.

نقائص عديدة على مستوى التصرف في الدين العمومي

هذا الملف لا يشكو فقط من تضخم سقف المديونية بل يشمل كذلك عدم حوكمة التصرف وحسن استغلال الفرص التي أتيحت لتونس من قبل شركائها الاقتصاديين الأساسيين الذين وافقوا على الانخراط في التمشي الرامي لتحويل جزء من الديون إلى استثمارات مباشرة في شكل مشاريع و رسكلة هذه الديون على شرط تحويلها إلى مشاريع تهم البنية التحتية للاقتصاد التونسي والتنمية المستديمة حَصْرًا، وهذا ما أكدته تقارير دائرة المحاسبات سابقا حيث أبرزت أن، ما بين سنة 2011 و2016، تم تحويل فقط 1% من مبلغ الدين الخارجي المتفق على تحويله إلى مشاريع أي ما يمثل 145 مليون أورو متأتية أساسا من قبل فرنسا و ألمانيا بمبلغ 60 مليون أورو لكل دولة و 25 مليون أورو من قبل إيطاليا.

عدم حسن التصرف مع هذه الفرصة المتاحة يمكن أن يترتب عنه إعادة دفع كامل مبلغ هذه الديون في صورة الإخلال بآجال تحويل الديون إلى استثمار في مشاريع البنية التحتية كما هو الحال بالنسبة للديون الألمانية حيث ستكون تونس مجبرة إلى إعادة دفع كامل مبلغ الدين بما فيها المبالغ المحوّلة إذا لم تقم بتحويل هذه الديون إلى مشاريع قبل 30 جوان 2021.

في نفس الإطار لم تشهد الاتفاقيات الأخرى لرسكلة الديون مع فرنسا وإيطاليا نسق كبير والتي من المفروض أن يتم تحويلها لتمويل عديد مشاريع البنية التحتية وهو ما يعبر عن ضعف فادح على مستوى الاستغلال المتاح للحد من مخاطر التداين الخارجي عن طريق تحويل هذه الديون إلى مشاريع تنموية، بل بالعكس سوف يعطي انطباعا على عدم جدية الطرف التونسي، مما يدفع بالدول الصديقة التي دخلت في هذا المنحى لمساعدة تونس على تغيير سياستها، وهو ما فعلته دول الإتحاد الأوروبي بالفعل مع دول إفريقية أخرى لم تظهر جدية كبيرة في التعامل مع مسار رسكلة الديون وتوجيهها للتنمية البشرية المستدامة.

لهذا لا بد في البداية من وجود برنامج حوكمة كامل لسياسة التداين الخارجي للابتعاد عن الارتجال والعشوائية في أخذ قرارات مصيرية تبعاتها على الاقتصاد التونسي على المدى البعيد سواءا بالسلب أو الإيجاب، من خلال تحديد إستراتيجية واضحة الأهداف تسمح بتعبئة موارد الاقتراض الخارجية لمشاريع تنموية تم إعدادها مسبقا حسب الحاجيات المستقبلية لنمو الاقتصاد التونسي وهو ما يُمكِّن من كسر حاجز الضغوطات المسلط كل سنة مالية على التوازنات المالية لميزانية الدولة، و هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق على أمر الواقع إلا بتوفر عامل آخر وهو إشراك الهياكل المختصة بالتخطيط التابعة لوزارة التنمية والاستثمار وكذلك البنك المركزي و بطبيعة الحال ممثلي وزارة المالية ضمن هيكل موحّد يسهر على متابعة هذه الإستراتيجية الوطنية للتصرف في الديون الخارجية.

لا يوجد بديل سوى العمل و الترفيع في الإنتاجية

سياسة الاقتراض مثّلت خيارا لا مفر منه في الفترة الماضية ولكن لا يمكن الاستمرار في هذا الخيار إلى ما لا نهاية لكن البديل ليس بالأمر المستحيل و لكن يتطلب إرادة الشعوب المرتبطة بالعمل و الإنتاجية وتونس لها العديد من الفرص غير المستغلة في هذا الغرض فعلى المدى القصير سوف يكون بإمكان تونس الإنتفاع بالموارد المالية من العملة الصعبة التي سيوفرها دخول حقل “نوارة” مرحلة الإنتاج الفعلي وهذا لا يُمَكِّن من تجاوز الأزمة إلا باستغلال الموارد الأخرى كرجوع نسق إنتاج الفسفاط و استغلال الموارد المتجدّدة كحقول الطاقة الشمسية.

أما على المستوى البعيد فلا مناصة من فتح عديد الملفات التي تستحوذ على نفقات ضخمة وغير مبررة كملفات المؤسسات العمومية التي تكبّد ميزانية الدولة آلاف المليارات سنويا ومراجعة ملف الدعم الذي أصبح هو كذلك يمثل عبئ كبير على ميزانية الدولة. بينما يبقى الحل الأمثل هو التوجه نحو دعم الاستثمار الذي يبقى هو الدافع الحقيقي للتنمية و الإنتاج الذي يوفر الموارد البديلة عن التداين الخارجي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.