الرئيسية » أيّ مستقبل للعلاقات الإقتصاديّة التجاريّة بين تونس والاتحاد الأوروبي؟

أيّ مستقبل للعلاقات الإقتصاديّة التجاريّة بين تونس والاتحاد الأوروبي؟

بقلم أحمد بن مصطفى*

 

موضوع إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق بين تونس والاتحاد الأوروبي عاد إلى صدارة الأحداث الوطنية بمناسبة الدائرة المستديرة الملتئمة بتونس بتاريخ 23 سبتمبر الماضي بمبادرة من جمعيّة “سوليدارتونس” و المنتدى التقدمي العالمي.

وقد التأم هذا اللقاء بحضور سفير الاتحاد الأوروبي بتونس وشخصيات ممثلة للمجتمع المدني والسياسي والنقابي التونسي تحت عنوان «التبادل الحر الشامل والمعمّق (الاليكا) تونس ـ الاتحاد الأوروبي: من أجل اتفاق تقدمي». والجدير بالملاحظة أن إنعقاد هذه التظاهرة حول مستقبل العلاقات التونسية الأوروبية في هذا التوقيت بالذات وفي أعقاب إعراب تونس رسميا عن رغبتها في الخروج من سياسة الجوار الأوروبي القائمة على توسيع التبادل الحر مع أوروبا يطرح تساؤلات حول الرسائل المتعددة التي أرادت الجهات المنظمة تمريرها إلى تونس خاصة في ضوء مضمون المداخلات المقدمة من السفير الأوروبي والأطراف الأوروبية الأخرى المساهمة في النقاش.

تمسك الجانب الأوروبي بتوسيع التبادل الحر مع تونس

لوحظ أن الموقلف الأوروبي التقليدي المؤيد للتسريع بإبرام إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق كان حاضرا بقوة في ردود سفير الاتحاد الأوروبي ـ التي إتسمت حسب رواية بعض الحاضرين بالحماس والتشنّج- إزاء الانتقادات والمخاوف الواردة على لسان الأطراف التونسية المتحفظة و المتوجسة من توسيع التبادل الحر مع أوروبا والمطالبة بمراجعة جذرية للعلاقات مع أوروبا على ضوء النتائج السلبية الموصوفة بالكارثية لاتفاق 1995 للتبادل الحر للسلع الصناعية بوصفه العمود الفقري لمسار برشلونة المعروف بكونه أول لبنة لما يسمى بسياسة الجوار الأوروبية التي انطلقت بالشراكة الأورمتوسطيّة ذات المضامين الاستراتيجية الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والأمنية، وقد كان من المفترض أن تؤدي إلى إرساء فضاء متوسطي للسلم والأمن والاستقرار والتنمية المتبادلة لشعوب الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط.

لكن الغرض الحقيقي لهذا المسار كان يتمثل في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الدول الغربية في اطار منظمة التجارة العالمية وهو فتح الأسواق الدولية أمام تدفق كافة أشكال السلع والخدمات الغربية وذلك برفع كافة أشكال القيود والحواجز الديوانية والإدارية أمامها.

وإزاء تعثّر المفاوضات لجأت الدول الغربية والأوروبية إلى صيغة الاتفاقيات الثنائية على غرار اتفاقية 1995 مع تونس التي تم تعميمها لاحقا على جل دول الضفة الجنوبية للمتوسط وهي تتعلق بإرساء منطقة للتبادل الحر للسلع الصناعية يفترض أن يقع توسيعها لاحقا لتشمل كافة القطاعات والسلع والخدمات عبر ما يسمّى التبادل الحر الشامل والمعمّق.

مسار برشلونة وإتفاق 1995 مجرد غطاء لتوسيع إقحام تونس في العولمة التجارية غير المتكافئة واقتصاد السوق

هكذا تبيّن أن مسار برشلونة لم يكن في واقع الأمر سوى مطية لفرض علاقات تجارية غير متكافئة على تونس وبلدان الضفة الجنوبية للمتوسط بهدف السيطرة على أسواقهم التجارية و قطاعاتهم الإنتاجية الأكثر ربحية والحفاظ على تبعيتهم و إبقائهم تحت الهيمنة الاقتصادية والسياسية الغربية الحصرية في اطار الصراع على النفوذ على المنطقة خاصة بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي و فرض الليبرالية الاقتصادية الغربية كاسلوب وحيد لإدارة الشأن الاقتصادي و التجاري في العالم .

وقد تأكد ذلك بعد أن تخلى الاتحاد الأوروبي عن الأهداف النبيلة لمسار برشلونة في إرساء فضاء للسلم والأمن والتنمية المتبادلة واختزاله للعلاقات مع تونس والضفة الجنوبية للمتوسط في أبعادها التجارية البحتة مع إصراره على توسيع التبادل الحر دون إجراء تقييم لنتائج إتفاق 1995 الذي أثبتت الدراسات نتائجه الكارثية وانعكاساته المدمرة على النسيج الصناعي التونسي وعلى الميزان التجاري وميزان المدفوعات فضلا عن التوازنات المالية الكبرى للبلاد.

ولابد من الإشارة إلى أن التبادل الحر غير المتكافئ، وان كان ركن أساسي من منظومته اقتصاد السوق ومصدر رئيسي للعجز التجاري والمالي المتفاقم، فإنه يتداخل مع قانون الاستثمار وترسانة كاملة من التشريعات والقوانين الأخرى التي فتحت المجال للمستثمرين ورؤوس الأموال الغربية للاستحواذ على مجموعة من الأنشطة والقطاعات المربحة ذات القيمة المضافة العالية بتونس مما ساهم في تعميق الأزمة الاقتصادية والعجز في ميزان المدفوعات والمديونية الخارجية التي بلغت معدلات خطيرة غير مسبوقة أوصلت تونس إلى حالة من الإفلاس غير المعلن. وهكذا يتضح ان اتفاق 1995 واتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق و قانون الاستثمار ليسا سوى إحدى أدوات الهيمنة الغربية التي تكرست بعد الثورة من خلال ما يسمّى بالشراكة الجديدة من أجل الديمقراطية التي عرضت على «دول الربيع العربي» بمناسبة قمّة مجموعة السبع المنعقدة في دوفيل الفرنسية في ماي 2011.

العلاقة الجدلية بين توسيع التبادل الحر غير المتكافئ مع أوروبا ومجموعة السبع و استفحال العجز التجاري و المالي
تجدر الإشارة إلى الثورة التونسية اندلعت في ظرفية دولية تميّزات بتفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية المندلعة سنة 2007 التي هي في واقع الأمر أزمة منظومة اقتصاد السوق والعولمة الاقتصادية وأدواته المتمثلة في التبادل الحر التجاري، وحرّية انتقال رؤوس الأموال وحرّية الاستثمار دون حدود أو قيود إدارية أو جمركية، وتوفير الحماية المطلقة والحصانة القضائية للمستثمرين الأجانب مع منع كافة التدابير أو الإجراءات الحمائية أو الرقابية الكفيلة بحماية مصالح الدول الضعيفة اقتصاديا مثل تونس التي ليست لها الطاقات الصناعية والانتاجية والعلمية والمالية الكفيلة بتمكينها من استغلال ثرواتها محليا أو الاستفادة من التبادل الحر غير المتكافئ مع الأسواق الأوروبية أو العالمية.

وعلى عكس ذلك، فقد بيّنت الأرقام الرسمية التونسية ان العجز التجاري والمالي التونسي ما إنفك يتفاقم منذ إنخراط تونس سنة 1986 في منظومة العولمة من خلال ما يسمّى بالبرامج الاصلاحية مع صندوق النقد الدولي الذي يعمل بتنسيق مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع والبنك العالمي على عولمة التبادل الحر الخاضع لهيمنة الكتلة الغربية.
وعلى سبيل المثال ان العجز التجاري التونسي اتخذ منحا تصاعديا مستمرا منذ ثلاثة عقود حيث قفز من 1111,5 ـ مليار دينار سنة 1987 إلى 20,655 مليار سنة 2016، كما انخفضت نسبة تغطية الصادرات بالواردات خلال نفس الفترة من 70 بالمائة إلى 27,1 بالمائة فقط.

وكذلك الشأن بالنسبة للمديونية الخارجية التي لم تكن تتجاوز 3180 مليون دينار سنة 1985 لترتفع إلى 5810 مليون دينار سنة 1990. ومنذ ذلك التاريخ المتزامن مع انتشار العولمة الاقتصادية والمالية والتبادل الحر التجاري ارتفعت المديونية الخارجية بنسق متزايد بالتوازي مع تعمق العجز خاصة بعد إبرام اتفاقية 1995 مع الاتحاد الأوروبي والشروع في انجاز ما يسمّى ببرنامج تأهيل الصناعات التونسية بالاعتماد على قروض من الاتحاد الأوروبي.

لقد تضاعفت المديونية مرتين لترتفع من 12795 مليار دينار سنة 1999 إلى 20373 سنة 2005 لتقفز إلى حوالي 50 مليار دينار سنة 2010. ويعزى هذا الارتفاع الجنوني إلى حرمان خزينة الدولة من الموارد الديوانية نتيجة إتفاق 1995 وكذلك الموارد الجبائية بسبب الاعفاءات الممنوحة للأجانب بقانون الاستثمار فضلا عن النقص في الموارد الناجم عن التهرب الجبائي في الداخل والتجارة الموازية وتهريب الأموال إلى الخارج واستشراء الفساد بكافة أشكاله.

و بذلك انحصرت مصادر تمويل الميزانية مما إضطر الدولة الى اللجؤ بشكل متزايد الى التداين الخارجي ” القذر” الذي يتجاوز طاقة البلاد على التسديد مما أدى إلى بروز ظاهرة التحويلات السلبية الصافية منذ1986 وهي تتمثل في العجز المزمن في ميزان المديونية الناجم عن تجاوز المبالغ السنوية المدفوعة للدائنين بعنوان خدمة الدين في بعض السنوات المبالغ التي تتحصل عليها تونس بعنوان القروض الجديدة علما ان هذا العجز بلغ أكثر من 7 مليار دينار الى غاية 2010 وهو في تزايد مستمر بعد الثورة .

إستفحال الأزمة الاقتصادية والمالية بتونس بعد الثورة

كان من من المفترض أن تتدارك تونس هذه الأوضاع بعد الثورة التي منحت المسؤولين التونسيين الجدد فرصة تاريخية لتقييم سياسات النظام السابق وأسباب فشلها وفتح حوار وطني حول سبل مراجعتها بما يتماشى مع أهداف الثورة وتطلعات الشعب التونسي. لكن الأطراف الخارجية الغربية تحركت بسرعة بالتنسيق مع الأطراف الداخلية التونسية المرتبطة مصلحيا معها، وذلك بهدف احتواء الثورة وتوجيهها بما يضمن تواصل نفس السياسات الاقتصادية والخيارات الدبلوماسية ذات الصلة.

ولاشك أن مجموعة السبع، التي تضم الاتحاد الاوروبي في عضويتها، لعبت دورا مركزيا في هذا الاتجاه وذلك من خلال قمة دوفيل المنعقدة في ماي 2011 التي عرضت على تونس وبلدان ما يسمّى بالربيع العربي، إطارا جيدا لتنظيم العلاقات شمال جنوب سمي «بالشراكة من أجل الديمقراطية».

وتتضمن هذه الشراكة إلتزامات محددة بتوفير برنامج ضخم للمساعدات المالية وفي شكل «برنامج مارشال» وتمكين تونس من استرداد أموالها المنهوبة وذلك لتوفير الإمكانيات المالية والاقتصادية والسياسية الضرورية لتحقيق الانتقال السياسي والاقتصادي في ظروف ملائمة.

لكن هذه المساعدات كانت مشروطة بمواصلة تبني تونس لسياسة اقتصاد السوق والتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي وكذلك مواصلة تونس في تسديد ديون النظام السابق في إطار ما سمي بتواصل الدولة في إحترام التزاماتها الدولية.

وإذا كانت تونس قد استمرت في اتباع نفس السياسات بدليل توقيعها على برنامج العمل مع الاتحاد الأوروبي منذ 2012 وشروعها في المفاوضات حول إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق وكذلك التوقيع على اتفاقيات أمنية واقتصادية عديدة مع دول مجموعة السبع، فإن هذه الأخيرة تنكّرت لوعودها المشار إليها مما ساهم إلى جانب عوامل داخلية ذاتية في مزيد تعميق الأزمة الاقتصادية وأزمة المديونية التي خرجت عن دائرة السيطرة مما اضطر تونس إلى اللجوء مجددا منذ 2013 إلى ما يسمّى بالبرامج الإصلاحية المرتبطة بقروض مشروطة من صندوق النقد الدولي وهي تهدف في حقيقة الأمر إلى تكريس التبعية المالية لتونس لتثبيت إنتماءها إلى منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر غير المتكافئ.

وهذا ما يفسّر التدهور المستمر وبنسق متسارع لكافة المؤشرات الاقتصادية الأساسية، ومنها المديونية الخارجية والداخلية التي تضاعفت خلال السنوات الخمس الأولى الموالية للثورة حيث ارتفعت من 25 إلى حوالي 50 مليار دينار سنة 2015 علما أنها تناهز حسب آخر أرقام وزارة المالية الصادرة في جويلية 2017. 66,9 بالمائة من الناتج الداخلي الخام ومجملها حوالي 63 مليار دينار علما أن الديون الخارجية تشكل قرابة ثلثي هذا المبلغ.

وكذلك الشأن بالنسبة للعجز التجاري الذي وصل إلى 20,6 مليار دينار سنة 2016 في حين انه كان في حدود 8610 مليار دينار سنة 2010، وهو مرشح لمزيد التدهور حسب آخر الأرقام المتعلقة بالثلاثية الأولى لسنة 2017.

وهكذا يتضح أن تونس وصلت إلى طريق مسدود من الناحية الاقتصادية ولابد لها من الاقرار بفشل مراهنتها على مواصلة سياسة الإنخراط في عولمة تجارية خاضعة للهيمنة الغربية والحال أن هذه المنظومة تواجه منذ 2007 أزمة حادة أوصلتها إلى مأزق حقيقي وهو ما بدا واضحا في الآونة الأخيرة من خلال الانشقاقات والخلافات الحادة التي برزت صلب مجموعة السبع و مجموعة العشرين بسبب النزعة الحمائية التي تبنتها إدارة الرئيس ترامب في علاقاتها الاقتصادية الدولية.

وخلاصة القول ان تونس بحاجة إلى إجراء تقييم شامل لمسيرة علاقاتها مع شركائها الاستراتيجيين منذ الاستقلال و خاصة اعضاء مجموعة السبع و الاتحاد الاوروبي والدخول معهم في حوار استراتيجي لبلورة تصور مستقبلي لهذه العلاقات يتماشى مع مقتضيات المصلحة العليا لتونس في الأمدين المتوسط والبعيد.

 

*سفير سابق

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.