الرئيسية » ومن الجهْل ما أدّى إلى بتْر أيادي المُسْلِمين !

ومن الجهْل ما أدّى إلى بتْر أيادي المُسْلِمين !

نعم، يحدث هذا إلى يوم النّاس هذا في الحجاز المغتصَب من قِبَل سلاَلَة آل سعود الوهّابيّة لقصور في نظر فقهاء بلاطهم: المشبّهة الحنبليّة، حيث عجزت أفْهام علمائهم الميامين عن تبيّن المعنى الحقيقيّ من أمر “اقطعوا” الوارد في الآية: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ (سورة المائدة، الآية 38).

بقلم أسعد جمعة *

مفادُ هذه الآية: امْنَعوا وتصدُّوا إلى، فأطبق جباهذة الفقه ولمّا كان من غير المعْقول أن يتصدّى المرْء لكلّ يدٍ آثمة أضْمَرت السّرِقَة، فإنّ المعْنى المَقْصود هاهنا بـ”أيْدِيَهما”: ليست هي الجَوارح البشريّة، بل القُوّة الآتِيَة للفعْل المُجَرَّم. فيتحصّل لنا من هذه الآية الكريمة معْنى: وتصدُّوا لقُوّة السّارِق والسَّارِقَة التي وظّفاها بقَصْد السّرقة، كأن تُسَلَّط عليهم عقوبة سالبة لحرّيتهما مثلاً. وشتّان بيْن هذا المعْنى وما ذهب إليه علماء هذه الأمّة الأجلاّء من فرض لحدّ “بتْر اليَد” التي لا يُنْتَهى إليها إلاّ بأمْر “القَطْع”، وعبَارَة “اقْطَعوا أيديهما” من هذا الحُكْمي “الشّرْعيّ” براء.

أمّا عن تأصيل هذه المسألة، فإنّه يكون من البابيْن النّقليّ والعقليّ. أمّا نقلاً، فإنّ المعْنى الحقيقيّ المقصود هاهنا، وهو المَنْع، قد ذُكِر في أكثر من آية من مُحْكَم التّنزيل، ومثاله قول الحقّ –تعالى عن افتراءاتهم علوًّا كبيرا-: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ (سورة محمّد، الآية 22)، وقوله –عزّ من قائل-: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ (سورة الرّعد، الآية 25)، ولفْظ “يقطَعون” قد ورَد ههنا بمعْنى “يمتنعون” ، و”يمنعون العمل” بعهْد الله، إلى غَيْر ذلك من الآيات العَاضدة لهذا المَعْنى. وكذا الشّأن فيما يتّصل بمَعْنى “القُوّة” المَحْمول في القرآن الكريم على كلِمَة : “اليَد”. يقول الحقّ –سبحانه-: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، سورَة ص، الآية 17، أي دَاوُود مالك القُوّة، وقال –عزّ من قائل: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ﴾ (سورة ص، الآية45)، أي أنّ الله قد تفضّل على هؤلاء بالقُوّة على إتيان الحقّ، لا أنّه –تبارك وتعالى- منَحَهم أياد كثيرة.

والدّليل على ارْتِباك فُقهاء الأمّة في تخريج حُكْم هذا الأثر الشّرعيّ، أنّهم أخلُّوا بالقصْد العَددِيّ للآية المذْكورة. ذلك أنّ مفاد قوله –تعلى- في صورة تسْليمنا بالمَعْنى الذي ذهبوا إليه، أن تُقطَع كلّ أيادي السّرق والسّارقة، وعدده أرْبَعة، لا أن يُكْتفى ببَتْر اثْنَتيْن منهما فقط. ولمّا كان الجمهور قد أجمع على أنّ حدّ السّرقة هو بتْر اليد الواحدة، وأنّ الأمّة لا يُمكن أن تُجْمِع على ضلالة، فإنّه قد صحّ لنا وجوب إعادة النّظر في أصْل هذا الحُكم “الشّرعيّ”. بل أنّ الأخذ بالمعْنى الذي ذهب إليه الأئمّة الأرْبعَة، وإمامهم في هذا المَنْحى السّلفي أحمَد بن حنْبل، الذي أسّس أحكامه الشّرعيّة على منطوق الحديث –مصحّحا ما لا يقلّ عن 13000 حديث في مسنده- ونبَذ اجتهاد الفقيه، حيث أطبق جمهور العُلماء على تسليط حكم بتْر اليد على السّارق، قد يفضي بنا إلى المسّ من الوِحْدة المعْنَويّة لمُحْكَم التّنزيل. فأنّى لنا أن نتبيّن وجه الآية الكريمة التّالية لقوله –تعالى- المُتضمّن للحْكم الشّرعيّ المذْكور، والإشارة هاهنا إلى قوله –عزّ من قائل-: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة المائدة، الآية 39)، أي بإثر بتْر يَد السّارق، وما القيمَة الدّلاليّة لتوْبته بعْد أن بُتِرَت يَده؟ هل من إمكانيّة لإعادة زرْع هذا العضو في جسم هذا المُذْنب؟ إنّ وحدة النصّ المنطقيّة عاضدة هي أيْضًا للمعْنى الذي ذهَبْنا إليه، فالتّوبة تكون بهذا المعْنى ناسخة لعقوبة السّجْن مثلاً التي سُلِّطت على الجاني، وفي هذه الحالة تمّحي آثارها أصْلا.

أمّا على جهة النّظر العقْليّ، فإنّ هذا الحَدّ، من حيث إطلاقيّته، لا يراعي مبدأ التّنسيب إزاء حجم الجريمة، ولا شروط التّخفيف أو التّشديد المُلْزِمَة للقاضي في إصداره لحكْمِه، ولا مبدإ تكافئ الضّرر النّاجم عن الجريمة بالضّرر النّاتج عن الحكم. ففي حالتنا هذه إذا كان الخسارة النّاتجة عن جريمة السّرقة قابلة للتّعْويض، فإنّ بتر يد السّارق فعل لا يمكن تداركه. هذا عدا ما يحفّ بهذا الفعْل المُشين من شبهة التّعْذيب والتّشفّي والوَحْشيّة، وكلّها مدُانَة بمنطق الأخلاق الدّينيّة والمَدنيّة.

فأنّى لك أن تخلعي ثوب الجاهليّة عنْك، أيا أمّة قد ضحكت من جهْلها الأُمَم ؟!

* جامعي وباحث.

مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.