الرئيسية » حديث الجمعة: من أجل مساجد للعلم والتنوير

حديث الجمعة: من أجل مساجد للعلم والتنوير

بقلم فرحات عثمان

إن من يرتاد المساجد، خاصة أيام الجمعة، بل وحتى من لا يصلّي ممن يمر بمسجد أو يقطن بجواره، بما أنه لا ينعدم حي من جامع على الأقل، ليُصدم بما يسمع: خطباء وكأنهم في محفل سياسي، لا تسمع منهم غالبا إلا الصياح والعياط، إذا لم يكن من بعضهم التهديد والوعيد.


أين هذا من سماحة الدين وما يجب على المسلم أن يتحلّى به من دماثة أخلاق واتزان في كل شيء، خاصة في القول والفعل؟ أين واجب إعطاء المثل وهو جوهوي في الإسلام؟ ألم نر من وصل به الجهل بدينه إلى المناداة من أعلى المنابر بقتل الناس، ومنهم أبرياء من أي جرم، لا لشيء إلا لما جعل الله فيهم من طبيعة مثلية ما حرّمها الله خلافا لما اعتقدوه جزافا؟

محورية المسجد الإسلامي:

ليس من مهمة المساجد ولا من دور الخطباء فيها التصرّف بخلاف الأخلاق والقانون وحقوق الناس. ولإن توجّب أن يكون للأئمة استقلالهم في كلامهم عن السلطة السياسية، لا تبّع لها كما كان الحال في ظل العهد االبائد، فهذا لا يعني البتة ما آلت الأمور إليه.

ليس للأئمة الخطباء أن يصبحوا أبواقا لإسلام دعيّ لا يمت بصلة لا لدين الشعب ولا لأصل الدين الإسلامي الذي هو عدل قبل كل شيء وفي كل شيء. وهو كذلك خاصة في المسكوت عنه من الأمور الحساسة، كحق المساواة في الإرث الثابت حسب مقاصد الشريعة. بل من دور المسجد، لصفته المحورية في المجتمع الإسلامي، التعرّض لجميع ما يهم الناس، إذ هو محرار المجتمع؛ لكن شريطة أن يكون هذا باتزان العقلانية وسماحة الروحانية، وهما من خصائص الدين الحنيف.

المسجد في الإسلام قلب الحياة المجتمعية؛ هو نبض المجتمع بحلو حياة الناس ومرّها، وإيقاع الشارع بمحاسنه ومساوئه. فليس مسجد الإسلام معبدا، وإن نجد فيه أحيانا تجّار المعبد كما في كل المعابد، أيا كانت صفتهم، دينية أو مدنية؛ فيه أيضا ما يتبع التجارة من نشاط فكري واستنباط ذهني؛ لأن هذا ممّا يتمّم التجارة ضرورة، إذ بدونها تكسد وتبور. ثم إن الكسب التجاري له أن يكون أيضا كسبا عاطفيا، أليس هذا ما يدل عليه التعبير الفرنسي commerce amoureux ؟ وأليس ذلك أولا وقبل كل شيء تواصل؟

صفة المسجد في الإسلام:

لقد حان الوقت في تونس الجديدة للعمل على العودة بالمساجد للتقوى الصحيحة الضائعة اليوم، وهي هذه التقوى التي أساسها العلم والمعرفة، وذلك بجعل مساجدنا منارات للعقل، لا مواقع للمكاء وكأنها منابر لا تبتغي إلا التصدية. فتلك صفة المسجد في الإسلام الذي لم يكن ما أصبح عليه من مجرّد تعبّد، أو منبرا للكراهية والبغض، وحتّى لدعوة القتل.

كانت المساجد في زمن ولّى مكتبات للدراسة والتعلّم وتثوير معاني الدين القيّم في حين كان الغرب، زعيم العلم اليوم، في ظلمات القرون الوسطى. ولعله من المفيد التذكير أن أقدم مكتبة في العالم وُجدت بأرض الإسلام، في المغرب الأقصى تحديدا، وكانت من تأسيس نوايا طيّبة من هذه الأرض التونسية المعطاء؛ إنها مكتبة القرويين بفاس التي تُنسب لأهل القيروان!

وكانت المساجد أيضا ملتقى الناس للتباحث في مشاغلهم اليومية والتناقش في أمور دنياهم؛ وحتى التندّر وإنشاد الشعر، بما فيه الغزلي، بل وتعاطي الظرف العربي إلى حد العربدة الفكرية. كان المسجد كذلك في الزمن الغابر، خاصة في أوج الحضارة الإسلامية؛ ويكفي العودة للأغاني للاطلاع على المجون الأدبي الذي كان فيه. وهل ذلك مما يُستغرب وقد كان الحج موسم اللقاء الأعظم لأهل العشق والهوى في الإسلام وعلى رأسهم شاعر الغزل الأول عمر بن أبي ربيعة ؟

لذا، بات من المتوجّب اليوم طرح كل ما شان ويشين دين الإسلام في الغرض مما رسب من دين اليهودية والمسيحية وقد عُرفا بالإفراط في الحياء، بينما لا حياء في الدين الإسلامي، فليست الكلمة من المصطلحات والألفاظ الفقهية.

ولنختم بأفضل ما قيل في الحياء، ما سجّله القشيري عن أحمد الجريري الذي يقول: «تعامل القرن الأوّل من الناس فيما بينهم بالدين حتى رقّ الدين، ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء؛ ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة». ومما يقوله القشيري أيضا: «وقيل: إذا جلس الرجل ليعظ الناس ناداه ملكاه: عظ نفسك بما تعظ به أخاك، وإلا فاستحي من سيّدك فإنه يراك»

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.