الرئيسية » ما يهمنا مما يحدث في فرنسا على مستوى الحزبي

ما يهمنا مما يحدث في فرنسا على مستوى الحزبي

بقلم فرحات عثمان *

ماذا يهم تونس مما يحدث بفرنسا على مستوى اختيار مرشح الأحزاب لرئاسية الربيع القادم، وأي عبرة نستخلصها للحياة السياسية عندنا حتى نضمن الأفضل لشعبنا؟

 

دروس من الحياة السياسية الفرنسية :

لقد أصبحت عادة الانتخابات الأولية على المستوى   القاعدي  للأحزاب Primaires الطريقة المثلى لاختيار من يمثلها  في الانتخابا الرئاسية‫. فبعد الانتخابات الأولية لليمين، ها هو اليسار ينتهى البارحة من المرحلة الأولى ويستعد للدور الثاني والأخير مع تعيين مشرح الحزب الاشتراكي لرئاسية الربيع القادم.

هذا ولا شك  أول درس على أحزابنا العمل به حتى يُحيوا روح النضال فيها وقد أصبحت مجرّد قوقعات وصدف فارغة.  إلا أن هذا لا يزال اليوم بعيد المنال نظرا لتغلب المصالح الذاتية علـى الحياة الحزبية.

لنتمعّن إذن مليّا في ما يمكن لنا أن نستشفه غيره من تلك الإجراءات رغم خصوصيتها بالنسبة للواقع الفرنسي؛ فلا شك أننا نجد، انطلاقا منها، ما من شأنه إفادتنا أكثر عما يدور ببلدنا لطغيان الهوس بها وعلى غالبية أذهان ساستنا بما يحدث في فرنسا.

نحن لو فهمنا ما حدث ويحدث بفرنسا، فلعل للبعض منا من أهل الحل والعقد استخلاص عبرة تمكّن من الخروج من الوضع المزري الذي يعيشه بلدنا.

مثلا، بأن يكفّ عن الامتناع من الاتيان بالجديد، مكتفيا بتقليد ما يحدث بالغرب، رغم أنه ليس فيه ما ينبيء بأي خير للبلاد وللعباد إذا اكتفينا بالأخذ بما فسد فيه وهو في سبيل الاضمحلال.

استنتاجات الانتخابات الأولية الإشتراكية :

إن أول ما يلفت الانتباه في ما جرى يوم الأحد الماضي بالنسبة للانتخابات الأولية للحزب الاشتراكي هو تناغم النتائج مع ما كان في الدور الأول للحزب اليميني الأكبر.

فقد فشل المرشح الأول فيه، وهو الوزير الأول الأسبق مانيال فالس Manuel Valls ، في الحصول على المرتبة الأولى، تماما كما فشل عند اليمينيين الان جيبي Alain Juppé  رغم أنه أيضا كان الأوفر حظا حسب استطلاعات الرأي.

في كلتا الحالتين، لم تكن رابحة ورقة التجربة بالنسبة للإثنين، ولا كبر السن بالنسبة لمرشح اليمين؛ بل لم يكن صغر السن عائقا لاختيار من هو أصغر عند اليسار.

لقد نجحت الاستراتيجية التي اعتمدها الفائز الأول بنوا هامون Benoît Hamon، وهي نفسها التي انتهجها فيون Fillon، الفائز اليميني بالدور الأول والأخير، أي النشاط الحثيث قرب المواطنين والبرناج المتكامل من الزواية الأيديلوجية، بغض النظر عما يتضمنه متنها من صحة أو خور.

لذا، تماما كما حدث بالنسبة لليمينيين، ستتجابه في الدور الثاني رؤيتين للمجتمع الفرنسي، خاصة على المستوى النظري. وهذا على أغلب الظن وحسب التقديرات لن يغيّر نتائج الدور الأول في النهاية عند أهل اليسار، تماما كما كانت الحال عند أهل اليمين.

فكما تقدّم فيون للدور الثاني بزاد كبير من الثقة ومساندة لأهم خصومه بعد الدور الأول، يحدث الأمر نفسه بالنسبة لهامون وقد حصل، منذ الإعلان عن النتائج، على مساندة خصمه السياسي مونتبورغ Montebourg رغم العداوة الموجودة بينهما، وقد حل هذا الأخير ثالثا رغم كبير الحظوظ التي تنبأ له بها الإعلام.

لقد استعمل فالس، مثل جوبي، ورقة اعتقدها رابحة، هي ورقة الشعبية والتعلّق بالنظام والوسطية؛ إلا أن كل ذلك كان بلا طعم ولا رائحة عند الناخبين. لذا، تم رفض مثل تلك الخلطة لما اشُتم فيها من مغالاة في الجمود الاجتماعي والسياسي. مع العلم أن فشل فالس في ولايته على رأس الحكومة، خاصة في ما تعلق بقانون الشغل، زاد ولا شك في حجم خسارته البارحة.

إن الدور الأول، وما سيأتي به الدور الثاني من تأكيد لنتيجته، ليبيّن إلى أي مدىً وصلت أزمة الحزب الاشتراكي بفرنسا، فهو علي قاب قوسين أو أدني من الانقسام بين يسارٍ متشددٍ، يمثله خاصة وبصفة أكبر من هامون، ميلانشون Mélenchon الذي ابتعد بعد عنه، أي هذا التعلّق غير المنطقي بأسطورة اليسار التاريخية الماركسية؛ ويمينٍ ليبيرالي لا يرى مناصا من اعتماد النظام الرأسمالي؛ ولعل أهم من  يمثله اليوم، ولو أنه غير اشتراكي- لذا لم يشارك في الانتخابات – إيمانوال ماكرون Emmanuel Macron. إن هذا الذي أتى به الرئيس هولاند كمسشار قبل أن يتفرّغ للرئاسية يُقال عنه أنه أوفر الحظوظ لتمثل يسارٍ ليبيراليٍ هجينٍ؛ وهو ما أصبح عليه حزب فرنسوا ميتران.

ولا شك أن أكبر دليل على ذلك العدد الهزيل من الأصوات الذي تحصّل عليه الممثل الرسمي للحزب، بايون Peillon  وقد تقمّص في هذا الدور الأول النهج الاشتراكي المعهود الآفل حتما بفرنسا.

لعل أفول الاشتراكية، كما عهدناها، لا يخص فرنسا وحدها، بل هو في العالم أجمع. فبالرغم مما حدث ويحدث في البلاد الإغريقية مع سيريزا Syriza أو في البلاد الإسبانية مع بوديموس Podemos، فقد انتهت لا محالة اشتراكية القرن الماضي.

مستجدات عالم ما بعد الحداثة :

هذا عالم بأكمله ينتهي، عالم الحداثة، إذ نحن في قرن جديد هو عالم ما بعد الحداثة، لعل ممثله الأكبر بفرنسا،  هذا السياسي الذي هو في نفس الوقت الأوفر حـظوظا للنجاح رئاسيا كما قلنا : ماكرون Macron.

إن عالم اليوم يعيش على وتيرة ثورة التكنولوجيا الرقمية والانترنت، ويزخر بقدرات افتراضية فائقة لم تعد تترك أي مجال للبقاء فيه للنظريات الأيديلوجية القديمة التي تهافتت واضمحلت، وسوف تختفي تماما إن لم تعرف التأقلم مع العقلية الجديدة. فلا حظ لها في الدوام أمام ما يتطلبه رأس المال والليبيرالية من هيمنة للسوق ومقتضياتها ولكل ما يميّز اليوم الاقتصاد المعولم غير المادي.

أي دور يكون، في مثل هذا العالم الجديد، للسياسي القديم الذي لا يعرف إلا مكتبه ولا يهتم إلا بقراءة الخطب المعدّة من طرف من هو أعلم منه بواقع البلاد والعباد؟ أليس المستشارون وأهل الإدارة أهم وأنفع من أهل السياسة؟

أي دور للوزير اليوم، بل ولرئيس الحكومة، وحتى لرئيس الدولة، في هذا الزمن الذي لا بد أن يكون القرار فيه للمعنيين بالأمر أولا وآخرا، أي هذا القرار المتجذر في الواقع المعيش، غير مركزي، يأخذه أصحابه حيث هم، على أرض الواقع، في البلديات والمعتمديات وحتى في الأحياء.

نعم، لقد بدأ المسؤولون ببلادنا يهتمون بهذا الجانب، فرأينا رئيس الحكومة مثلا، وأخيرا رئيس الدولة، يغيّرون صفة تخاطبهم مع الشعب، فيذهبون إليه حيث هو. إلا أن هذا لا يكفي، إذ لا بد من سياسةٍ كاملةٍ تُعنى به، بدايتها اللامركزية التامة، ونبذ الهرم السلطوي للقرار الإداري حتى يعرد لأصحابه، أي لكل من يهمه الموضوع لقربه منه.

هذه هي الحوكمة الرشيدة ما بعد الحداثية، فلا مناص منها حتى وإن بدا في تجلياتها الشيء من التفتت الظاهري للدولة كما عهدناها، وهو لا يعدو أن يكون ما يوجد في الأوركسترا الفني حيث المقطوعة لا تكون إلا بقائد الفرقة، لكنه لا شيء بغير العازفين فيها.

ذلك هو التوجه السياسي الجديد الذي فيه الأخذ بمصالح الجميع، فهي لا تكون متناغمة إلا إذا كان لأصحاب المصلحة تمام الصلاحيات للبت فيها دون البيروقراطية التي لا زالت تنخر دواليب الإدارات، لا في تونس وحدها بل وفي سائر بلاد العالم رغم أن زمنها ولى وانتهى.

العقلية الطاغية اليوم بالعالم أجمع هي عقلية رأس المال أحببنا أم كرهنا؛ وهي تقتضي، للحصول على النمو للمجموعة ولأكبر قسط منها، استنباط طرقٍٍ واستحداث آلياتٍ تعرف كيف توظف رأس المال دون تجاهله أو تشجيعه للإفراط في عيوبه، التي هي التوحش في البحث عن الربح إلى حد الريع.

ولا شيء يمنع ذلك، أي الحصول على التوسط في طلب الربح دون الفحش فيه، إذا عرف أهل السياسة في البلاد المتخلفة التنازل  لأجل الصالح العام عن الامتيازات التي يوفرها لهم رأس المال، إذ لا توحش لرأس المال إذا لم يجد من يشجعه على ذلك، بل ويفرض عليه ذلك.

هذا ما حدث ويحدث ببلدنا وبسائر الدول التي عرفت التحالف الفاحش الأخير بين رأس المال المتوحش والإسلام المتزمت، وهو توحش دعيّ على الاثنين،  ليس ضرورة من طبعهما، إذ يعرف رأس المال عدم الإفراط في ابتغاء الربح كما يحث على ذلك ديننا المنادي بالعدل والإنصاف والابتعاد عن التغابن.

لهذا، فإذا كان لا مناص لرأس المال العالمي أن ينجح بتونس، فليسعى الساسة بها، إذ هذا واجبهم الأول والآخر، للعمل على أن يكون فيه الخير العميم للجميع لا للبعض منهم، مستأثرا بامتيازاته، جاعلا إياها باطلا لأنها لا تنفع إلا القلة القليلة من لأهل الحل والعقد، سياسيا كان أو دينيا. فلعل مقولة «من أين لك هذا؟» هي أفضل مقولة للحوكمة الرشدية زمن ما بعد الحداثة!

أستاذ جامعي ودبلوماسي

 * المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.