الرئيسية » في علاقة بِالانْتخابات الرِئاسيّة القادمة : سلُطات رئيس الجمهوريّة و الحقُّ في الماءِ !

في علاقة بِالانْتخابات الرِئاسيّة القادمة : سلُطات رئيس الجمهوريّة و الحقُّ في الماءِ !

نظرا إلى أهميّته القصوى في حياة الإنسان ٬يُفرز انْقطاع الماء الصالح للشّرب المرّة تلو المرّة استياء كبيرا لدى أوساطٍ واسعةٍ من المجتمعِ. و بِتزامُنِ انقطاعِه في آخر مرّة (في عيدِ الأضْحى و في فصْل الصّيف القائِظ) مع حُمّى إيداع ملفات التّرشح إلى رئاسة الجمهوريّة٬ ارْتأى فيصل القابسي بإذاعة صفاقس في الأمر موضُوعا شيّقا لِلْنقاشِ ألا وهو׃ المهام الدستوريّة لِرئيس الجمهورية و أزمة انقطاع الماء.

بقلم فتحي الهمامي *

و قد كان السُّؤال المِحْوري٬ الذي دُعي إلى الإجابة عنه حقوقيّيْن(1) ٬هو التّالي: هل يُمكنُ لِرئيس الجمهورية٬ انْطلاقا من مشمولات منْصِبِه الدستورية٬ِ التّدخل بِصورةٍ من الصورِ لِلإسهامِ في حلِّ أزمة الماء المتكرّرة؟
مهام رئيس الجمهورية و الماء٬ أيُّ علاقةٍ؟

قدْ يرى البعضُ أنّ إقحام قضيّة الماء و انْحِباسِه عن الناس في النّقاش العمومي لِلْانتِخابات الرِئاسية ليْس سِوى سقْطة إعلاميّة أو سفْسطة وقع فيها مدير البرنامج!

فهؤلاء ينظرون إلى المهام الدستوريّة المسنودة لِرئيس الجمهورية على أنّها تتّصف بِالمحدودية من جهة و بالسموّ من جهة أخرى. و بالتالي من العبث أن تشمل الإهتمام بالماء وبِحوادث انْقطاعِ الماء! أما الإيحاءِ إلى أنّ للرئيسِ دورٌ في حلِّ أزمة الماء٬ فذلِك لا يُعدّ – في نظرِهم – سِوى هرطقة دستورية. فانْقطاع مياه الشُرب يتصدى له مُدير إدارة بِمؤسسة المرفق العمومي٬ و ليس رئيس الجمهورية! (“كفوا – إذن – عن الترويج للرئاسة الشموليّة و عن الحنين إليها٬ فذلك عهدٌ قد ولّى و انْقضى”) و كأنّي بِهم يُطالِبون مُستنكرين!

و لكن بِقراءةٍ مُتمعِنة لِلدستورِ وبِتفحصٍ عميقٍ لِكافةِ فصُولّه٬ و اعْتِمادا على رؤيةِ خبيرة القانون الدستوري سلسبيل القليبي (2)٬ لن أتردّدُ في القولِ أنّ مِنْ مشمولات منصب رِئيس الجمهورية الإهتمام بِملف الماء٬ و أنّ من صميمِ مهامِه إعطاء قضيّة انقطاع الماء الصالح للشرب العنايّة اللازمة.

و لعلّني لن أُبالغُ إنْ أشرتُ أيضا أنّ منْ معايير اختيارِ الرئيس القادم لبلادنا تلك المُتعلقة بِهذه القضيّة. أيْ أيُّ مُقاربةٍ – من اثنتيْن – سيعتمِدُها المترشح بِخصوصِ أزمة الماء؟

المقاربة الأولى: تجاهُلِ إشكاليّة الماء انْطِلاقا منْ نظرةٍ ضيّقةٍ إلى صلاحياتِ رئيس الجمهورية٬ أوْ المقاربة الثانيّة: الانْكبابِ عليْها انْطِلاقا من ذاتِ الصلاحيّاتِ.

الرئيس السّاهر على احترام الدستور:

لا يخْفى على المُتابعِ الفطِن لِلْشأن العام أنّ مشمولاتِ رئيس الجمهوريّة تتعرّض منذ الثورة إلى التصفيّة و في أحسنِ الأحوالِ إلى عملياتِ إضعافٍ منهجية٬ و كانت كِتابة الدستور الحلقة الأهم في ذلك. و تستند حمْلةُ “التبخيس” تلك إلى منطقٍ في ظاهرِه مقبولٌ٬ ألا وهو: نُضْعف سلطات رئيس الجمهورية لِلتّوقي من عودةِ الإستبدادِ. فالطُغيان انْدس في ثنايا السّلطات الواسعة!

و لكن الباطنُ السّياسي لِهذه الرّؤية يُخفي إرادة إنشاء نظام سياسي هجين تتشتّت فيه السّلطات الثلاث٬ لِتسود سُلطةِ الأحزابِ. و شتّان بين تفريق السّلط و توازُنّها׃ أساس الديمقراطية٬ و بين تشْتِيتِها و تفْكِيكِها!

و رغْم ذلك يبقى الدستور حمّال أوجه٬ ذو وجوه٬ يقول هذا و يقول ذاك حول سلطات رئيس الجمهورية٬ و القول عندي أن قراءة الدستور بأعين واعية بالتحديّات٬ و المدفوعة بِمشروع سياسي/إنساني٬ لنْ تُأكّد سِوى واجِب / حقّ رئيسِ الجمهورية التّدخل بِموجبِ الدستور للدفاع عن حقِّ المواطن في الماء.

فالماء يُعدّ عنصرًا أساسيًا للتمتع بحياة كريمة وعاملا حيويًا لإعمال العديد من الحقوق الأخرى٬ مثل الحق في الصحة و الحق في الحياة و الحق في التمتع بِمستوى معيشي لائق٬ و ذلك ما يؤكده الدستور في متنه أن:

– “الإنسان كائنا مكرّمًا” (توطئة الدستور)٬

– “الحق في الماء مضمون” (الفصل 44)٬

– “تهيّئ الدولة للمواطنين أسباب العيش الكريم” (الفصل 21)٬

– “تحمي الدولة كرامة الذات البشرية و حرمة الجسد وتمنع التعذيب المعنوي” (الفصل 23)٬

– “الصحة حق لكل إنسان” (الفصل 38)٬

– “حقوق الطفل على أبويه و الدولة ضمان الكرامة و الصحة” (الفصل 47).

و لا يخلو – أيضا – النفاذ إلى الحق في الماء في بلادنا من تمييز٬ بما تعانيه فئات هشة: ( السجناء- المحتجزون – سكان الريف…) من صعوبات أكبر في الوصول إلى الماء. و لا جدال أن في التمييز إخلالا بمبدأ العدالة الاجتماعية و التوازن بين الجهات (الفصل 12 من الدستور)٬ و بمبدأ تساوي المواطنين في الحقوق و الواجبات٬ و بمبدأ أسباب العيش الكريم للجميع (الفصل 21 من الدستور).

فاذا اعتبرنا أن انقطاع الماءِ المُتكرر انتهاكا واضِحا للدستور و تعديّا على حقوق إنسانية٬ و أن انعدام الأمن المائي يقوض أهم مبادئ العدالة الاجتماعية والمواطنة. فمن واجبِ رئيس الجمهورية – إذن – السّهر على احترام الدستور بِمنطوق الفصل 72 من الدستور. و من مهامه الاضطلاع بدوره في حماية الحقوقِ.

الرئيس السّاهر على احترام المعاهدات الدولية :

من جهتِها تعترف الصّكوك الدولية لِحقوق الإنسان بِحق كلّ شخص التّمتع بِمياه الشرب٬ و حقِّه في الحصولِ عليها بِكمية كافية لِمنع فِقدان الجسم للسوائل والمُحافظة على الصّحة الأساسية. لهذا ينبغي على الدّول توفير إمْدادات المِياه لِلاستخدامات الشّخصيّة والمنزليّة، و اتْخاذ التّدابير اللازمة لِضمان توافر الماء لاسْتخدامِه في إنتاج الغذاء وضمان الصحة و تأمين العيش والتمتع بِالممارسات الثقافيّة ذاتِ الصّلة.

و قد أطلقت لجة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في السابق هذا الاعلان الذي نصّ على أن “حق الإنسان في المياه يجب أن يكفل للجميع إمكان الحصول على المياه بشكل كافٍ وآمن ومقبول وبسعر مناسب مع القدرة على الوصول إليها وذلك لأغراض الاستخدام الشخصي والمنزلي”.

و الدولة التونسية كباقي الدول مدعوة إلى الإلْتزام بِتعهداتها المُضمّنة في المعاهدات الدولية التي صادقت إليها و منْها:

  • التّعهد بأن تتخذ ما يلزم من خطوات لِضمان التمتع الفعلي التدريجي بالحقوق المعترف بها، سالكة إلى ذلك جميع السبل المناسبة” ( المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) ٬
  • ” كل إنسان له الحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية” ( المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) ٬
  • ” تكفل الدولة الحق في التمتع بظروف معيشية ملائمة و الإمداد بالماء” (المادة 14 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ).

خِتاما في هذا الباب٬ ليْس في الأمر مُبالغة إنْ قُلنا أنّ تِكرار انْقطاع مياه الشرب و لِمُدد طويلة يُعدّ انتهاكا واضِحا لِحق من الحقوق الأساسية للإنسان مُتفق عليه في المعاهدات الدولية.

لهذا ليس في الأمر تجاوز لسلطات الرئيس إن قلنا أنها تشمل التّدخل للوقوف في وجه التجاوزات المستمرة للحق في مياه الشرب! إذْ ليس في ذلك إفراطا في سلطاته !

فالدستور ينصص على أن معاهدات المصادق عليها أعلى من القانونين (الفصل 20)٬ و واجب الدّولة (و على رأسها رئيس الجمهورية) احترامِها و الإيفاء بِالتزاماتِها.

الرئيس السّاهر على الأمن القومي لِلبلاد:

هل تندلعُ انتفاضة العطشى؟ هذا السؤال يسْري على ألْسن البعض بِسبب الإستياء العام من انْقطاع الماء. و قد سُجّل في نواحي عدة من البلاد انطلاق احتجاجات و تحرّكات اجتماعية تستغيث من توقف النفاذ إلى تلك المادة الحيويّة.
و تصنّف تونس من البلدان التي تقع تحت خط الفقر المائي٬ وهي مُهددة – فعلا – بِالجفاف و العطش إنْ لم تضع إستراتيجية وطنية مائية٬ تهدف إلى أن يكون النفاذ إلى الحق في الماء مُستداما للأجيال الحالية والمقبلة.

و لا يخفي على أحد أنّ الماء يُشكّل – نظرا لِأهميّته القصوى في حياة الأفراد و الأمم – عاملا مُهما في اندلاع النزاعات بين الدول. فواحِد من أوْجه الصراع الفلسطيني/الاسرائيلي قائم على الماء٬ و تحقيق الأمن المائي أضْحى من المفاهيم المستقرة في المعجم السياسي للدول.

كما يرتبط مفهوم الأمن المائي بمفهوم الأمن الغذائي فكلاهما يؤدّيان إلى بعضهما البعض، ونقص كميّات المياه الصّالحة لاستِخدام البَشر يؤدّي إلى الإضرار بالأمن الغذائي والأمن القومي. و قد أطلقت الأمم المتحدة في 2006 مفهوم الأمن البشري المتمّثل في بناء استراتيجية توفر الحماية ضد ما لا يُمكن التنبؤ به من أحداث يؤدي وقوعها إلى حدوث اضطراب في حياة البشر وسبل معيشتهم. وأعتبر أمن المياه أو الأمن المائي جزءً لا يتجزأ من هذا المفهوم الجديد والشامل.

و بالتالي يتجاوز مفهوم الأمن البشري مفهوم الأمن الوطني القائم فقط على الجوانب العسكرية والأمنية وما يتصل بهما.

و الخطورة التي تكتسيها قضية الماء تقتضي – إذن – تظافر جهود الدولة و إعمال كافة سلطات الدولة. و هنا يمتلك رئيس الجمهورية السلطات بنص الدستور للإسهام الفعال في إعمال الأمن المائي.

أوجه التدخل رئيس الجمهورية :

و بناء على ما تم تبيانه من أنه يتعين على رئيس الجمهورية التدخل لحل إشكالات الماء٬ يعين الدستور الآليات و يعددها و هي:

  • “يتولى التعيينات و الإعفاءات في الوظائف العليا… المتعلقة بالأمن القومي …” ( الفصل 78)٬
  • ” يختص رئيس الدولة بضبط السياسات العامة في (مجال) الأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية… كما يتولى رئاسة مجلس الأمن القومي … (و) اتخاذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية” (الفصل77)٬ “يمارس رئيس الجمهورية المبادرة التشريعية” (الفصل 62)٬
  • ” يلجأ إلى المحكمة الدستورية للطعن في قوانين صادق عليها البرلمان” (الفصل 120)٬
  • “لرئيس الجمهورية الحق في رد مشروع القانون إلى المجلس للتداول ثانية (الفصل 81)٬ ورد مشروع قانون المالية إلى مجلس النواب لقراءة ثانية” (الفصل 66)٬
  • “لرئيس الجمهورية أن يخاطب مجلس نواب الشعب” (الفصل 79)٬ و “حل مجلس نواب الشعب” (الفصل 77)٬ “تعديل الدستور” (الفصل 143) و “اللجوء إلى الإستفتاء” (الفصل144)٬
  • لرئيس الجمهورية أن “يطلب من مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة لنشاطها”… و الحق في “حل مجلس النواب و الدعوة الى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها” (الفصل 99 ) و “رئاسة (وجوبا) مجلس الوزراء في مجال الأمن القومي” (الفصل 93).

* ناشط حقوقي.

هوامش:
(1) الأستاذ عصام بلحسن و كاتب المقال: إذاعة صفاقس يوم 14 أوت 2019.
(2) Salsabil Klibi : Pour en finir avec «le mythe d’une petite présidence» ou d’un président de la république sans pouvoirs ! Tunisie Numérique | 16 août 2019

مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :


شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.