الرئيسية » عندما “يتوْنس” مفهوم التمييز الإيجابي : التوجيه الجامعي نموذجا

عندما “يتوْنس” مفهوم التمييز الإيجابي : التوجيه الجامعي نموذجا

بقلم منصف الخميري

تستعد وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لإصدار دليل التوجيه الجامعي ويبدو أنه سيتضمّن جملة من التعديلات والمُراجعات خاصة فيما يتعلق بتحديد طاقة الاستيعاب في الشعب التي تشهد إقبالا مكثفا من قبل المترشحين للتوجيه الجامعي وصيغة احتساب مجموع النقاط كمقياس وحيد للتعيين النهائي وحسم التنافس بين حاملي الباكالوريا الجدد.

وحسب تصريحات السيد وزير التعليم العالي في الآونة الأخيرة فإن أهم التجديدات تتمثل أساسا في “تخصيص نسبة 8 بالمائة من المقاعد المبرمجة لحاملي الباكالوريا الجدد لأبناء الجهات الداخلية خارج قاعدة مجموع نقاط آخر موجّه على المستوى الوطني”. وأمام هذه التعديلات المرتقبة، يهمّني باعتباري مستشارا متقاعدا في التوجيه المدرسي والجامعي ومديرا سابقا للتوجيه الجامعي بوزارة التعليم العالي إبداء الملاحظات التالية : 1. إن تنفيل أبناء الجهات الداخلية (وهو في حد ذاته مفهوما غائما غير واضح الملامح كما سنبيّن لاحقا) بنسبة معينة من المقاعد في الشعب الجامعية “النبيلة” (وهو تحديد ضارب في العمومية وعدم الدقّة هو الآخر) يُشكّل ضربا لمبدإ تكافؤ الفرص بين جميع التونسيات والتونسيين وتسويق مغشوش لشعار التمييز الإيجابي الذي تحاول الحكومة القائمة اليوم قرعهُ… ولكن من الأبواب المغلوطة. فمن الواضح أن هذه الإجراءات الجديدة لا تنبني على قراءة موضوعية في الإحصائيات المتصلة بنتائج الباكالوريا المنعكسة بصورة آلية على نتائج التوجيه الجامعي بقدر ما تنبني على مساع سياسوية تهدف إلى كسب التأييد الشعبي وتسجيل بعض النقاط في رصيد المعنيين بالبقاء في حكومة متداعية للسقوط أو الطامحين منذ الآن إلى خوض معارك انتخابية وسيناريوهات تموقع قادمة. فأرقام الباكالوريا على مرّ السنين تثبت أن بؤر التميّز الدراسي توجد في ولايات معروفة مثل تونس الكبرى ونابل وسوسة والمنستير وصفاقس ومدنين (جربة وجرجيس بالخصوص). لكن هذه الحقيقة لا تعني شيئا إذا أغفلنا حقيقة خفيّة أخرى أكثر واقعية وهي كون أفضل النتائج في امتحان الباكالوريا (وبالتالي في مناظرة التوجيه الجامعي) متمركزة في مؤسسة تربوية واحدة أو مؤسّستين أو ثلاث على أقصى تقدير على حساب عشرات المؤسسات التربوية الأخرى داخل نفس الولاية المحظوظة كما سنرى في المثال التالي :  على 30 مقعد سنة 2016 في المؤسسات الجامعية الألمانية مخصصة للمتفوقين في الباكالوريا التونسية، 25 مقعد (أي 83 بالمائة) فازت بها المعاهد النموذجية دون سواها… ونفس التوجه تقريبا نلمسه في سائر المسارات الدراسية الجامعية الأخرى.  حتى وإن لم يكن المعهد نموذجيا، فإنه ثمة معاهد بعينها من يفوز ابناؤها بأفضل المقاعد في الجامعة التونسية او في الخارج : معهد المنزة السادس وصلامبو بتونس ومعهد مجيدة بوليلة بصفاقس ومعهد الحسين بوزيان بقفصة ومعهد سالم بن حميدة أكودة بسوسة ومعهد محمود المسعدي بنابل، الخ…  ما تحققه بعض المؤسسات التربوية في الجهات الداخلية أفضل بكثير مما تحققه العديد من المؤسسات التربوية في الجهات الساحلية : معاهد من قبيل السبالة بسيدي بوزيد و معهد 2 مارس بسليانة ومعهد محمد علي العنابي براس الجبل والمعاهد النموذجية بالقصرين والكاف وسيدي بوزيد والقيروان ومعهد المروج 4 … كان لها تمثيلية في المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية بالمرسى (IPEST) الذي يستقطب أفضل ما تنتجه الباكالوريا رياضيات في تونس… تمثيلية نسبية لم تحققها مؤسسات تربوية عديدة واقعة في الولايات المحسوبة على “ارتفاع مؤشرات التنمية ومنسوب التميز الدراسي فيها”. وبالتالي فإن مفهوم “الداخل” و “الشريط الساحلي” يظل بحاجة متأكدة إلى التنسيب … فولايات جندوبة وباجة وقابس ومدنين هي ولايات بشريط ساحلي لكن بحزام كبير من تدني النتائج لا يبعث على الامل مُطلقا في انتظار تحسّن نوعي للنتائج على المدى المنظور. كم من جهة ساحلية بمؤسسات تربوية داخلية تتدنى فيها النتائج الى اقصى حد والعكس صحيح أيضا. وعليه فإن إجراءات التمييز الإيجابي من المفروض أن يستفيد منها أيضا أبناء الأحياء الشعبية والمناطق الريفية المنكوبة بالولايات المحسوبة تجاوزا على الرخاء الاجتماعي والاقتصادي. 2. نذكر جميعا بأن إجراء تنفيل تلميذ الباكالوريا بـــــ 25 % تنفيل من معدله السنوي في احتساب معدل النجاح النهائي (إذا استبعدنا الخلفية الشعبوية للنظام السياسي السابق الذي كان يريد من وراء إقرار هذا الإجراء كسب الرأي العام والتخفيف من حدّة حالة الاختناق التي كان يعاني منها وكذلك الترفيع المصطنع في نسب نجاح الباكالوريا أمام المانحين والمقرضين الدوليين) كان إجراء سليما في مطلق الاعتبارات كما هو معمول به في العديد من بلدان العالم من منطلق جعل التلميذ يستفيد من مجهوده الذاتي طيلة السنة الدراسية وتحفيزه على العمل خارج سياق الامتحانات الختامية، لكن سرعان ما تمت “توْنسته” والإلتفاف عليه بالنزوح الجماعي نحو المدارس الخاصة وشراء المعدلات المرتفعة وازدهار سوق الدروس الخصوصية بما جعل منه آلية مفرغة من محتواها ومُضرة جدا بمصداقية الباكالوريا التونسية ومستواها العلمي. فما الذي سيمنع الأولياء مستقبلا من “توْنسة” التمييز الإيجابي وتسجيل أبنائهم بالولايات الداخلية لمدة سنة دراسية واحدة وافتكاك نسبة الـــــــ 8 % الموعودة؟ 3. إن منح مقاعد غير مستحقة لأبناء الجهات الداخلية (باعتبارهم غير قادرين على “شحن مؤهلاتهم” بواسطة الدروس الخصوصية) يشي بتحقير مُبطّن لمُمكنات النجاح والتميّز في هذه الولايات وقدرة بناتها وأبنائها على التألق دون منّة من السلطة المركزية. وإن ما يُعيق تلاميذنا في الداخل ليس ضعفا في منسوب الذكاء أو غياب توهّج في الدافعيّة أو نقص في الطموح نحو خلع أبواب المستقبل ودكّ إكراهات الحتميّات بأنواعها، بل ينقصهم اهتماما حقيقيا من قبل النظام السياسي وتمييزا ايجابيا جديا على مستوى مؤشرات التنمية والعيش الكريم وفرص التشغيل وإقدارا للعائلة الريفية على مرافقة أبنائها وتوفير كل أسباب النجاح أمامهم. 4. لقد أطلقت وزارة التربية منذ 3 سنوات خطة وطنية شارك في رسم آفاقها المتفقدون والمستشارون العامون عُرفت تحت باسم «B52» نسبة إلى الـــ 52 معهدا ثانويا موزعا على 14 ولاية داخلية الأدنى ترتيبا على مستوى نتائج الباكالوريا، وتمّ آنذاك تشخيص الوضع بشكل دقيق والوقوف على الأسباب الموضوعية المتسبّبة بتدنّي النتائج وإقرار جملة من التدابير والإجراءات (بالتنسيق مع الإدارات العامة والهياكل المعنية) في علاقة بتكوين الأساتذة والبنية التحتية وانتداب أعوان التأطير بعدد كاف والعناية بمكتسبات التلاميذ الأساسية منذ السنوات الأولى من التحصيل… إلى جانب ترحيل جملة من المقترحات إلى السياق السياسي ونوعية الحوكمة السائدة. وقد شكلت هذه الخطة فرصة للوقوف على حقيقة أن ضعف النتائج في الباكالوريا ليس قدرا مسلطا على الجهات الداخلية ولا يستدعي حلولا أشبه بــــــ”البريكولاج” وذرّ الرماد في العيون من خلال استدرار عطف الفقراء التوّاقين إلى تمكين أبنائهم من دراسات جامعية يعرفون جيدا أنها صعبة المنال ويتطلب الحصول عليها إعدادا وعُدّة وعتادا…هم مجرّدون منها بقرار سياسي وحيف تاريخي. وإذا سلّمنا بأن مُقدّرات النّجاح والتميّز الذاتية مُوزّعة بعدل بين جميع التّلاميذ التونسيّين، فإنه على أي حكومة تدّعي أنها وليدة ثورة نادت بالكرامة والعدالة وتكافؤ الفرص وتُنسب إلى نفسها مهمة تحقيق انتظارات الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي، عليها أن “تُمسك الثّور من قُرونه” وتمضي إلى إصلاح المنظومة التربوية والتكوينية من ناحية ووضع البرامج الاقتصادية والاجتماعية الجريئة متوسطة وطويلة المدى من أجل النهوض بمستوى عيش العائلة التونسية من ناحية أخرى. تصوّروا القيمة المضافة التي يمكن أن يحققها إسناد منحة استثنائية لمدرّسي السنوات الثالثة والرابعة ثانوي في بعض المواد الحاسمة (اللغات والمواد العلمية بصورة خاصة) وتنفيلهم بتربص تكويني بالخارج واستثمار بعض الأموال في العناية بالمبيتات والنقل في بعض المدن والمناطق النائية في سياق برنامج وطني يمتدّ على خمس سنوات ! من ناحية أخرى، يحق لنا أن نتساءل لماذا وقع الاختيار على الشعب الطبية والهندسية واعتبارها شعبا نبيلة مقارنة بأخرى أقل نُبلا؟ لم لم تُعط مقاعد إضافية لفائدة أبناء الجهات الداخلية في شعب ذات شأن من الناحية التشغيلية وتشهد تنافسا شديدا بين المترشحين للتوجيه الجامعي سنويا من قبيل شعب المرحلة التحضيرية للآداب ومعهد تونس للأعمال وتربية الطفل والتربية المختصة (تأهيل المعاقين) وتكوين المعلمين وعلوم التمريض والشعب شبه الطبية الخ… ؟ لم لا يقع تنفيل الجهات الداخلية بمؤسسات جامعية مرموقة تحتضن مسالك دراسية تُفضي إلى آفاق أكاديمية واعدة ومآلات تشغيلية مُحفّزة ؟ ولماذا تستفرد الجهات الساحلية والأقطاب الجامعية التقليدية بالشعب “النبيلة” كما تسميها الحكومة ولا تُحدث إلا شعبا لا تُفيد ولا تُغني من بطالة طويلة الأمد كالبناء والاشغال العمومية وقيادة الحضائر والتنشيط السياحي واللف والتعليب والفسيفساء والخزف الخ… (أنظر بهذا الخصوص التقرير الوطني الذي أصدرته الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والمهني). إذا كانت الحكومة جادّة فعلا في تمييز الجهات الداخلية ببعض المقاعد “المجانية” في مسالك جامعية بعينها فلماذا سمحت بهذا التقليص المقصود في طاقة الاستيعاب المفتوحة عبر كل السنوات الأخيرة بنسب عالية جدا في الشعب شبه الطبية وشعبة علوم التمريض تحت ضغط التعليم العالي الخاص الذي استغل الإقبال المكثف على هذه الشعب ولو مقابل كلفة مالية باهظة ؟ أنتم تؤجّلون إصلاح المنظومة التربوية والحامعية والتكوينية لأنكم غير قادرين على مباشرته بالصيغ الجادّة الضّامنة لتوفير الظروف الموضوعية التي تحقق عدالة اجتماعية حقيقية تُتيح نفس شروط النجاح والتميّز أمام جميع التونسيات والتونسيين مهما كانت ولايات إنتمائهم. وأنتم تتصرفون على هذا النحو لأن أجنداتكم الحينية وحروب تموقعكم السياسي أهم بالنسبة إليكم من مئات آلاف تلاميذنا يغادرون مقاعد الدراسة دون أدنى تأهيل…ولا تتأثرون بل تتنافخون ارتياحا إلى أداء لا يرى نجاعة فيه سواكم. . مستشار عام متقاعد في الإعلام والتوجيه ورئيس الجمعية التونسية للإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي).

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.