الرئيسية » تونس : عجز النخبة السياسية على إستكمال بناء المؤسسات الدستورية يعطّل إستكمال بناء المسار الديمقراطي

تونس : عجز النخبة السياسية على إستكمال بناء المؤسسات الدستورية يعطّل إستكمال بناء المسار الديمقراطي

بعد الوعكة الصحية التي تعرض لها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي يوم 27 جوان 2019، رجع الحديث بقوة في تونس على القصور المسجل في بناء المؤسسات الدستورية، ماعدا الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات، رغم مرور خمس سنوات على عهدة البرلمان الحالي، وهو ما يهدّد بنوع من الفراغ السياسي تجاه بعض الإشكاليات التي قد تطرأ.

بقلم فيروز الشاذلي

الهيئات الدستورية المستقلة لها أهمية كبرى لبناء المسار الديمقراطي المنشود وعدم وقوع الطرف المسيطر على الحياة السياسية في أساليب إستبداد واستغلال تعسفي للسلطة فقد أعطاها دستور 2014 أهمية كبرى من خلال الفصل 124 حيث عرّفها بأنها هيئات مستقلة تعمل على دعم الديمقراطية وعلى كافة مؤسسات الدولة تيسير عملها أي جعلها في علاقة عمودية مع أجهزة السلطة لما تكتسبه من علوية دستورية.

بحكم هذا الدور الهام لهذه الهيئات الدستورية الضرورية لضمان نجاح المسار الديمقراطي متّعها الدستور بالشخصية القانونية والإستقلالية الإدارية والمالية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهي تنتخب من قبل مجلس نواب الشعب بأغلبية معزّزة أي بــ145 صوت، وترفع للبرلمان تقريرا سنويا يناقش بالنسبة إلى كل هيئة في جلسة عامة مخصصة للغرض، لكن للأسف من ضمن ست مؤسسات دستورية لم يتم تركيز خمسة مؤسسات يحتاجها المسار الديمقراطي لتعزيز جذور الممارسة الديمقراطية بتونس .

الإنقسام السياسي يمنع قيام المحكمة الدستورية

تعتبر المحكمة الدستورية أهم مؤسسة دستورية لاستكمال بناء المسار الديمقراطي التونسي بإعتبار إختصاصها المتعلق بمراقبة تنفيذ أهم نص قانوني يحمي الديمقراطية في البلاد وهو الدستور والنظر في في تطابق القوانين مع أهدافه الديمقراطية، لكن هذا لم يمنع من وجود سكوت ضمني من قبل الطبقة السياسية على استكمال بناء هذه المؤسسة الدستورية، بل كان هناك إرتياح من قبل الأحزاب الحاكمة بترحيل إنتخاب أعضائها إلى ما بعد إنتخابات خريف 2019 باعتبار أن الإئتلاف الحاكم يرى نفسه منقسما سياسيا مع رئيس الجمهورية الذي يضمن له الدستور تعيين ثلث أعضاء المحكمة المعنية.

كما أن موضوع إنتخاب أعضاء المحكمةلم يكن ضاغطا بهذا الشكل بحكم أن الدور الذي أسنده الدستور لهذا تقوم به الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بمقتضى القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014.

لكن الوعكة الصحية لرئيس الجمهورية الأسبوع الفارط كانت حاسمة في إعادة طرح هذا الموضوع بقوة في الساحة السياسية بحكم دورها المحوري في تحديد وجود شغور رئاسي وقتي أو دائم ولا تتقاسمه أي جهة أخرى مع هذه المحكمة فهو إختصاصها الحصري حسب الدستور.

بالرغم من عدم وصول الأحداث إلى مستوى الشغور الوقتي أو الدائم إلا أن السؤال قد تم طرحه بكثرة حول سيناريو الفراغ الدستوري الذي كان يمكن أن تحدثه غياب المحكمة الدستورية، نظرا لأن الأطروحات التي تم تداولها كإمكانية إسناد معاينة الشغور لمجلس النواب بصفته سلطة أصلية أو تنقيح قانون 2014 للهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين لم تلقى صدى إيجابيا، فقد تم إعتبار الطرح الأول حل تلفيقي يكرّس مبدأ سيطرة جهة سياسية على المشهد السياسي في خرق دستوري واضح، أما الطرح الثاني فتم إعتباره رجوعا إلى الوراء لقانون إنتقالي يرجع لسنة 2014 كإعادة إستنساخ بدل أحكام الدستور الأصلية.

من المنتظر أن ينظر مجلس النواب في الأيام القادمة في إقتراحات من قبل بعض النواب لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية لكن في ظل مناخ من عدم الثقة بعد إنهيار مرحلة التوافق بين حركة النهضة المسيطرة على البرلمان الذي يمنحه الفصل 118 حق إنتخاب أربعة أعضاء وبين رئيس الجمهورية الذي يعيّن كذلك أربعة أعضاء وتبقى أربعة مقاعد أخرى يعيّنها المجلس الأعلى للقضاء، لذلك من شبه المستحيل أن يتم الإتفاق قريبا على هذه التعيينات.

هيئة الإتصال السمعي البصري

هذه الهيئة الدستورية لها أهمية كبرى حيث أفرد لها الفصل 127 من الدستور حصرية تعديل قطاع الإتصال السمعي البصري وتطويره كما تسهر على ضمان حرية التعبير والإعلام وعلى ضمان إعلام تعدّدي نزيه.

لكن هذه الهيئة تعطلت بحكم عدم التوصل إلى صيغة نهائية توافقية حول قانون أساسي ينظمها ويمهد الطريق لانتخاب أعضائها، فقد قامت الحكومة بتقديم مشروع قانون للمجلس وتمت مناقشته لكن وقع الإعتراض على بعض نقاطه من طرف الهياكل المعنية على غرار الهايكا المؤقتة في حد ذاتها ونقابات القطاع السمعي البصري، وإلى حدود تقديم مشروع قانون جديد يعوض مرسوم 116 لسنة 2011 تبقى الهايكا هي المشرفة على المجال مع كل ما رافقها من أزمات بين هذه الهيئة الوقتية وعدد من وسائل الإعلام السمعية البصرية، حيث أثبتت عجز الهايكا واعتبرها الكثير فاشلة في أداء مهامها، خاصة بعد إستقالة العديد من أعضائها في السنوات السابقة، مما جعلها هيئة مبتورة تنقصها الكفاءة.

وقد زاد التأزم حدّة بعد ذهاب عديد المؤسسات الإعلامية إلى عدم الإعتراف بصلاحيات الهيئة إذ إعتبرتها منتهية الصلوحية بحكم إنقضاء ست سنوات على تأسيسها حسب المرسوم عدد116 لسنة 2011.

هذا التعطيل في تنصيب الهيئة كان له أثر واضح في وجود نوع من الفوضى الإعلامية نتيجة بحث من أصحاب الطموح السياسي على إستغلال المنابر الإعلامية على ملكهم كبوق دعاية شخصي لحملة إنتخابية مسبّقة وفي تمرد واضح على قرارات الهايكا الوقتيّة. مما يبرز أن ضمان الشفافية في قطاع الإعلام هو ضمان لإرساء مجتمع ديمقراطي لأن الدغمائية الإعلامية هي مفتاح الرجوع للدكتاتورية.

هيئة حقوق الإنسان

هيئة أخرى لم تر النور لها دور كبير في إحترام معايير التعايش الديمقراطي حيث أعطاها الدستور ضمن الفصل 128 صلاحية مراقبة مدى إحترام الحريات وحقوق الإنسان وتعمل على تعزيزها وتقترح ما تراه لتطوير منظومة حقوق الإنسان كما تحقق الهيئة في حالات إنتهاك حقوق الإنسان لتسويتها أو إحالتها للجهات المختصة. من المقرر عند تنصيبها مستقبلا أن تستلم المشعل من الهيئة العليا للحقوق والحريات الأساسية الموجودة اليوم برئاسة توفيق بودربالة.

لكن رغم مصادقة البرلمان على القانون الأساسي المنظم لهذه الهيئة منذ سنة 2016 إلا أنه إلى حد هذه اللحظة لم تر الهيئة النور بسبب عدم بت البرلمان في الترشحات الواردة عليه للإنتماء لهذه الهيئة .

هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد

هذه الهيئة، بالرغم من أهميتها في محاربة الفساد، يبدو أنها كبقية الهيئات الدستورية سوف تتعطل كثيرا بحكم فشل الجلسة العامة التي إنعقدت بالبرلمان يوم الإربعاء خلال هذا الأسبوع في إنتخاب أي من المترشحين لعضوية الهيئة لعدم الحصول على الأصوات المطلوبة وفق النتائج النهائية لعملية التصويت حيث تحصل أكثر المترشحين على 143 صوتا بينما هو مطالب بالحصول على 145 صوتا فيما كان عدد الأوراق البيضاء 10 وعدد الأوراق الملغاة 6 بالرغم من وجود 36 مترشحا يتنافسون على تسعة مقاعد في الهيئة.

هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة

هذه الهيئة الدستورية من المفروض أن تكون ثورة في المنوال السياسي والإقتصادي حيث يتم إستشارتها وجوبا في مشاريع القوانين المتعلقة بالمسائل الإقتصادية والإجتماعية والبيئيّة وفي مخططات التنمية وللهيئة أن تبدي رأيها في المسائل الأخرى المتصلة بمجالها، ولكن، للأسف الشديد، لم يتم إستكمال تنصيبها والإقتصار على المصادقة على القانون الأساسي في إنتظار إنتخاب أعضائها لكي تستطيع مباشرة عملها.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.