الرئيسية » في ذكرى ثورة 14 جانفي 2011 : “ستاتيكو” الثورجية مقابل العجز عن تحقيق إستحقاقات ثورة الشعب التونسي

في ذكرى ثورة 14 جانفي 2011 : “ستاتيكو” الثورجية مقابل العجز عن تحقيق إستحقاقات ثورة الشعب التونسي

إن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في تونس وعدم تغييره والنهوض به جعل الكثير يرى أن حركة النهضة، التي ارتقت إلى السلطة بداية من 2011، قد ذابت وانصهرت ضمن المنظومة القديمة السائدة التي ظلت جاثمة على أحلام التونسيين في تحقيق أهداف ثورتهم فعوض أن تنصر الحركة الإسلامية مطالب الشعب التونسي أصبحت هي نفسها غطاءا لبعض اللوبيات الفاسدة.

بقلم فيروز الشاذلي

الشعب التونسي كان واضحا جدا في تحديد استحقاقات ثورته وانتفاضته الشعبية في الفترة الممتدة بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 من خلال الشعارات المرفوعة زمنها كالمطالبة بالعدالة الاجتماعية والتصدي للفساد والتشغيل، وبعد ذلك كان المرجو من النخبة السياسية العمل على تطبيق هذه المطالب ضمن برامج واقعية، لكنه فوجىء بظواهر صوتية اكتفت بلعب دور “الثورجي” الذي لا بدائل له غير إدّعاء البطولة وإعلان البراءة من التسبّب بالحالة التي وصلنا إليها، سواءا الطبقة الحاكمة التي واصلت تقريبا نفس سياسة بن علي في جميع المجالات بل بنفس الأساليب ونفس وزراء المنظومة السابقة، أو المعارضة التي أصبحت أهدافها بعيدة عن مطالب الشعب ومشاكله لتصبح لدينا ظاهرة عبارة عن “ستاتيكو” (أو حالة جمود) للثورجية بعد 2011 حوّل وجهة الثورة التونسية عن مطالبها الأساسية وساهم في إضعاف هذه الأحزاب في حد ذاتها إلى أن وصلت إلى مرحلة من الضعف جعلتها غير قادرة على تكوين حكومة منبثقة عن إرادة برلمانية والتوجه نحو رئاسة الجمهورية في مسعى أخير لتكوين حكومة تحت مظلة رئيس الجمهورية قيس سعيّد، وهو ما ينبىء باستمرار خطر العودة للدكتاتورية ما لم تعدّل الأحزاب السياسية من إستراتجيتها في التعامل مع الأزمة الإقتصادية والاجتماعية في تونس و المنبثقة أساسا عن غياب العدالة الاجتماعية و انتشار الفساد في جميع القطاعات الحيوية للاقتصاد التونسي.

تحويل وجهة الثورة التونسية

“ستاتيكو” الثورجية بعد 2011 كانت له مظاهر عدة وطغى بشكل كبير على الحياة السياسية التونسية، وهو نوع من الإيغال في الشعبوية الزائفة والبحث عن انتصارات وهمية لا يراها إلا خيال مرتكبها، حيث تعدّدت مظاهر وسمات الثورجية كالتصريحات غير المسؤولة من قبل بعض شخصيات ائتلاف الكرامة كتهديد الدول الأجنبية من بينها فرنسا التي قد تؤدي إلى عزل تونس والإدعاء بأن أغلب ثروات تونس تحت السيطرة الفرنسية بالرغم أن أهم عقود الطاقة التونسية مع شركات إيطالية و انقليزية، وهذا يهدف بالأساس إلى مخاطبة الجانب العاطفي في الناخب التونسي ومن ثم التراجع عن هذه التصريحات بمجرد الفوز في الانتخابات التشريعية.

من المفارقات أن بعض الشخصيات غير المحسوبة على الثورة التجأت إلى أساليب الثورجية كالنائبة عبير موسي ومحاولتها تعطيل جلسات المصادقة على ميزانية الدولة من خلال الاعتصام تحت قبة البرلمان وما رافقه من تداول صور لأعضاء كتلتها وهم بصدد النوم بالمقر الرئيسي للبرلمان وهو ما جعلها في موقف لا تحسد عليه، حيث وجدت نفسها في سياق تعطيل إقرار ميزانية الدولة وتعطيل مصالح الشعب، مما دفعها للتراجع عن هذا الأمر.

هذا “الستاتيكو” حوّل العمل السياسي من عمل بنّاء لصالح بناء دولة القانون والمؤسسات لخدمة المواطن وتحقيق أهداف انتفاضته السلمية على الدكتاتورية إلى مجال خصب للتوتر السياسي والإيديولوجي وعدم القدرة على مجاراة الخصومات السياسية ووضعها في إطارها الصحيح، فهذه النخبة السياسية بجميع أطيافها من موالاة ومعارضة مثلت صدمة كبرى للتونسيين بما أبرزته من انحطاط أخلاقي وفكري أعطى نموذجا كاريكاتوريا للسياسي التونسي ما بعد 2011.

ولعل من أبرز المشاهد الكاريكاتورية في الحياة السياسية التونسية بعد 2011 هو تقديم حركة النهضة لنفسها على أنها الفاعل الأول في مجال رفع لواء الثورة ضد المنظومة القديمة إلا أنها مع الأيام أصبحت مفعولا بها وتتلاعب بها هذه المنظومة القديمة كما تشاء ومحاولتها اللعب على الحبلين أدّى بها إلى البقاء وحيدة في مناصرة حكومة الحبيب الجملي التي سقطت قبل ميلادها.

محاولة حركة النهضة الانخراط في المنظومة القديمة أو ما يسمى بالدولة العميقة عبر اختراق شبكاتها وترويضها بالرغم أن هذا الإرث القديم لا تزال علاّته مسؤولة عن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي وعدم تغييره والنهوض به، جعل الكثير يرى أن حركة النهضة قد ذابت وانصهرت ضمن هذه المنظومة مما مثّل جسرا للمنظومة السائدة للبقاء جاثمة على أحلام التونسيين في تحقيق أهداف ثورتهم فعوض أن تنصر الحركة مطالب الشعب أصبحت هي نفسها غطاءا لبعض هذه اللوبيات.

من جهة أخرى، أهم تيار سياسي مثقف كان يرجى منه أخذ المبادرة إلى تقديم بديل من خلاله تستطيع الثورة التونسية تجديد نفسها هو اليسار التونسي، لكن للأسف نجده يعيش على هامش الحياة السياسية في تونس بسبب عدم وجود رؤية وقراءة داخلية من قبل هذا التيار يستطيع من خلالها استيعاب مشاكل وأولويات الشعب التونسي عكس ما يتم على صعيد الفكر اليساري العالمي الذي أصبح يعيش مرحلة تجديد ونهضة فكرية حوّلته من اليسار المبني أساسا على الإيديولوجية الشيوعية في معانيها الواسعة إلى حركة اجتماعية يكون محورها الأساسي تنمية حقوق المواطن.

هذا القصور على مستوى تطور هيكلية الفكر اليساري التونسي حوّلته إلى ما يشبه الجهاز القضائي أو الأمني المكلف بمتابعة ملفات حركة النهضة عساه يستطيع تصفية خصمه الإيديولوجي الأبدي، فلو دققنا في جميع مؤتمرات أحزاب اليسار وبياناتها لوجدناها غير عابئة بمخاطبة الشعب التونسي ومعالجة مشاكله الآنية و المستقبلية بل هي استمرار للمناكفات مع حزب حركة النهضة.

استنفاد شرعية النضال ضد الدكتاتورية

لعلاّ أهم الزعماء السياسيين في تونس بعد 2011 مازالوا يجدون لنفسهم شرعية سياسية من خلال ما قاموا به من نضالات زمن الدكتاتورية ضد الاستبداد، لكن هذا السياق تبقى له خصوصياته المعيّنة و أدواته المرتبطة بهذا التوجه، وهو على قدر أهميته في تاريخ الدولة التونسية، لكن أغلب الأحزاب من اليمين و اليسار مازالت لم تخرج نهائيا من هذا الجلباب ولم تستوعب طريقة التفاعل مع متطلبات العمل الديمقراطي في مناخ الحرية، حيث أن الرصيد النضالي قد أستنفد مع مرور السنوات على حقبة بن علي، فعوض الانخراط الكامل في البحث عن الآليات الكفيلة بتطوير عمل أحزابها وفق متطلبات المرحلة الجديدة للانتقال الديمقراطي نرى أن أغلب الشخصيات السياسية مازالت تتخبّط في الشعارات والهوس بالثورة دون رؤية و برامج، فأصبحت تعيش مراهقة سياسية لا تليق بالنخب التي تريد بناء دولة القانون والمؤسسات والتي لا تكتفي بالتنظير الاتصالي لاستقطاب المناصرين والناخبين بل تتعدى ذلك للاهتمام بكيفية تغيير الواقع نحو الأفضل.

ولعلنا في هذا الإطار نستذكر على سبيل الذكر لا الحصر شخصيتين بارزتين لا يستطيع أحد أن يزايد على دورهما في النضال ضد الدكتاتورية زمن بن علي ولكن وجدت نفسها خارج الحياة السياسية وهما كل من الأستاذ عبد الرؤوف العيادي وأحمد نجيب الشابي.

الفرصة الأخيرة قبل العودة للدكتاتورية

بعد تسع سنوات من الثورة التونسية لا بد من توضيح أن جميع عوامل انتكاس المسار الديمقراطي متوفرة في تونس، و إذ نورد ذلك من باب الحرص على معالجة هذه المشاكل الهيكلية المهدّدة لديمقراطيتنا الناشئة، ومن بين هذه العوامل المساعدة على انتكاس المسار الديمقراطي هناك الاحتقان الاجتماعي بسبب الأزمة الاجتماعية الناتجة أساسا عن غلاء المعيشة وعدم تطور القطاع الاقتصادي بالتوازي مع الطفرة في الحريات الشخصية والجماعية مع وجود أهم وأخطر مشكلة في تونس حاليا وهي التداين المفرط التي تهدّد بإفلاس الدولة وعدم قدرتها على مجابهة التزاماتها تجاه المؤسسات المالية الدولية، إضافة لذلك وجود مخاطر أمنية خارجية بالإقليم تحدق بالبلاد وتزيد من هشاشة الوضع الداخلي لتونس حيث حذّر مركز “كارينغي” للأزمات الدولية أن جميع الدول التي خاضت مرحلة انتقال ديمقراطي ولم تحقّق انتعاشة اقتصادية في ظرف 12 سنة كان مآلها الرجوع إلى عصر الدكتاتورية آجلا أو عاجلا لأن أي ديمقراطية فقيرة وفاسدة سوف تأكل نفسها في الأخير.

مع الوضعية الراهنة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لتونس تعطي صورة واضحة على أن الدورة البرلمانية الحالية هي الفرصة الأخيرة للأحزاب السياسية للمساهمة في تكوين حزام سياسي للحكومة التي ستشكلها الشخصية المقترحة من قبل رئيس الدولة فدور الأحزاب لا ينتفي بالمرور إلى حكومة الرئيس لأنه في النهاية هذه الحكومة لا يمكن أن تقوم بعملها إلا بتوافق كامل مع أحزاب البرلمان لتمرير قوانينها وتطبيق الإصلاحات الضرورية.

لذلك الأحزاب مدعوة للقيام بمبادرات جدية ترتكز على النضج والتجربة السياسية للمرحلة الماضية عن طريق أخذ الحكمة من أخطائها و إتباع الرصانة والتعقل في مخاطبة الشعب التونسي الذي كفر بالسياسة وأهل السياسة في تونس من خلال تقديم رؤية و إستراتيجية تحظى بالثقة والمصداقية و الموضوعية تساعد الحكومة الجديدة على العمل ضمن حزام سياسي منسجم تكون أولوياته تطبيق استحقاقات الثورة التونسية.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.