الرئيسية » جلسة منح الثقة لوزير الداخلية الجديد : هكذا يعود طائر الفينيق

جلسة منح الثقة لوزير الداخلية الجديد : هكذا يعود طائر الفينيق

(بقلم بوعزي الأسعد)

هو ساذج كلّ من يعتقد أن الجلسة العامّة التي إنعقدت تحت قبة البرلمان كانت الغاية منها تزكية وزير  لسدّ شغور في الحكومة وملء فراغ على رأس أكبر وأهمّ الوزارات السيادية. وعلى عكس ما يمكن أن يتصوّره عامة الناّس فإن هذه الجلسة لها كثير من الرهانات وتمّ التخطيط لها بإحكام لتأتي في توقيت مدروس من أجل الحسم في معارك سياسية كبرى تتقاطع فيها خطوط التماس بين جميع الأطراف.

وفي محاولة للوقوف على حقيقة ما جرى، لا بدّ من التذكير بالأهداف التي جاءت من أجلها حكومة الوحدة الوطنية وبالعراقيل التي إعترضتها وأهم المحطّات السياسية التي تخلّلتها قبل ان نتطرق إلى الجلسة العامّة بكلّ حيثياتها ورهاناتها وما يمكن أن تتمخض عنه من نتائج من شأنها أن تؤثر على ما تبقّى من الولاية الأولى للجمهورية الثانية:

  1. حكومة الوحدة الوطنية : الأهداف والعراقيل

لا بدّ من التذكير بأن حكومة الوحدة الوطنية جاءت بمادرة من رئيس الجمهورية (وثيقة قرطاج1) من أجل بثّ الأمل من جديد في شعب أصابه الإحباط  جرّاء الفشل الذريع الذي لاقته حكومة الحبيب الصيد على كلّ الواجهات الإجتماعية والإقتصادية والأمنية (هجوم باردو ونزل الأمبريال بسوسة وشارع محمد الخامس).

إن المهام الموكولة الى حكومة الوحدة الوطنية كانت في ضاهرها واضحة وجلية حسب ما جاء على لسان السيد يوسف الشاهد في البيان الذي تقدّم به أمام مجلس نواب الشعب لنيل الثقة وهي تتلخص أساسا في محاربة الإرهاب ومقاومة الفساد وإيجاد حلولا لتوفير التنمية وتأهيل الإدارة وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية وإسترجاع هيبة الدولة. هذه الأهداف الإستراتيجية التي كان يُعوّل عليها لإنقاذ البلاد من الوضع المتردّي الذي تتخبط فيه سرعان ما لاقت عراقيل عطّلت تنفيذها لمّا تصادمت مع مصالح كلّ طرف من الأطراف السياسية والإجتماعية الموقّعة على وثيقة قرطاج:

  • رئيس الدولة وصاحب المبادرة كان يعوّل من وراء تعيينه لرئيس حكومة مقرّب من العائلة على أن يساعده على النجاح في ولايته الرئاسية كما يساعده أيضا على تقوية شوكة نجله على رأس نداء تونس بعدما شهده الحزب من تفكّك جرّاء عدم تجانس قياداته وتناحرها من أجل الزعامة وتشهيرها بسياسة التوريث.
  • الرئيس التنفيذي لحزب النداء كان من ناحيته يسعى الى فرض سلطته على الحكومة بما يحدّ من هامش المناورة لرئيسها ويضعفه أمام حلفائه ويقيّد يديه فيما يبقى رئيس الدولة عاجزا عن فعل أيّ شيء لوجوده بين خيارين لا يُحسد عنهما : التموقع في مكان رجل الدولة ليساند رئيس الحكومة الذي تمّ إختياره من طرفه أو الإنحياز الى نجله تحت ضغط العائلة وبعض المقرّبين منه.
  • حركة النهضة كانت بدورها تسعى الى الحكم من وراء الستار والتغلغل في مفاصل الدولة وتعميق شقّ الخلافات بين رئيس الحكومة وحزبه وتعطيل كلّ مشروع أو عمل من شأنه أن يرفع من شعبية يوسف الشاهد محليّا ودوليّا كي لا يسطع نجمه كرجل دولة قادر على كسب رهانات المستقبل.   
  • أمّا الإتحاد العام التونسي للشغل الذي يتخوّف من فقدان البعض من إمتيازاته وقدرة التأثير على المشهد السياسي فإنه يعارض معارضة شرسه كلّ مشروع يهدف الى مراجعة الصناديق الإجتماعية أو هيكلة بعض المؤسسات المنتجة أو بيع ما أصبح منها يشكّل عبئا على الدولة.
  • من ناحيته فإن الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية عطّل بعض الفصول في قانون المالية وخاصّة المتعلقة منها بالجباية أو التي تهدف الى الحدّ من العجز المسجّل في ميزانية الدولة وتساعد على إنعاش الإقتصاد وبعث التنمية.
  • ورغم بدايته المحتشمه في الحرب على أباطرة التهريب فإن رئيس الحكومة سرعان ما تراخت جهوده تحت ضغط لوبيات الفساد المرتبطة ببعض الأحزاب النافذة ليتخلّى بذلك عن حملة لاقت مساندة شعبية واسعة كان بوسعه أن يستغلّها للقضاء على الإقتصاد الموازي ويجني من ورائها مكاسب سياسية هامّة.

وفي ظلّ هذه التجاذبات السياسية وكثرة الإحتجاجات الشعبية التي تقف ورائها جهات بعينها مثل التي تحدث مع بداية كلّ سنة فإن الوضع تأزم وأصبح كارثيا أمام تدهور القدرة الشرائية للمواطن وتقهقر الدينار وإفلاس الصناديق الإجتماعية ما نتج عنه فقدان الدواء وتعطّل المستشفيات والمرافق الصحية وفقدان الماء ولجوء الدولة الى الإقتراض من البنوك الاجنبية لتسديد الرواتب بما قد ينتج عن ذلك من مسّ بالسيادة الوطنية.

ومع إقتراب موعد الإستحقاقات الإنتخابية لسنة 2019 إزداد التناحر بين الأحزاب من أجل التموقع بما يسمح بتحقيق مكاسب سياسية. فمنها من نادى بإسقاط الحكومة ومنها من نادى بحلّ البرلمان ومنها من نادى بحكومة تكنوقراط مصغرة مع الإبقاء على رئيس الحكومة.

وفي ظلّ هذا المشهد أتت الإتنتخابات التشريعية الجزئية لسدّ الشغور لتزيد في تعقيد الأمور حيث فاز فيها عن مقعد ألمانيا مرشّحا مقرّبا من رابطات حماية الثورة المنحلّة ما تسبّب في خلاف بين الحزبين الحاكمين إنتهى بإعلان نداء تونس إنهاء شراكته مع النهضة في محاولة يائسة منه لإقناع ناخبيه بفكّه للإرتباط مع من يعتبرونه يمثّل خطرا على النظام الجمهوري ويسعى الى تغيير نمط عيشهم.

ولا تكاد صدمة هذه الإنتخابات الجزئية تمرّ حتى خسر نداء تونس من جديد في الإنتخابات البلدية امام حزب حركة النهضة حيث تخلّى عنه مليون ناخب من مناصريه بما ينذر بتقهقر الحزب وعدم قدرته على تزعّم المشهد السياسي بعد إنتخابات 2019. ولتبرير إخفاقه في إدارة الحزب كان لابدّ على المدير التنفيذي لنداء تونس ان يجعل من رئيس الحكومة كبش فداء حيث ربط خسارة الحزب في الإنتخابات بفشل الشاهد في إدارة شؤون الدولة وطالب بإستقالته. من هنا بدأ الفصل الأول من اللعبة الذي أسدل عنه الستار تحت قبّة البرلمان مساء السبت 28 جويلية 2018.

  1. حيثيات الجلسة العامّة لمنح الثقة لوزير الداخلية والتخطيط لها:     

على ضوء مخرجات الإنتخابات البلدية وفي ظلّ الوضع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي الذي ينبئ بالإنفجار دعى رئيس الدولة كل الأطراف الموقعة على وثيقة قرطاج 1 الى التفكير في مخرج للأزمة ضمنة وثيقة قرطاج 2. وبعد حوالي شهر من أعمال الخبراء ضمن اللّجان المختصّة تمّ الإتفاق على كلّ النقاط الواردة في مسودّة المشروع  ما عدا النقطة عدد 64 المتعلقة ببقاء رئيس الحكومة من عدمه ومن هنا بدأت المناورة:

  • المدير التنفيذي لنداء تونس تحالف مع الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل من أجل إسقاط رئيس الحكومة ولم يتزحزحا عن موقفهما. الأول يريد أن يتخلّص من غريمه في الحزب الذي يعطّل عملية توريثه السلطة أمّا الثاني فإنه يسعى إلى إزاحة رئيس حكومة عنيد ويتمسك بممارسة صلاحياته بصفة غير منقوصة ويهدّد بفتح ملفّات فساد قد يطال البعض منها عناصر من قادة الإتحاد.
  • حركة النهضة فاجئت الجميع بتمسكها برئيس الحكومة والدفاع عنه ومساندته بحجّة ضمان الإستقرار والمحافظة على الدولة. حقيقة الأمر هو انه في غياب البديل الذي يضمن مصالحها تريد الحركة الإبقاء على رجل لم ينازعها في شيء ولم يفتح ملفات تتعلق بها ويسعى جاهدا الى تلبية مطالبها. وهي في الآن نفسه تريد بسط مزيدا من السيطرة عليه وأخذه رهينة بوصفها المساند الوحيد لحكومته مع العمل في الآن نفسه على كسر عضم نداء تونس قبل الإجهاز عليه.
  • يوم 28 ماي 2018 وبعد فشل المجتمعين في تمرير وثيقة قرطاج 2 أعلن رئيس الدولة تجميد هذه الوثيقة لأجل غير محدّد قبل أن يسافر في مهمّة إلى الخارج فيما قرّر الأمين العام للمنظمة الشغّيلة ان ينسحب من المفاوضات مؤكّدا أنّ منظمتة غير ملزمة بشيء وفق قوله.
  • في 29 ماي 2018 وفي خطوة مفاجئة توجه رئيس الحكومة بكلمة الى الشعب التونسي عبر القناة الوطنية حمّل فيها حافظ قايد السّبسي الفشل في إدارة الحزب وتفكيكه ما أثر سلبا على أداء الحكومة كما أعرب عن عزمه مواصلة آداء مهامّه. أثار هذا البيان بلبلة غير مسبوقة بحزب نداء تونس وزاد من تقسيمه حيث إصطفّ معظم نوّاب الكتلة النيابية الى جانب رئيس الحكومة ودخل الشقّان في حرب إعلامية مسعورة.  
  • يوم 6 جوان 2018 سارع رئيس الحكومة (الذي يتمسّك بمنصبه من أجل طموحاته والذي يعي جيّدا بخفايا الأمور وعلى علم بكلّ الرّهانات التي تحرّك كلّ الأطراف) بعزل وزير الداخلية ليضرب بذلك ثلاثة عصافير بحجر واحد: إرضاء النهضة بتنحية وزيرا ترى أنه بدأ يهدّدها ويشكل خطرا عليها وإزاحة عنصرا غير منضبط في حكومته وخاصّة الإعداد لمنفذ قانونيّ متى تمّ اللجوء الى مجلس نواب الشعب للبتّ في مصيره. هذا، وقد تمّ تعيين وزير العدل نيابة عنه على رأس الوزارة وهو الرجل الذي يُشهد له بالحياد والجديّة في العمل.
  • بعد عزل وزيرالداخلية بيومين (8 جوان 2018) جدّت عملية عين سلطانة الإرهابية وخلفت ستة شهداء من الحرس الوطني. أثارت هذه العملية عديد الإنتقادات لرئيس الحكومة من طرف خصومه بسبب عزله للطفي براهم ولعدم تجهيز الوحدات الحدودية بعربات مصفّحة. ردّ الحكومة أتى على لسان وزير الداخلية بالنيابة حيث إتهم سلفه بعدم صرف الإعتمادات في ما تمّ تخصيصها إليه.  
  • في يوم 2 جويلية 2018 تمّ إستقبال رضا بلحاج المستقيل من نداء تونس ومنسق حركة تونس أوّلا من قبل رئيس الجمهورية ليلتحق بعدها ببضعة أيّام الى حزب النّداء وهو ما يعني نزول الرئيس بكلّ ثقله من أجل رمرمة حزبه.
  • يوم 15 جويلية 2018 يخرج رئيس الجمهورية عن صمته ليدلي بحوار حصريّ لقناة نسمة (وهي القناة التي تحرّض على رئيس الحكومة) دعا فيه ضمنيّا يوسف الشاهد الى الإستقالة أو تجديد طلب الثقة لحكومته من مجلس نواب الشعب كما لم يفته أن يصف رئيس حركة النهضة بالمرشد وهو وصف لم يسبق لرئيس الدولة إستعارته. ما يمكن للمحلّل السياسي أن يستخلصه من هذا الحوار هو إصطفاف الرئيس الى جانب إبنه وتغيير موقفه من حركة النهضة.   
  • في يوم  يوم الثلاثاء 24 جويلية 2018 إلتقى رئيس الدولة بقصر قرطاج بأعضاء كتلة حزب حركة نداء تونس بمجلس نواب الشعب في مبادرة منه لإعادة لحمتها وتماسكها.
  • في نفس اليوم (24 جويلية 2018) قرّر رئيس الحكومة تعيين هشام الفوراتي في منصب وزير الداخلية وقد حرص على يكون المرشّح مثاليا من حيث الكفائة وعدم التحزّب والدراية الواسعة بالملفّات الأمنية كما حرص على إستشارة مناصريه من الكتل النيابية (من بينهم كتلة نداء تونس) وبعض الأحزاب الممثلة في البرلمان وعلى رأسهم حركة النهضة. التوقيت الذي إختاره رئيس الحكومة لعرض مرشحه على مجلس نواب الشعب لنيل الثقة كان مدروسا ليفاجئ خصومه ويتزامن مع موعد العطلة النيابية وهو ما من شأنه ان يمكنه من هامش زمني للمناورة إن لم يحض مرشحه بتزكية المجلس.
  • وفي نفس اليوم أيضا (24 جويلية 2018 ) تمّ استقبال محسن مرزوق المنسق العام لحزب المشروع من طرف رئيس الجمهورية بما يوحي بحشد الجهد من أجل التصويت بعدم منح الثقة لمرشح الشاهد الى وزارة الداخلية وهو ما من شأنه أن يحشر هذا الاخير في الزاوية ويدفعه الى الإستقالة.  
  • ودائما في نفس اليوم (24 جويلية 2018 ) دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس تقضي برفع تحجير السفر عن رجل الأعمال ومؤسس حزب الوطني الحرّ سليم الرياحي ما فسره خصوم رئيس الحكومة بسعي هذا الأخير لكسب أصوات كتلة هذا الحزب.

وفي سباق مع الزمن لكسب الأصوات، من المرجّح ان تكون جهات نافذة من الداخل وحتى من الخارج قد ساعدت عل حشد اصوات كتلة أفاق تونس والعديد من أعضاء الكتلة الوطنية الى صالح رئيس الحكومة.

  • يوم الجلسة العامّة تحت قبّة البرلمان، تعمّد رئيس الحكومة تقديم إنجازات حكومته قبل التعريف بمرشحه لمنصب وزير الداخلية وذلك في مناورة منه تهدف الى أن تجعل من التصويت على منح الثقة لمرشحه تصويتا ضمنيّا على منح الثقة لشخصه. كان كلّ شيء يوحي بمنح الثقة الى وزير الداخلية المقترح ومع تقدّم مداولات المجلس تيقن أعضاء كتلة نداء تونس من هزيمتهم فكانت المفاجئة أن صوّتوا بالموافقة على تعيين هشام الفوراتي وزيرا للداخلية وكأن المدير التنفيذي لحزبهم أو من يقف ورائه أراد أن يقوم بمناورة أخيرة لتجنّب الإنتحار السياسي.

ما من شكّ أن حصول الشاهد على 148 صوتا من بين 169 (13 ضد و8 إمتنعوا عن التصويت) قد أثبت أنه أصبح يتقن اللعبة السياسية وسوف يمنحه متسعا من الوقت للحشد والتعبئة من أجل مجابهة لائحة لوم قد تأتي أو لا تأتي في المستقبل المنظور. ولا شكّ أن الخاسر الأكبر في هذه المعركة هو المدير التنفيذي لنداء تونس الذي سوف تتقلص حضوضه في البقاء على رأس الحزب بعد أن يفقد مساندة رئيس الجمهورية الذي من المنتظر أن يصبّ كل جهده من أجل تكوين جبهة عريضة بإستطاعتها أن تنافس النهضة على ألإستحقاقات المقبلة.

المنظمة الشغيلة هي أيضا خسرت المعركة غير أنها لم تخسر الحرب. من المتوقّع أن تواصل عملية ليّ الذراع مع رئيس الحكومة بطرق شتّى منها الإضرابات والإعتصامات وتعطيل سير الإصلاحات بما يزيد من تأجيج الوضع وما يمكن أن يترتب عنه من عواقب نحن في غنى عنها.

أمّا علاقة حركة النهضة برئيس الحكومة سوف تبقى وطيدة طالما  مصلحتها تقتضي ذلك وسوف تتغيّر بتغيّر طموحات هذا الأخير فيما يتعلق بإنتخابات 2019. لا بدّ على الشّاهد ألاّ ينسى أن النهضة مثلها مثل ناقة العرب (mante religieuse ) ما أن تنتهي من الجماع مع ذكر حتّى تأكله حيّا.  

    إن قصّة يوسف الشاهد تذكرني بطائر الفينيق (العنقاء) الذي تقول الأسطورة انه ما أن يحضن بيضته حتى يحترق بالنار لتخرج من رماده يرقة سرعان ما تتحول الى عنقاء أخرى لتعمّر من جديد طوال ألف سنة.

ملاحظة: هذه الأفكار لا تلزم إلاّ صاحبها

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.