الرئيسية » حديث الجمعة: أين التقوى الحقيقية في مساجدنا؟

حديث الجمعة: أين التقوى الحقيقية في مساجدنا؟

بقلم فرحات عثمان

التقوى من الوقاية، أي اتقاء العقاب والعمل على ما يؤدّي إلى المغفرة؛ وأفضل وقاية هي المسارعة للعمل لأجل الصيانة من الأذى، إذ الإسلام كف اليد واللسان عن الأذية. وليس هذا ما نجده في مساجدنا اليوم!


التقوى الإسلامية ليست تقوية المسيحية

إن التقوى الإسلامية ليست التقوية المسيحية Piétisme، وهي المغالاة في التشدد الديني Rigorisme والتمسك بالمظاهر إلى حد الرياء الذي حذّر منه دين الإسلام، بل وندّد به. فالتقوى الأصيلة هي في النية الصادقة؛ ولا صدق في المراءاة. رغم هذا الثابت الإسلامي، نرى أهل الإسلام، بما فيهم الحريص على الصلاة وارتياد المساجد لكل صلاة وفي وقتها، لا يحرصون إلا على ذاك التصرف، لا غير، كأن دين الحنيفية مجرّد شعائر لا كسبا قبل كل شيء. فالصلاة لله، بينما العمل والتصرف هو من واجب المؤمن إزاء غيره، مؤمنا كان أم لا؛ إذ الإيمان في الإسلام هو الأخلاق قبل الطقوس! أين هذا مما نرى في مساجدنا؟

إننا لا تفتأ نتصرّف بعنجهية باسم فهم خاطىء للدين، إذ يسمح المصلّون مثلا لأنفسهم بالتسلط على راحة غيرهم ممن لا يصلّى، أو لعله يصلّي لكن في غير وقت الصلاة مما يسمح له به دينه. فالدعوة إلى الصلاة بالمآذن تبث بمكبرات صوت وعلى نبرة جد عالية؛ وهذا ما قال به الدين، علاوة على أنه ليس ضروريا استعمال المكبّرات بما أن وقت الصلاة ليس بحاجة للتشهير له والحريص على الصلاة لا ينتظر الآذان، إنما يسارع لها.

إن الآذان بوتيرة صوتية عالية من شأنه أن يحمل مضرّة لبعض الناس، كالمريض والصغير والعامل بالليل، لعلهم بحاجة للراحة يمنعم منها الآذان لصلاة الفجر، خاصة في الشتاء. في هذا الإفساد باسم الدين؛ فهل هو من التقوى؟ أليس الإسلام يحث على احترام الآخر المختلف حتى في واجبه الديني الذي ليس له عليه حساب إلا مع خالقه؟ إننا بذلك نقلّد غير الإسلام، نؤسس فيه كنيسة وبيعة، ونعطي للفقيه ما ليس له، أي سلطة الأحبار والقساوسة!

وأين التقوى في بث القرآن بأعلى الصوامع وكأنه مجرد غناء يستحق الإشهار؟ إن القرآن للدراسة والتمعنّ في تعاليمه، ما يقتضي الخشوع والإنصات بانتباه، وهذا غير ممكن في الشارع حيث معترك الحياة التي حث الدين على عدم تجاهلها لأنه ليس دين تبتّل ونسك ومغالاة في المظاهر الزائفة. على المسلم، طبعا، ألا يتجاهل واجباته الدينية، ولكن ليس له أن يضحّي لأجل ذلك بواجباته الدنيوية نحو نفسه وأهله. فلكل مقام كسب وللصلاة والإنصات للقرآن وقته، وهذا لا يكون على قارعة الطرق، بل في أماكن الدراسة لمزيد من الخشوع التمعّن في معاني الفرقان.

التقوى الصحيحة غائبة عندنا

أين التقوى أيضا في مساجدنا وقد أصبحت محاطة بالأوساخ من كل جانب للحالة المتردية اليوم للنظافة في مدننا؟ أليست الصلاة تأمر بالنظافة وحسن التصرف؟ فهلا أوجب الإمام على مرتادي المجسد الجامع، أو تطوّع المصلون بأنفسهم، التجنّد لتنظيف محيطهم، مبرهنين في نفس الوقت على حسّهم الوطني وتقواهم! ألا يأمر الدين بذلك؟ أليس هذا أفضل الصلاة، إذ هي أولا وقبل كل شيء الطاعة، وقد أمر الله بالنظافة في كل شيء؟ فأي نظافة للصلاة بمسجد نظافته بالداخل لا تكفي لوجوده محاطا بالأوساخ؟

التقوى الصحيحة هي أيضا إعطاء المثل؛ وهو الواجب الأول لمن ادّعى التمسك بعرى الدين القيّم؛ وهذا ما لا نراه! فهاهي المساجد، حسب التصريحات الأخيرة لوزير الشؤون الدينية، لا تسدّد ما بذمّتها من ديون إزاء شركة الكهرباء والغاز؛ فقد وصلت مديونيتها لها إلى حدود 18.500 مليون دينار. فأي مثل لسوء التصرف من طرف المساجد وقد علمنا أن تلك الشركة لا تتوانى عن قطع الكهرباء والغاز عن العائلات المعوزة لعدم سداد ما عليها من دين أقل بكثير من مثل هذا المبلغ؟ هذا التصرف لا يعبأ بمآسي الناس، وهو يمنع من لوم المواطن العادي عن سوء تصرّف أكبر يصدر عنه، ما ينفر في الجملة عن الدين الحنيف!

ثم لم تتكلف الدولة، أي كل المجتمع، بخلاص فاتورة الكهرباء والغاز والماء للمساجد ودور العبادة، بما أن مصاريف الكهرباء والماء في ميزانية الدولة؟ فهي، حسب الوزير، تتجاوز بميزانية السنة المقبلة مبلغ 11 مليون دينار. أليس ما قاله أحد النشطاء السياسيين صحيحا، أي أن دفعها من واجبات من يصلّي ويرتاد المساجد، لا المجتمع برمته، مما لعل من شأنه التمكين من خلاص ما تخلد بذمة هذه المساجد من تلك الأموال التي تعمل شركة الكهرباء وشركة الماء على استردادها من أبناء الوطن المعوزين. أين التقوى وأخلاق التكافل الإسلامية في كل هذا؟

التقوى عندنا ضائعة! إنها بحاجة إلى ثورة قيمية لا بد من القيام بها؛ وهي مسؤولية كل مواطن، وليس لها أن تكون مهنة من اختصاص البعض دون البعض. إلا أنها مما يتوجّب أولا وخاصة على من يدّعي التقوى، فلا يأتيها أو يأتي ما يناقضها، كهؤلاء الوعاظ والخطباء الذين قال فيهم وزيرهم أن البعض فيهم، بل العديد منهم، يشكو من نقص في الكفاءة، إذ أننا لا نراه يفعل إلا اجترار ما وقع في مصنّفات التراث ولا يجتهد كما أمره بذلك دينه.

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.