الرئيسية » قراءة نقدية لديوان الهايكو “رائحة البرتقال” للشاعر المغربي الحسين بنصناع

قراءة نقدية لديوان الهايكو “رائحة البرتقال” للشاعر المغربي الحسين بنصناع

من خلال ديوانه: “رائحة البرتقال”، الشاعر المختص في قصيد الهايكو الحسين بنصناع يقدم ومضات تأملية ضمن تجربة فنية ترمي بثقلها في خندق إبداع يتشكل على هيئات نداء الذات المنفعلة، في حالة تماهي مع جزئيات مشاهد تتسرب إلى خزائن مخيال الشاعر الموهوب.

بقلم بلقاسم سداين *

أصبح العالم يضيق، ويضيق، وبسرعة قصوى. وأصبحت التجارب الإنسانية تجارب مشتركة، فانفتح الجميع على الجميع … واستفاد الكل من الكل …

فكان للفعل الثقافي الياباني امتداد واسع عبر العالم، فانفتحت العديد من الشعوب على تجربة شعر الهايكو الياباني المنبت، فوصل هذا الشعر إلى اللغة العربية عبر لغات وسيطة كالإنجليزية وغيرها، أو عبر الانفتاح الثقافي المختلف، أو عن طريق الدبلوماسية الثقافية…

فتنفس هذا الفن، وانتعش، واشتد عوده، ووجدت فيه الثقافة العربية وجهتها فاهتمت به نظما وتتبعا ونقدا ثم توسعت رقعة هذا الاهتمام به.

ويتكون شعر الهايكو من بيت واحد يتشكل من مطلع وانتهاء بقفل، وينطوي على معنى عميق، موجز ، مكثف … يتأسس على سبعة عشر مقطعا صوتيا، تتوزع جمله الشعرية على ثلاثة أسطر:

خمسة مقاطع
سبعة مقاطع
خمسة مقاطع

مع حرص الشاعر الأكيد على الاقتصاد، والإيجاز اللغوي، فهو إذن عبارة عن قصيدة مصغرة، ولحظة جمالية محفزة للمخيلة تركز على مشاهد قادرة على تلخيص الحياة بشكل مكثف، وبعيد على المباشرة، وهي بالتالي قصيدة مكتفية بذاتها، جمالية، رؤيوية، بعيدة عن الذاتية أو الايديولوجيا .

ومن ثنايا هذه التجربة، يطل الشاعر الهايكوي الحسين بنصناع بومضات تأملية من خلال ديوانه: “رائحة البرتقال”، فهي تجربة فنية ترمي بثقلها في خندق إبداع يتشكل على هيئات نداء الذات المنفعلة، في حالة تماهي مع جزئيات مشاهد تتسرب إلى خزائن مخيال الشاعر الموهوب، فيفرغها في شحن لغوية موحية ومكثفة، تلقي بضلالها إلى كثافة التأويل، وواسع الامتداد، لأنه شعر يعبق بروائح التأمل العميق، كرائحة البرتقال الفائحة.

وللشاعر الحسين بنصناع، في ذلك مرجعية تتغذى من مشاهد جمالية لا تمنحها الطبيعة أوالحياة إلا لرؤية الرائي المتبصر، الممتد إلى صغريات الأمور، والأشياء. فيتم التقاطها وقنصها بمهارة، وهو يركب سر الإبداع، ويسير بنا في رحلة فنية، تجعل القارئ/المتلقي بعضا من جزئيات أسرار الطبيعة الدفينة، فيزيل شاعرنا عنها غبارا سميكا فتولد باقة شعر تمدنا بالدفء الممتع، وتشدنا إليها شدا لذيذا، وهو يوظف ألفاظا بسيطة، متدفقة من أحاسيس عميقة هي الأخرى، وعندما تتسرب هذه الأحاسيس من ذات الشاعر فإنه يلبسها لباسا لغويا ماديا يتشكل عبر القراءة / التلقي انفجار مكون أخر هو المكون الذهني، فتنطلق شرارة التأويل المتعدد.

فأبيات الديوان هي أشعار صامتة مقتصدة على مستوى اللغة، لكن في أعماقها تتململ وتتحرك وبقوة انتفاضة تشعب الدلالات والتأويلات فتنفجر جمالا، وتتدفق عيونا صافية يقول:

زَيْتُونَةٌ تُقَبِّلُ الرَّصِيفَ
أَنْحَنِي
كَيْ أَعْبُرَ

فالشاعر يلتزم التزاما تاما بنظم شعر الهايكو، حيث نجده يوظف مفردات محشوة بدلالات أعمق، وأبعد، ما دام هذا النمط الفني يكتسب من بساطته امتناعه وحرونه وجموحه… يقول:

يَكَادُ لَوْنُهُ الأَسْوَدُ
يَخْتَفِي مِنْ شِدَّةِ الضَّوْءِ
ظِلُّ قُبَّعَتِي

وللشاعر في نظم شعره مادته الخام، ومرجعيته لصيقة بإشراقات الطبيعة المحيطة به، وبكل ما تزخر به من مكونات وعناصر تحمل في أحشاءها أسرار كبرى فهي بمثابة كبسولات تنفجر معنى ودلالة ، وهو يستحضر مفردات الطبيعة، ويحاورها ، وينسجم معها.. يقول:

أَوَّلُ يَوْمٍ رُفْقَةَ الْبُرْتُقَالِ
صَارَتْ قَصَائِدِي
تَنْمُو بِرَائِحَتِهِ

وما يميز النص الهايكوي عند الشاعر كونه يوظف تقنية القطع التركيبي، والوصل الدلالي، وما يلازمهما من اختصار: حذف/ تقديم/ تأخير …

وهي تقنية يعتمدها شعر الهايكو لاستفزاز العقل، واستنفار التفكير، لدى القارئ / المتلقي ليملأ الفراغ المحذوف، إنها فجوة تربك المخيلة، وتجعلها تستحضر كل الروابط الممكنة بين الكلمات.يقول الشاعر:

أَرَى صُورَتِي دَاخِلَهَا
السَّمَاءُ المَعْكُوسَةُ
فَي عَيْنَيْكِ
ويقول:
حَيَّةٌ رَقْطَاء
عَشْوَائِيَةُ الْأَلْوَانِ
أزِقَّةُ تَاوْرِيرِتَ

وكل بيت عند الشاعر يعد ومضة سريعة، وإشراقة تأملية تشع نورا يتسرب من داخل عناصر مكونات بيت الهايكو، فهو يعد مشهدا مقتنصا جماليا، قادرا على تلخيص حياة تسكن بداخلها طلقات رؤيوية، بعيدة، تنفتح على كل مستور ومختفي..فنجده يقول :

بُرْتُقَالَةٌ مُرَّةٌ
حَتَّى الأَمْسِ
بَدَتْ لِي بِطَعْمٍ مُخْتَلِفٍ

وما دام أن شعر الهايكو شعر يهدف إلى الوصول إلى لذة الكشف، فإن الهايكوي الحسين بنصناع، ومن خلال ديوانه هذا يلامس المهمل المهمش، فيجعل منه شيئا جميلا فيلفت عقول وعيون الناس إلى هذا المبعد الثانوي، المقصي، بغرض الاهتمام به..فيطالعنا بقوله :

أَيَّتُهَا الفَرَاشَةُ العَنِيدَةُ طِيرِي
أُحِبُّ المْشْيَ

كما أن لمسة الانتقال من العام إلى الخاص أو العكس. أو من الجزء إلى الكل أو العكس. تقنية اعتمدها الشاعر بفنية بارعة في كثير من أبياته، مبتعدا عن توظيف كثرة الأفعال، بل نجده يقتصر على الفعل الآني/ الحاضر ليجعل المتلقي يعيش حركية شعر الهايكو، وما دام أن جسد الهايكو الصغير الذي يقوم على التلميح، والإيحاء، والإيماء، فإننا نجد شاعرنا يبتعد عن الكلمات الزائدة كالحروف، والروابط، وهي سمة تميز شعر الهايكو، الذي ينطلق بالأساس من شدة الإيجاز لاِلتقاطة سريعة تملأها البساطة، والفتنة… فنقرأ له:

عَلَى ضَوْءِ القَمَرِ
تَتَمَدَّدُ
شُهُبُ السَّمَاءِ

ويكون الشاعر الحسين بنصناع بهذا العمل الجاد والجديد عمل شعري متميز يساهم به في إثراء الشعرية العربية، المنفتحة على العالمية، والكونية، من أجل ترسيخ ما هو جمالي، وفني في النفوس، لبناء حياة منسجمة، حياة حقيقية يتم التقاطها بأحاسيس بعيدة عن الذاتية والأنانية، إنه بحث حثيث عن الحياة في صفائها، وطهرها، في كل غائب، وبعيد عنا من أجل إرسال رسائل للإنسانية، وبعث إشارات الصفاء، والنقاء الروحي للجميع، ومن هنا جاء الهايكو العربي، استجابة لحاجة الثقافة العربية إلى التوجه التأملي البعيد عن كل صخب، وفوضى محقة ومتربصة ببني البشرية.

* كاتب وناقد.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.