الرئيسية » حديث الجمعة: المرجئة في الإسلام، هذا النموذج للحريات

حديث الجمعة: المرجئة في الإسلام، هذا النموذج للحريات

بقلم فرحات عثمان

المرجئة هي من بين الفرق الدينية التي عرفها التاريخ الإسلامي في أوج حضارته حين تعددّت وتنوّعت والملل والنحل إذ لم تكن تدخل تحت حصر خلافا لما قيل عند أهل السنة الذين قصروا عددها على السبعين حسب الحديث الموضوع المروي عن أبي هريرة.

ورغم ما كُتب في ذلك عن هاجس الانقسام والفتنة، إذ اعتُبر تخلّفا وضياعا للدين، فقد كان هذا التعدد ثراء وإثراء للإسلام؛ فهو من علامات التحضّر، من تلك المؤشّرات التي تبيّن ما أسميته الحداثة التراجعية لحضارة الإسلام، أي حداثته السابقة لحداثة الغرب rétromodernité. فكان بمثابة تعدّد الأحزاب اليوم في الدول الديمقراطية، حيث تتنوّع الرؤى وتختلف؛ فكما الديمقراطية هي في التعدّد والتفرّق سلميا، لا الاجتماع الذي يُفرض قهرا، كان الإسلام كذلك في الرأي في الدين والرأي الآخر قبل أفول حضارته.

لقد كانت بحق هذه الفرقة قبل اندثارها نموذجا للحريات ولدين الاختلاف والائتلاف حول الحقوق المشروعة للعبد في ملّة يتقدّس حريته؛ فهي من أفضل ما يلخّص الإسلام في صفائه الأول وسماحته الجوهرية المفقودة.

المرجئة، ما هي ؟
المرجئة من بين الفرق الإسلامية المهمّة؛ وهي القائلة إن قيمة الكسب البشري في النية والقصد أساسا، إذ كانت تعتقد في تأخير حسابه وعقابه الذي هو أخص خاصيات الله وليس إلا له الحساب والعقاب أو المغفرة. لذلك، فهي تقول بأنه «لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.»

عرفت الفرقة انتشارا واسعا عند أهل الإسلام بمختلف تياراته؛ وقد عدّ منها الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» أربعة أصناف: «مرجئة الخوارج ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية والمرجئة الخالصة… وكذلك الغيلانية أصحاب غيلان الدمشقي أول من أحدث القول بالقدر والإرجاء.» وهناك من المرجئة، مثل غسان الكوفي، من فرقة المرجئة الغسّانية، من عدّ أبا حنيفة النعمان من فرقته؛ إذ كان يُحكى عن صاحب المذهب الحنفي كلامت مثل مقولات مذهبه. يقول الشهرستاني: «كان يقال لأبي حنيفة وأصحابه : مرجئة السنة وعدّه كثير من أصحاب المقالات من جملة المرجئة، ولعل السبب فيه أنه لمّا يقول الإيمان : هو التصديق بالقلب، وهو لا يزيد ولا ينقص، ظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان.»

يبيّن صاحب الملل والنحل أن للإرجاء معنيين: «التأخير، كما في قوله (قالوا أرجه وأخاه) [الأعراف، 111- الشعراء، 36]، أي أمهله وأخّره. والثاني إعطاء الرجاء.» والمعنى الفقهي هو ما يضيفه، أي : «تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا : من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار».

ضرورة إحياء الإرجاء :
عدّ الأشعري في «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين» ما لا يقل عن اثنتي عشرة فرقة من المرجئة التي انقسمت إلى تيارات لاختلافات في الإيمان؛ فمنهم من يزعم «أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وإن سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما والعمل بالجوارح، فليس بإيمان… وأن الكفر بالله هو الجهل به»

ويضيف أن هناك من زعم «أن الإيمان بالله هو المعرفة فقط والكفر هو الجهل به فقط، فلا إيمان بالله إلا المعرفة به، ولا كفر بالله إلا الجهل به»، ونجد أيضا فرقة زعمت «أن الإيمان هو المعرفة بالله والخضوع له وهو ترك الاستكبار عليه والمحبة له؛ فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن».كما هناك من رأى أن الإيمان هو «المعرفة بالله والخضوع له والمحبة له بالقلب والاقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء». وغير بعيد عن هذا وذاك من قال «أن الإيمان هو الإقرار بالله وبرسله وما كان يجوز في العقل أن يفعله وما كان جائزا في العقل أن لا يفعله فليس ذلك من الإيمان».

رغم الانقسامات التي ساهمت في زوال المرجئة، فإنها لم تتعلّق إلا بدقائق وتفصيلات معنى الإيمان لا بمعنى الإرجاء وهو المهم في فهم الدين. فقد أجمعت كل الفرق، حسب الشهرستاني نفسه، على «أن الدار دار إيمان وحكم أهلها الإيمان إلا من ظهر منه خلاف الإيمان، واختلفت المرجئة في الاعتقاد للتوحيد بغير نظر: هل يكون علما وإيمانا أم لا». المهم هنا أن نلاحظ أن المرجئة، أو أكثر فرقها، كما يقوله صاحب مقالات الإسلاميين، «لا يُكفّرون أحدا من المتأوّلين ولا يكفّرون إلا من أجمعت الأمة على إكفاره.»

هذا الأهم، دون أدنى شك في هذا التيار الفكري في الإسلام الذي يقتضي من المسلمين النزهاء إحياءه، إذ من الضروري لأمة الإسلام اليوم، وهي تعيش أتعس أيامها مع لخبطة قيمية فاحشة، العودة إلى قراءة سليمة سلمية للإسلام مثل قراءة المرجئة. فهي من الفهم الصحيح للدين، إذ تؤكّد قيمة الإيمان فيه دون ما عداه من مظاهر الشعائر، إذ الإسلام الإيمان الصحيح والتقوى الصادقة، قبل المظاهر الخادعة. فحسن النية لا يظهر ضرورة في الجوارح، إنما محلّه في مكنون القلب وصفاء السريرة، وهذا لا يتجلّى إلا في الفعل والكسب. ألم يأت في الحديث الصحيح (وهو في البخاري ومسلم) أن من آمن بالله ورسوله دخل الجنة وإن سرق أو زنى؟

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.