الرئيسية » من أعلام المعاصرة المثقف الكبير الأستاذ مصطفى الفيلالي، رحمه الله…

من أعلام المعاصرة المثقف الكبير الأستاذ مصطفى الفيلالي، رحمه الله…

الموت لا يغيّب الحي ولكن يخلّده بأعماله، وممن أعماله لا تموت فقيدنا العزيز، بل فقيد الوطن ومَفْخرة أبنائه الأستاذ مصطفي الفيلالي، الذي هو أكثر من أستاذ وقائد وقدوة في كل مجال من مجالات حياته، النضالية والنقابية والإدارية والسياسية والنيابية والحزبية؛ وفي غير ما سوى ذلك من مجالات الإبداع الفكري والثقافي والفلسفي والديني.

بقلم الدكتور المنجي الكعبي *

رجل رؤية وإصلاح واستشراف، حتى لكان أحد القلائل، لا تغادرهم خطة أو يغادرونها – أو وظيفة أو مهمة أو رسالة – إلا وهو عالي الهمة كبير النفس، غير طَموع أو طموح في تكريم أو تشريف غير مستوجب أو مستحق؛ وإلا وهو لم يترك فيها بصمته القوية وكلمته النافذة، وكلمته الناقدة كذلك، وأسلوبه المتفرد.

أحد شيوخ الحكمة ومراجع النظر والتدبير

عاصر القبائل والعروش في أوْجها شهامة ووحدة كلمة، ونَفرة ونُصرة واستبسالاً من أجل الوطن ومجده، والدين وعزته، والرجولة وبيض أياديها؛ وعاصر الدولة الحديثة، تحت بسطة القائد الأوحد الموحِّد لقريبها وبعيدها، مغمورها ومهجورها، حضَرها وباديها، وكأنه أراد أن يبني من ورائه أمة واحدة موحدة، تكون كذلك الجزء الذي لا يتجزأ لوحدة المغرب العربي الكبير المأمول ثم للوحدة العربية الإسلامية. ولم يُعجزه حُلمه، وهو الذي يعلم أن الدول لا تُبني بعمر الأنسان القصير ولكن بأعمار الأجيال من عمر البشر، فمضى يُعدِّي على سلبيات المواقف ومخلفات العُقد وصعوبات الظروف بالكتابة والحوار والمحاضرة والتحرك لدفع الهمم وإثارة العزائم، من أجل التمسك بالعروة الوثقى، التي لم يكن ليَفلت حبلها من يده، ككل مؤمن بمستقبل بلاده تحت غير نير الذلّ والتبعية للعادي والمعتدي على ذاتيتها القومية والدينية المخلّدة.

فبقي مصطفى الفيلالي هو هو، الجديد المتجدد مع كل جديد يَجدّ، وكأنه يريد الأول أن يأخذ الأحداثَ على براءتها الأولى ليصنع منها ما صنعه الفاتحون الأولون من مجد لأوطانهم. وظل ثابتاً على عروبته لغة وثقافة وانتماء وعلى دينه عقيدة واجتهاداً، حين كرمه الله بالمسؤوليات الأولى في بناء دولتها الوطنية بعد الاستقلال، ثم في أزماتها بالحداثة والمعاصرة ومواكبة الأمم علماً وتقنية وصناعة؛ ولا تجده إلا مقداماً في الخطوات الأولى للتصحيح والإصلاح والبناء دون التهديم، مثلَ فِعله الحثيث مع الثورة في أقسى ظروفها استقراراً، كأحد شيوخ الحكمة ومراجع النظر والتدبير.

مسؤول سياسي ونقابي ورجل دولة معتبر

وإذا قلنا إنه، من الأول ملأ صدره بالقرآن الكريم وتربى على فضائل المنشأ في صميم جلاص وأعاليها، مَحتد العراقة والفروسية والكرم والشرف، ثم أخذته الرحلة للعاصمة، من بلدته البعيدة في أعالي شراحيل سيدي علي بن نصر الله، بلدة القرآن والأولياء الصالحين والكدح وبناء الهمم العالية، للتعليم الوطني الحديث العصري من صادقية خير الدين وخلدونية الزيتونة، ما تقَوّم به عُودُه قبل أن تؤهله مواهبه الخارقة على أقرانه للإلتحاق بجامعة السربون لنيل الاختصاص في الآداب والعلوم الإنسانية، وفي مقدمتها علوم بلاده العربية وحضارته الإسلامية وما خلفته من آثار على تقدم العلوم الاجتماعية والإقتصادية في فرنسا وفي سائر أوروبا منذ أيام القيروان والأندلس وبلرم وغيرها. وجعلته ينافس فيها أقرانه الفرنسيين في ألزم ما ألزمهم من أسرار تقدّمهم في الحريات وفي جماليات الكون والحياة وفي الديمقراطية واكتساب ناصية العلوم والمعارف.

فلم يكن هذا الزاد ليخطئه في سائر حياته خطيباً مصقعاً ومحاضراً لبقاً ومحللاً اقتصادياً واجتماعياً ومسؤولاً سياسياً ونقابياً ورجل دولة معتبر. وأكثر من ستين عاماً عطاء بعد شبابه الأول وهو على رأس المسؤوليات، لا يخطئ الباحثُ إذا لم يجد عطاء متفرداً في كل سنوات مصطفى الفيلالي الواحدة تلو الأخرى، الى آخر أيامه كيعسوب النحل يعالج خلايا ما بعد الثورة ليستقر على حال تكون للدولة فيها وللمجتمع الغلبة على مشاكل التخلف والنمو.

إن الموت يخلد الأحياء بقدر ما تخلدهم أعمالهم.

تونس في 21 جانفي 2019.

* صحفي وكاتب.

مقال لنفس الكاتب بأنباء تونس :

في الذكرى الخمسينية لعمدة المؤرخين العلامة حسن حسني عبد الوهاب

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.