الرئيسية » تونس بين أزمة إقتصادية معقدة وثقافة إستهلاكية سلبية

تونس بين أزمة إقتصادية معقدة وثقافة إستهلاكية سلبية

بقلم رؤوف الغشام

بعيدا عن التهويل الذي يعتمده السياسيون في توصيف الوضع، وخارج عن أجندات أحزاب اللهف عن مقاعد بالبرلمان أو بالبلديات، أفضت مؤشرات الثلاثية الأولى من 2018 في شكلها العام عن ثبوت وجود منعرجات دقيقة و حاسمة في الوضع العام، المتسم إجمالا بأزمة إقتصادية قد لا نصفها غير أنها معقدة، وسببها تفاقم الدين الذي توجهت الحكومات المتعاقبة بإصلاحه بمزيد من الديون، وهي نهاية خيارات ترقيعية، رافقها غياب تام للإستثمار الخارجي أحد أهم محركات الدورة الإقتصادية.

وليس هذا لا من باب المبالغة ولا التهويل ، ضلت تونس من المؤسف تتخبط في عديد المشاكل في توازناتها العامة إجمالا ، فالمؤشرات الخانقة على مستوى المالية العمومية والنمو المفقود وغياب الإستثمارات الأجنبية والبطالة التي بلغت ما يزيد عن 9,15 %، هي ملامح إقتصاد أزمة حادة ، بنسبة نمو 1.5 %، وتضخم في الأسعار الذي بلغ 7.1 % خلال نهاية فيفري2018 ، وإعلان البنك المركزي مؤخرا عن تراجع إحتياطي العملة الصعبة إلى 78 يوم توريد ..إلخ. وهي أجراس خطر تهدد التوازنات العامة للدولة.
من زاوية أخرى، إن ما تضمنه قانون المالية من 2018 من إجراءات لتغطية العجز المالي العمومي لدفع الإستثمار و تنفيذ برامج البنية التحتية، وما قد ينضاف له كقسط تكميلي من صندوق النقد الدولي: لا يمثلان في مجملهما غير حلول ترقيعية و حقنات مهدئة على المدى المتوسط ، لما تحتمه المرحلة الحالية من حذر في سياسة المالية العمومية، وإقترانها الإجباري بالتسريع في إعادة هيكلة المؤسسات العالية الإنتاج بالدولة، لهذا المشهد ينضاف عجز الصناديق الإجتماعية، وتوقف الإنتاج من وقت لآخر جراء الإحتجاجات ، وهي مسائل في مجملها معقدة من وجهة نظر إقتصادية، ومرتبطة أيضا بالمد والجزر التاريخي بين إتحادي الأعراف والعمال والمناخ الإستثماري العام بالدولة.
هذا، وحيث إتسمت الأزمة في تونس بتقلص لقيمة الدينار التونسي بـ 10 % في 2016 و 20% في 2017 ، و اليوم غلاء المعيشة مس من القدرة الشرائية لغالبية الطبقة المتوسطة التي تعيش ضغط غير مسبوق مقارنة بعقود سابقة، في حين أن الثقافة الإستهلاكية المتمثلة في الإستهلاك العائلي و نفقات التسيير العمومي ، ضلت غير رشيدة رغم أنها مرتبطة بتقليص عجز الميزان التجاري العام، ويفرض خلال المرحلة الحالية ضرورة مراجعتها بجدية، بمعنى نحن نحتاج لمراجعة “ثقافة إستهلاكية لشعب بأكمله”، لتوفير العملة الصعبة والإيفاء بالتزاماتنا مع الخارج التي نحن غارقون صلبها، ولما نعانيه اليوم من سياسة نقدية إتسمت “بتعويم للدينار”من وقت لآخر.
نقول هذا، لأن الجميع يعلم أن تونس تدعم المواد الأساسية لعيش المواطن الفقير، كما أنه يستهلك ما يزيد عن 6,7 مليون خبزة يوميا، في المقابل حسب عديد المصادر يتم يوميا إتلاف بين 850- 900 ألف قطعة خبز أي من 15 – 20 %: وهذا تبذير ومال عمومي في قمامة ، و المسألة قد لا تقتصر على الأسر التونسية ، بل يساهم فيها أيضا المطاعم الجامعية والنزل والمطاعم السياحية والمساحات التجارية، وهنا يتوضح أن ثقافتنا الإستهلاكية مساهمة في التضخم و الغلاء الحاصل في الأسعار، وهذا ينضاف إلى أن الأسر التونسية يتضاعف إنفاقها بنسبة 52 % في شهر رمضان،وهنا وضعنا إصبعنا على أحد أسباب الداء الأخرى ألا وهي الثقافة الإستهلاكية التونسية السلبية.

نقول هذا ، لأننا أيضا لسنا ذاك الشعب الذي يعيش الرفاه الإقتصادي، وتجد طبقته المتوسطة مطمئنة على مدخراتها بالبنوك، كما إقتصادنا لم يشهد الصحوة الإنتاجية المرتقبة لإغراق الأسواق الخارجية بسلعنا التونسية، ولم نبلغ المستوى المرتقب من الإسثمار الخارجي المباشر الذي ضل في حدود وعود الإستثمار وحبر على ورق.

نقول هذا بتأكيد ،لأن واقع المؤشرات الحالية المعقدة قد تؤدي بنا إلى طريق مراحله المستقبلية أكثر حدة من اليوم، خاصة إن أفرزت الأشهر تدهور الدينار التونسي توريدا وتصديرا، سينعكس على مخزون العملة الأجنبية بالبنك المركزي وهو الحال الذي شهده مؤخرا في ظرف أسبوعين فقط من 82 إلى 78 يوم توريد و تم تبريره بدفوعات وإلتزامات متصلة بالحركة الإقتصادية عامة.

نقول هذا أيضا، إعتبارا أن عديد المواد الموردة من الكماليات الغذائية هي القابلة للتقليص: مثل الموز، الفواكه الجافة والقائمة تطول،،،إلخ ، فبحكم التضخم الحاصل في أسعارها بشكل غير مسبوق، لا مفرّ لنا غير التقليص في حجمها مؤقتا، وعلى أرض الواقع نجد الطبقة المتوسطة بصدد الإستغناء التدريجي عنها للضغط الحاصل على دخلها، وهو تصرف طبيعي مرتبط بالقدرة الشرائية للمواطن بشكل عام ، وعليه يتعين على الهياكل المعنية إعادة بلورة لحاجياتنا وإتباع نسق توريدي رشيد، يأخذ بعين الإعتبار الإلتزامات مع الخارج ، ويقطع تدريجيا مع ظاهرة التوريد العشوائي للسلع .

كما لا يفوتنا التعريج ،أنه على مستوى النفقات العمومية أيضا، يعد ترشيد نفقات التسيير مسألة موازية على غاية من الأهمية، لما نلمسه من حجم في النفقات العمومية على سبيل الكر لا للحصر: في إستهلاك الورق والطابعات والكهرباء وبنزين السيارات الإدارية والأكرية وإستهلاكات الكهرباء و المياه،،،إلخ،..وهي مصاريف قابلة في مجملها لمزيد الترشيد، بتوفر حس وطني عالي المستوى كل من موقعه، كما أنها “وعي وطني” من كافة الحساسيات للحفاظ على توازنات الدولة ولا مفر لنا غير مزيد الضغط في الإستهلاك الخاص والعام .

وبناء على ما تقدم، يتبين عموما أن الأزمة الإقتصادية بتونس معقدة ، وقد يزيدها تعقيدا حجم الإستهلاك الوطني، سواء من المواطن أو من المرافق العامة التابعة للدولة، لنقول أننا فعلا في حاجة ماسة أكثر أي وقت مضى إلى ” تغيير الثقافة الإستهلاكية”، ونراها مسألة حتمية وواجب وطني للحفاظ على التوازنات العامة، و المسؤولية مشتركة بين كافة الحساسيات الوطنية بتجنب العادات التبذيرية ،المنعكسة على حجم الدين الخارجي من العملة الصعبة في دولة إنزلقت في مديونية خانقة.

في الختام يجدر التنويه، بأن المرحلة تفترض تقليص حجم الواردات من المواد الإستهلاكية المندرجة ضمن الكماليات، لتوفير مزيد من أريحية لتوريد ما هو أساسي مثل الأدوية والمحروقات وقطع الغيار،،،إلخ،… وهي نهاية عناصر تساهم من تقليص عجز الدولة في ميزانها التجاري، لتحقيق نمو مفقود وطنيا ، الذي قد لا نأمل أن يتجاوز 3% ، في حين على سبيل الذكر لا للحصر أن عديد الدول الإفريقية التي كانت بالأمس القريب تعيش مجاعات وحروب وأوبئة، وصلت اليوم إلى لما يفوق 5% رغم الفوارق الديمغرافية كمجتمعات إستهلاكية كبري.

*رؤوف الغشـــام هو باحث في الإقتصاد

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.