الرئيسية » القائمات السوداء: معايير أوروبية صادمة

القائمات السوداء: معايير أوروبية صادمة

بقلم محسن بن عيسى*

من المؤسف أن يتمّ إدراج تونس في قائمة سوداء تضمّ 17 دولة مُصنّفة كـ”ملاذات ضريبيّة”، ومن المؤلم أن نغادر هذه القائمة لندخل في تصنيف أسود آخر ضمن دول ذات مخاطر عالية في تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.. مع إمكانية كبيرة لظهورنا في قائمة سوداء جديدة وخطيرة تتعلق بحماية المعطيات الشخصية.


ومهما كانت الصّعوبات لدينا فإنه ليس هيّنا أن يكشف الخبراء الذين زاروا تونس في ديسمير 2017 وجانفي 2018، وجود “ثغرات إستراتيجية ” على مستوى التحاليل المالية، والتي تبرز قصورًا و تراجعًا واضحين في الأداء المؤسّساتي لدينا. لا أعرف إن كنّا أخطأنا في التدبير أو في الاستباق أو في كليهما.

لقد تمّ هذا التّصويت في البرلمان الأوروبي وفي أعقاب اجتماع لجنة الشؤون الإقتصادية والمالية، بما يؤكّد أنّ العلاقة بين تونس وأوروبا تعدّت مرحلة العلاقة مع أوروبا الكلاسيكية أي مع شركائنا التقليديين (فرنسا وألمانيا وإيطاليا)، وأنّ أوروبا اليوم تَعدّ 27 دولة ويحتاج التعامل معها إلى إستراتيجية جديدة تأخذ في الاعتبار كلّ أعضائها، هذا فضلا عن الحاجة لموقف إقليمي وعربي موحّد للتعامل بمنطق النّد للنّد معها.

وقد سبق للسيّد “جاك سانتير” رئيس المفوّضية الأوروبية (1995-1999) أن نصحنا بقولته الشهيرة: أُتركوا كلّ شيء وراء ظهوركم وتعالوا لنا يا عرب وحْدَةً واحدة وإلاّ سَتسقُطون دولة فدولة”.

لقد نجح العرب والأوروبيون في تجاوز الرؤى الصّراعية بين ضفّتي المتوسط ولكن لايزال يُنظر إلينا كبلدان نامية ومتخلّفة، بلدان لم ترتق بعدُ إلى مستوى الشراكة لأنه لا يوجد تساو بين أوروبا المتقدّمة وبيننا في تقديرهم.
بات معلوما أن ما يعرف بـ”الحرب على الإرهاب” إنْتُهكت في ظلّها العديد من الأعراف والقوانين الدولية، وانْتُهكت باسمها سيادة الدول الضعيفة واستغلّتها على نحو سيّء القوى الإقليمية والدولية الساعية إلى بسط نفوذها وهيمنتها، و لا أستغرب توظيفها أيضا في السياسات الحمائية للنظام المالي الدولي.

يقول ماركس : ” التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة “، لقد غابت النزاهة لديهم للكشف عن البلدان الأوروبية التي حاربت أنظمتها المالية كل محاولات الكشف عن الأرصدة المشبوهة ماضيا وحاضرا، وتأكّدت الضرورة لإتّهام تونس ” بشبهة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب” وما لها من تداعيات كارثية آنية ومستقبلية عليها.

وتبييض الأموال هذا “الفعل المقيت” يمارس عادة في دُول لها خبرة في إنشاء الـكازينوهات (Les casinos) ، حيث يتمّ تغيير العملة المراد تبييضها إلى رقائق (Jetons) ثم سحب المال نقدا من جديد أو عن طريق صكوك مع تسلّم شهادة تثبت مصدر المال. والوجه الثاني هو خلط الأموال المشبوهة مع مداخيل مُتأتّية من محلاّت تجارية عَميلة، وأبرز الأمثلة المستأنس بها “سلسلة مغاسل الملابس” لرئيس عائلة المافيا بشيكاغو “ألكابون” التي جعلها واجهة لتبييض عائدات بيع الخمور في 161 حانة غير قانونية، ويجري الاستئناس بهذه التجربة وتحت مسمّيات تجارية أخرى مثل مطاعم البيتزا والمقاولات لتبييض عائدات الكوكايين والدعارة بشكل عام. أما الوجه الثالث فهو تحويل المال المراد تبييضه إلى دول عُرفت تاريخيا “كملاذات ضريبيّة” وهي جزر صغيرة متناثرة خارجة عن كل مراقبة مالية وتعتمد السرّ البنكي. ولمن يريد أن يتتبّع تاريخ تبييض الأموال في أوروبا عليه أن يقتفي آثار “ماير لَنسكي” ويبحث إلى أيّ دولة أوروبية حوّل هذا المفيوزي الأمريكي أمواله المشبوهة.

والوجه الجديد هو الشركات الأجنبية “غير القارّة ” التي ليس لها مقر و لا هوية ولا موظفون أو عملة، هذا النوع من الشركات الوهمية الذي فوجئنا بتأكّد انتشاره لدينا مع معاملات مالية هامة، وهذا هو الخطر الذي يجب أن نستثمر فيه الجهد للقضاء عليه، خاصة وقد تم رصد عمليات اختراق وتسريبات مريبة.

أما تمويل الإرهاب وحسب تصريحات الرئيس الروسي بوتين في قمّة مجموعة “ج 20” المنعقدة من 14 إلى 16 نوفمبر 2015 فإنّ روسيا قدّمت أمثلة على تمويل الإرهاب متأتّية من 40 دولة بما في ذلك أعضاء من هذه المجموعة. وحدّد نائب الرئيس الأمريكي “جو بيدن” أمام طلبة وأساتذة جامعة هرفارد في الولايات المتحدة الأمريكية، تمويل الإرهاب في أربع دول إحداها إسلامية عضو في مجموعة “جافي” (GAFI) صاحبة القوائم السوداء المنشورة.

وينضاف إلى ذلك ما كتبه برنار سكارسيني رئيس جهاز الاستعلامات الفرنسية سابقا في كتابه عن الجهات التي مَوَّلت الإرهاب في افغانستان وسوريا ولبنان ومصر وشمال إفريقيا، والقائمة طويلة من الكتابات والتصريحات المرجعية.

يحقّ لنا في ظل هذه التصنيفات المتسارعة أن نتساءل عن حقيقة ما يجري في الكواليس الغربية، ولعلّ هذا الموقف الأوروبي المتصاعد هو تكريس لنفاق الغرب وزَيْفه، فالنظام الدولي الحالي هو “نظام الاضطراب الدائم” أي النظام الذي يرعى المشاكل بدلا من أن يساعد على حلّها.

وبناء على ما تقدّم فالشراكة مع أوروبا قد تكون حاليّا أمرًا حتميّا إلاّ أنّه لا يمكن اعتبارها مشروع الغد. قد أُخطئ في التقدير، ولكن رؤية الدول الأوربية في سياقها الجديد لدول الجنوب ومن ذلك تونس هي تجسيم لرؤية “فرنسيس فوكوياما”، التي تتلخّص في أنّ التاريخ الإنساني قد أعلن نهايته ووصل إلى أَوجه مع النموذج الحضاري الأمريكي، (النموذج الأوروبي في موضوع الحال)، والذي يفترض انضواء باقي الدول تحت هذه الحضارة، وهكذا تصبح الدول مفعولًا بها لا فاعلة و تكون الدول العربية الحلقة الأضعف في النظام الجديد سعيا وراء ثرواتها.

يقول جمال الدين الأفغاني: إنّ العار الذي لا يمحوه الدّهر هو أن تسعى الأمة أو أحد رجالها أو طائفة منهم لتمكين أيدي العدوّ من نواصيهم، إمّا غفلةً عن شؤونهم أو رغبةً في نفع وقتي.

*متقاعد من سلك الحرس الوطني

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.