الرئيسية » جولة حول ”مفترق الموت“…

جولة حول ”مفترق الموت“…

بقلم : سامي بن سلامة

حي الانطلاقة 10 جانفي 2018 الثامنة ليلا، أكملت قوات الحرس الوطني نشر عرباتها المتهالكة وعددها ثلاثة في مفترق “الموت” استعدادا لليلة طويلة أخرى منتظرة. ستأتي قوات أخرى وفقا لتطور الأحداث ولكن لا وجود لقوات النخبة المدججة بالعتاد والسلاح والتي شهد المتساكنون تمركزها هناك زمن ارتفاع وتيرة الهجمات الإرهابية.

هي قوات عادية غير مسلحة بطريقة لافتة، ولا أثر لدروع ولا لبنادق الغاز المسيل للدموع ولم تكن تبدو على وجوه عناصرها ملامح القلق أو الانزعاج. يبدو جليا أن الخطر لن يكون كبيرا الليلة بل مجرد روتين عادي لا يتوقع معه انفلات للأمور. يضم مفترق “النقرة” وهو اسمه الحقيقي نقطة مراقبة كانت مخصصة في الأصل لحرس المرور وتحولت منذ 2011 من مجرد كشك صغير للاحتماء من الشمس أو المطر إلى معسكر صغير مشيد بالإسمنت المسلح لا يكاد المار من المكان يطّلع على من فيه. تلك النقطة يمكن أن تروي لنا تاريخ التحركات الاحتجاجية العنيفة التي تتميز بها المنطقة، إذ تعرضت للنهب والتحطيم والحرق عددا لا يحصى من المرات منذ اندلاع الثورة إذ سرعان ما تتخلى قوات الحرس عنها مع عمليات الكر والفر لتتراجع جنوبا إلى مفترق العمارات موقع الدفاع الأخير عن قصر السعيد وباردو مركز السيادة الجديد.

يحتل مفترق “النقرة” وهو الاسم القديم للمنطقة موقعا استراتيجيا ويقع وسط طريق بنزرت القديم ومنه يبتدأ شمالا الحد الفاصل بين عالمين: الانطلاقة والتضامن. كما أنه يمثل نقطة الدفاع الأولى عن منطقة الحرس الوطني على طريق باردو جنوبا ومنه يبتدأ غربا الطريق المؤدي إلى حي خالد بن الوليد ومنوبة كما يشرف شرقا على سكة الميترو والطريق المؤدي إلى حي ابن خلدون.

يقع حي الانطلاقة على يمين طريق بنزرت وتفصله عنه سكة الميترو رقم 5 وهو حي سكني احتلت الحوانيت التجارية أطرافه ويتميز بحركية كبيرة وقد أسس في الأصل من قبل الشركة العقارية للبلاد التونسية لفائدة أعوان بعض الشركات العمومية كالشركة القومية للنقل والخطوط الجوية التونسية قبل أن يتوسع لاحقا. وهو يتميز بأنهجه الضيقة ويطلق عليه سكانه اسم “حي الانطلاق” ولا يعترفون ضمنا بالتسمية الرسمية وهو حي لا يشكو كثيرا من الفقر والتهميش وإن لم تختف مظاهرهما بقدر ما يشكو من الفوضى وسوء التنظيم وقدم البنية الأساسية وضيق أنهجه وقلة العناية به. وككل الأحياء الشعبية تتعايش بين جنباته مظاهر التدين المتشدد مع محلات بيع الخمر خلسة في تناغم بديع. شهد الحي اهتماما كبيرا من الحركات الدينية بعد الثورة وقد اشتهرت محطة حافلاته فيما مضى بتركيز الخيمات الدعوية أمامها طيلة سنوات وعوضتها منذ 2015 أكشاك بيع شرائح الهاتف الجوال. لا يعني ذلك الاختفاء الغياب التام ولكن لا يمكن الجزم بأن الحي تابع لتيار سياسي معين ولا توجد فيه مقرات للأحزاب عدا مقر متنقل لحركة النهضة مع تواجد لافت لحزب التحرير. أما الأحزاب الأخرى فلا وجود ظاهر لها سواء كانت الجبهة أو غيرها من التنظيمات السياسية. ينحدر بعض المخربين من هذا الحي ولا تدفعهم في ذلك عموما انتماءات سياسية معينة بل يغلب على معظمهم شعور النقمة والغضب من البطالة وتردي الوضع المادي وانسداد الآفاق وهم يستغلون أي فرصة يحدثون بها انفلاتا أمنيا للتعبير عن وجودهم بالحرق والتكسير ومشاغبة القوى الأمنية.

مدينة التضامن هو الحي المقابل على اليسار وهو في الحقيقة عدة أحياء في حي واحد إذ يضم حي التضامن الأصلي الملاصق لقصر السعيد 2 وتفصل بينهما ثكنة الجيش المترامية الأطراف وتقطنه فئة تختلف في نمط عيشها عن الصورة النمطية المسوقة للحي إذ أنه عامر بفيلات كبيرة تربض أمامها سيارات كثيرة ولا ترى على متساكنيه مظاهر الفقر أو الجوع ويمثل في الحقيقة امتدادا لحي قصر السعيد المجاور له. تضم مدينة التضامن أحياء أخرى كحي الجمهورية وحي 02 مارس وتحده المنيهلة شمالا وتختلف الفئات التي تسكن المنطقة بحسب درجة التوغل داخله حيث يمكنك أن تجد مظاهر الترفه الصارخ التي يمكن ملاحظاتها من نوعية البناء ونوعية السيارات ومظاهر الفقر المدقع في آن. وهي تتميز بسوء تخطيطها وبغلبة البناء الفوضوي فيها ولكنها تمثل في نفس الوقت منطقة حية لا تنام الليل بسبب الحركية التجارية المتواصلة داخلها وكثافتها السكانية العالية. يأتي أغلب المخربين من هاته الأحياء الداخلية التي كان يسيطر عليها الإسلاميون بمختلف تفريعاتهم منذ سنة 2011 وأشهر أنهجها على الإطلاق هو نهج 105 الذي كان يسيطر على كل مسجد فيه أمير سلفي منذ سنوات قليلة. لا وجود لافت كذلك للأحزاب في حي التضامن باستثناء حزب حركة النهضة ونسبة كبيرة من نسائه متحجبات للضرورة على ما يبدو ويلبس بعض رجاله وهم قليلون جدا القميص الأفغاني وإن انحسرت هذه الظواهر بعد خسارة حركة النهضة للحكم. يتميز الحي منذ سنوات باشتغال أغلب سكانه في التجارة بأنواعها التي تشهد ازدهارا كبيرا وتختص كل منطقة ينحدر منها سكانه بتجارة معينة. تتواجد فيه نسبة عالية من شاحنات “الديماكس” حتى الفاخرة منها وهي منتشرة في كل مكان ولكنه يشكو نسبة بطالة رسمية وفعلية عالية ويتميز بندرة المراكز الثقافية والترفيهية كما أن تركيبته السكانية تتميز بالتقوقع والانغلاق إذ أن يلاحظ أن كل مجموعة سكانية تتكون عادة من أفراد ينحدرون من نفس المنطقة. يتميز حي التضامن باكتساب سكانه لعادات جديدة مشتركة إذ يسارع أصحاب المحلات التجارية تبعتهم في ذلك البنوك لبناء جدران لإغلاق منافذ محلاتهم مع أول يوم تندلع فيه أية احتجاجات شعبية. ويفتخر الحي بتقديمه عديد الشهداء في الثورة وما يلاحظ فيه هو ارتفاع نسبة المقاهي ومطاعم الأكلة السريعة وتردي البنية الأساسية وغياب قنوات التطهير في أرجاءه الداخلية.

يفتخر المتساكنون من الشباب بأن الأمن لم يكن قادرا على دخول بعض أنهجه منذ ما قبل الثورة ويمثل حي التضامن فعلا معضلة للقوى الأمنية بسبب تعدد مداخله ومخارجه وعدم إمكانية السيطرة عليها كلها. ويتعرض مركز الحرس داخله إلى عديد الهجومات مع كل اضطرابات شعبية تنتهي عادة بإخلاءه وحرقه وهو ما يفسر اقتصار الحرس الوطني على “محاربة” المخربين انطلاقا من مفترق “النقرة” وخوفا كذلك من وصولهم إلى منطقة الحرس القريبة رغم أنها عبارة على قلعة محصنة جيدا.

لا يتعلق الأمر عادة في الاضطرابات التي تحدث بجماعات سياسية منظمة ولا ترفع شعارات أحزاب أو تنظيمات شبابية فيها ولا تبتدأ الأحداث كل ليلة منذ 3 أيام بمسيرات شعبية أو مظاهرات سلمية تتحول إلى العنف. يتعلق الأمر عادة بمجاميع من الشباب تبتدأ “السهرة” بالتجمهر واشعال العجلات أو حاويات الفضلات ومع تدخل قوات الحرس لتفريقها تقذفه بما تيسر من مواد صلبة كالحجارة وغيرها ليردّ بالغازات المسيلة للدموع. بحيث تمر الليلة بين كر وفر وقد تكون جائزة انتصار الحرس القاء القبض على بعض المشاغبين أما جائزة انتصار الطرف الآخر المجسم في تراجع القوات من أحد المواقع فتكون اقتحام المحلات التجارية ونهبها وحرقها بعد سرقة ما تيسر من خيراتها. لا يعلم كثيرون هوية المخربين ولا يجد هؤلاء سندا شعبيا ويبتسم الأهالي كثيرا عند سماع اتهامات من قبيل أن الجبهة الشعبية متورطة في أعمال الشغب. ورغم أن البعض يبرر الأمر بانخفاض مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار وبالصعوبات التي يلقاها المواطنون في توفير المستلزمات الأساسية للحياة في ظل عجز الحكومة والفساد المستشري لدى الطبقة السياسية إلا أن البعض يشك بأن أطرافا سياسية متواجدة في المنطقة قد تكون تحرض البعض من خلف ستار.

”نقمة وغضب وحنق واستياء وخوف من المستقبل وتحميل الحكومة مسؤولية تردي الأوضاع“. لا يختلف حي الانطلاقة وحي التضامن عن بقية مناطق الجمهورية وليسا مسكونين بالمجرمين أو بالمخربين ولا يطلب أهاليهما شيئا غير الاهتمام بهم وحمايتهم هم كذلك من أقلية تحوّل أحياهم كل ليلة مرتعا للمجرمين وقطاع الطرق فهم ليسوا مسرورين باندلاع المواجهات وأعمال الشغب ولا يريدون شيئا غير العيش في سلام مع عائلاتهم.

مع نهاية كل يوم عندما يبدأ الحرس الوطني نشر قواته ويبدأ عشرات المخربين في الاستعداد لمواجهات جديدة يحث عشرات الآلاف من المواطنون القاطنين هناك الخطى للعودة إلى منازلهم والاحتماء بها ليعيشوا ليلة رعب جديدة خوفا على سلامتهم الجسدية وعلى ممتلكاتهم منتظرين بزوغ أول خيوط الشمس لفتح نوافذهم وأبوابهم واكتشاف ما خلفته مواجهات الليلة السابقة من أضرار. سامي بن سلامة

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.