الرئيسية » المحاكمة المزعومة للزعيم الحبيب بورقيبة بين حسابات السياسة ومكر التاريخ…

المحاكمة المزعومة للزعيم الحبيب بورقيبة بين حسابات السياسة ومكر التاريخ…

إنّ الكيفية التي تعالج بها قضايا المظالم السابقة وإعادة طرحها من خلال ما يسمى بالعدالة الإنتقالية يجعل البلاد محكومة بنوع من التوتّر السياسي قد يأخذ الأوضاع إلى ما هو أبعد من دائرة العدالة، إلى إحياء الخلافات السياسية القديمة داخل العائلات والجهات والمجتمع، بما في ذلك النزاعات العنيفة.

بقلم محسن بن عيسى *

أعتقد أنّه لم يسبق لمفهوم أن لقي رواجا واهتماما وبحثا مثل ما لقيه مفهوم “العدالة”. فقد تعدّدت حوله الدراسات بين مدارس وفرق “مُتبنّية” وأخرى “مُشكّكة”. و أبدى العديد من المفكرين إهتماما به حيث أوضح ابن خلدون أن العمران لا يتحقق إلا في ظل العدل ونظر إليه السفسطائيون على أنه مصلحة الأقوى.

ليس من شك أنّ قيم العدالة متأصّلة في العقيدة والقانون والسياسة، ونظرا لاختلاف تلك العناصر من ثقافة لأخرى وزمن لآخر، تختلف رؤيتها ودرجات تطبيقها وتنفيذ سياساتها الحاكمة. ولكن بالرغم من هذا الإختلاف هناك ضوابط وأساسيات تشكّل مجمل فلسفتها.

حيثيات تصفية الحساب

إنّ تواصل إتساع دائرة ” الإدانات” باسم العدالة يكشف أنّ أطروحة “التحول الديمقراطي” التي تمت صياغتها تحت ضغط الواقع السياسي حادت عن أهدافها. وليس لي أن أذكّر أنّ “الثورة” تشير عموما إلى الأهداف الكبرى التي تتحقق من خلالها التغيرات العميقة والممتدة في المجمتع على مستوى بنيته السياسية والإجتماعية، وليس في تكريس واستبطان “فكرة الإنتقام والتشويه”.

وإذا أردنا إستدعاء الماضي للحقيقة والإنصاف، فالماضي كلّ لا يتجزّأ، ولا يقبل الإختيار بين أحداثه أو المفاضلة بينها وإهمال ما يبدو للأطراف المؤثرة مُخالفا لأهدافها. فالعودة إلى حادثة إغتيال المرحوم صالح بن يوسف في هذه الحقبة من تاريخ تونس، يثير تساؤلات ويوجه التفكير لفكرة تصفية الحساب مع ” الحقبة البورقيبية” أكثر من شيء آخر. أليس غريبا أن يتم تحويل رجال الحركة الوطنية من مناضلين إلى ضحايا ومن أبطال إلى مجرمين. يبدو أن الحلم الثوري أجهض الحلم الإصلاحي ولم تعد المسألة في خانة الحقيقة وإصلاح الذاكرة.

لا يمكن الحكم على هذه القيادات السياسية التي كانت تعمل في ظروف إستثنائية وعلى صفيح ساخن على هذا النحو. فالممارسة السياسية تتأثر بالسياق إلى حدّ بعيد، وما هو ملائم أو ممكن في موقف ما، قد يكون غير ملائم أو بعيد المنال في موقف آخر. وأساليب السياسة وإن نرفض “التصفية”، تختلف في الحرب والسلم، وفي الأزمات و الأوقات الأشد هدوءا. وليس القرارات السياسية سمة مجرّدة وإنما إستجابة مناسبة لموقف معيّن وفي مكان وزمان محددين.

كان من الأجدر لو حسنت النوايا أن تُترك هذه الحادثة المرتبطة بالحركة الوطنية للمؤرخين والمؤسسات المختصّة لتصحيح الوقائع باسم “علميّة التاريخ” وتدارك الغموض والثغرات المسجلة. سينصف التاريخ حتما فرسان هذه الحركة كلّ حسب دوره وجهده وعطائه.

علينا أن نتّفق وأن الإيديولوجيات المغذّية للحقد “سقطت وإن استمرّت”، وأن السعي لإنهاء دور “الدولة الوطنية” والمساس برموزها هوجة عابرة .

صراعات وتناقضات في الأفق

إنّ الكيفية التي تعالج بها قضايا المظالم السابقة وإعادة طرحها يجعل البلاد محكومة بنوع من التوتّر السياسي قد يأخذ الأوضاع إلى ما هو أبعد من دائرة العدالة، إلى إحياء الخلافات السياسية القديمة داخل العائلات والجهات والمجتمع، بما في ذلك النزاعات العنيفة.

البلاد في حاجة إلى التفكير في المستقبل الذي لن يستطيع أحد فيه أن يُلغي أحدا، ومن ذلك توحيد المجتمع حول برامج وقضايا مشتركة، وليس بثّ التفرقة عبر تصوير الزعماء والمناضلين تصويرا سلبيا وكليا. فهذا لا يمكن أن يؤدي إلا إلى تغذية مشاعر الكره، وانعدام الثقة، وهذا هو الوجه الأكثر بشاعة في العمل السياسي.

إنّ مسائل الحياة لا تجري على المنطق دائما، وخاصة سنوات الثورة ، لذلك هناك حاجة لأن تتّجه الدولة إلى تنمية الشعور بالمصير المشترك الذي لا يتحقّق إلا بالسمو عن الأحقاد والضغائن والمظالم والإذلال. من أجل هذا السبب وحده يجب أن يكون هناك إقرار عام بوضع حدّ لحالة الانقسام داخل المجتمع والإتجاه نحو إعادة صياغة مجمل العلاقات ونظم المؤسسات والوعي العام.

لقد عالجت جنوب إفريقيا جراحها من حقبة التمييز العنصري انطلاقا من سنة 1995، ببيان الأسباب التي كانت وراء ما حدث، وطبيعة المعاناة، وتضمين وجهات نظر الضحايا ودوافع الذين تسببوا في الإنتهاكات. ولعلّ أبرز عوامل نجاحها عدم إتساعها لتكون “عملية علاجية”، وإنما تنزيلها في سياقها التاريخي والإجتماعي والثقافي. لقد إتجهت أكثر إلى المستقبل وإلى توليد الشعور بالإنتماء أكثر من النبش في الماضي والدعوة إلى الانتقام.

المصالحة لا تنجح إلا إذا أدركنا أننا نعمل على معالجة مظاهر الإستبداد واستغفال الشعب، وليس ضد حقبة نكرهها أو سياسة نختلف معها. والعدل والحرية والكرامة هي وحدها مرجعية هذه المصالحة وليست أحلام التشفي والانتقام المريضة.

المشكلة أنّ الواقع لا ينتظر إرادتنا، بل يفرض إيقاعه. لا شك أنّ التاريخ ماكر، فليس كل ما نسعى إلى تحقيقه ونريده يوصلنا إليه، بل نصل إلى ما يريده التاريخ أو الواقع.

* عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني.

مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.