الرئيسية » سفير أمريكا : تونس تشقّ طريقها إلى الأمام

سفير أمريكا : تونس تشقّ طريقها إلى الأمام

 

دانيال روبنستين*

لقد حللت بتونس بصفتي سفيرا في خريف سنة 2015، و لكن علاقتي بهذا البلد وشعبه تعود إلى أواخر التسعينات. إنّ تونس التي عدت إليها السنة الماضية لَهِي، من نواح عدّة، تلك التي عرفت من قبل – خليط من لسانين عربي وفرنسي، موسيقى السطمبالي والمالوف، تنافس فرق كرة القدم وكرة اليد المحليّة و حبوب صنوبر(البندق) التي تعلو شراب شاي بالنعناع.

ولكن إلى جانب تلك التقاليد الصامدة، فإنّ تونس التي عدت إليها تشهد عامها الخامس من فترة ما بعد بن علي وتخوض غمار مرحلة انتقالية شيقة بيد أنّها شاقّة أيضا، انتقال مليء بمصاعب تحقيق الذات، انتقال جعل تونس وأهلها يعيدون تعريف أنفسهم و فهم ما تقتضيه دولة ديمقراطية غداة ثورة سنة 2011.

لا يزال التونسيون بصدد تقرير كيف يُدرجون مبادئ الديمقراطية في الحياة اليومية ويحدّدون بذلك للأجيال القادمة معنى أن يكون المرء تونسيا. ستواصل الولايات المتّحدة دعم تونس الجديدة وهي تتطلّع إلى المستقبل كشريك استراتيجي وصديق عريق لها تعود علاقاتهما الدبلوماسية إلى سنة 1795.

عندما اختارت تونس سنة 2014 أوّل رئيس لها منتخب بشكل ديمقراطي، أشادت الولايات المتّحدة بالعمليّة السياسية التونسية. ولقد عاينّا النضج السياسي الذي أبداه التونسيّون حينذاك وهم يصوغون إجماعا حول المسائل الحيوية لاستمرار نجاح البلاد. ولقد أعلنا الحداد مع التونسيّين في السنوات الأخيرة حين هزّت الهجمات الإرهابية البلاد وهدّدت بتقويض التقدّم المحقّق بصعوبة كما احتفلنا أيضا بالإنجازات التونسية في صناديق الاقتراع وغيرها من الإنجازات.

وقد ألحقت تلك الهجمات بقطاع السياحة جرحا عميقا زاد في تعثر الإقتصاد الذي ماانفك يعاني من العثرات . وتحتاج تونس إلى الاستمرار في تعزيز هويّتها ومبادئها الديمقراطية وإلى تحسين قدراتها الأمنية و تدعيم إقتصاد أشمل للجميع وأكثر حيويّة وتنوّعا. وإن أيّ ركود أوإرتكاس على أيّ جبهة من هذه الجبهات الثلاث سيهدّد مسار تونس.

لكنّ تونس قد نجحت بالفعل ،حيث فشل الآخرون، نتيجة التزام مواطنيها بالعمل لحلّ خلافاتهم السياسية بصورة سلمية. ويجب علينا أن نستمرّ في دعم هذا الالتزام بينما تتجذّر لا محالة حياة سياسية سليمة وتنافسية. إنّ النجاح لأمر حيويّ و ضروري لهذه الدولة ذات الأحد عشر مليون شخص الباحثين عن مستقبل ديمقراطي آمن و مزدهر. وإنّ نجاحها المستمرّ لأمر حيويّ أيضا لمنطقة المغرب العربي ولعالمنا المترابط. إنّ توطيد الديمقراطية في تونس كان ولا يزال من المصالح الوطنية للولايات المتّحدة. وتعزّز المساعدات التي نقدّمها وشركاء آخرين من حظوظ تونس في تحقيق النجاح على المدى الطويل، ما سيجعل من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسّط مكانا أفضل وأكثر أمانا للجميع.

الأساس الحيوي للديمقراطية

لقد شهدت تونس منذ سنة 2011 تحوّلات جذرية لعلّ أكثرها وضوحا نموّ المجتمع المدني وانتشاره. ففي بلد كان يمنع جماعات المصالح ومجموعات المناصرة أو يسحقها، نجد في الوقت الحاضر الآلاف من المنظّمات غير الحكومية المسجلّة. وتدعم الولايات المتّحدة المواطنين التونسيّين وجهودهم الرامية إلى تعزيز المؤسّسات الديمقراطية على المستويين المحلّي والوطني. كما تقدّم برامجنا المساعدة الفنية والتدريب لأعضاء البرلمان ومسؤولي السلطة التنفيذية لتحقيق اللامركزية في السلطة والمسؤوليات والتمكين من خلال الانتخابات البلدية لكلّ ولايات تونس الأربع والعشرين. وقد ساعدنا منذ قيام الثورة على إتاحة الفرص للنساء والشباب للترشّح للمناصب العامة فزادت نتيجة لذلك الأحزاب السياسية من اتّصالها بهذه الفئات في المناطق الواقعة خارج تونس والمدن الساحلية.

تتجلّى ثمار هذه المرحلة الانتقالية واستمرار تقدّمها على جميع مستويات الحكم وما الاستعدادات للانتخابات البلدية وتطبيق اللامركزية إلاّ مثالان إثنان. ويعُدّ الكثير من قاطني المناطق المهمّشة تاريخيا تلك الانتخابات المحلية ونقل السلطة بعيدا عن العاصمة محدّدة لمدى الأخذ برأيهم في تحديد مستقبلهم. كما تمّ إحراز تقدّم ملموس في تعزيز المجتمع المدني وزيادة الشفافية التي ما كان يمكن تصوّرها قبل سنوات خمس. أمّا على الصعيد القانوني، فقد أصدرت تونس في الآونة الأخيرة تشريعات منع الاتّجار بالبشر ومنح حقّ النفاذ إلى المعلومات العامّة وأنشأت هيئة لمكافحة التعذيب.

استقرار محصّن للديمقراطية

إنّ الديمقراطية التونسية التي أُدرِكت بشقّ الأنفس ستذبل لامحالة إذا لم تتمّ حمايتها من التهديدات الأمنية. فلئن غلب الهدوء على سنة 2016، فقد مثّلت هجمات سنة 2015  الإرهابية على الفندق الشاطئي بسوسة، ومتحف باردو والحرس الرئاسي في تونس ضربات موجعة مسّت من شعور التونسيين بالأمن. ولكنّ قدرة البلاد على صدّ هجوم تنظيم داعش على مدينة بن ڤردان الحدودية في شهر مارس من هذا العام أظهرت للعالم أنّ التونسيّين سيدافعون عن ديمقراطيتهم. وتشارك تونس في الخطوط الأمامية في التحالف الدولي المضادّ لداعش، كما أنّ إسهاماتها السياسية والدبلوماسية في استقرار المنطقة جوهرية، لا سيما فيما يخصّ ليبيا. ويدلّ مستوى مشاركة تونس هذا إضافة إلى ردّها على التهديدات الداخلية على أنّها مستعدّة وراغبة وقادرة على خلق واحة أمن في منطقة مضطربة. ولكن لا يمكن لهذا أن يحقّقه التونسيون بمفردهم.

لذلك ضاعفنا من مساعداتنا الأمنية لتونس هذا العام، وهذا يشمل تدريب وحدات الأمن والقوّات العسكرية وتحديث المعدّات والمنهجيّات. وتساعد المعونة التي نقدّمها للجيش التونسي والشرطة والحرس الوطني على التطوّر لتغدو قوّات أفضل تجهيزا لمجابهة التهديدات الداخلية والخارجية. كما نعزز أيضا قدرة تونس على كشف تهريب الأسلحة وإحكام أمن الحدود.

وتشيد الولايات المتّحدة بمؤسسات إنفاذ القانون والعدالة الجنائية التونسية وزيادة احترامها لحقوق الإنسان وسيادة القانون. وقمنا خلال السنة الماضية بتدريب منتسبين لوزارة الداخلية التونسية على تقنيات التحكّم في الحشود. وقد أظهرت الشرطة خلال احتجاجات شهر جانفي 2016 الأثر الإيجابي لهذا التدريب في حماية المواطنين ورجال الشرطة على حدّ سواء. كما تدعم المساعدات الأميركية القطاع القضائي التونسي في تطبيق إجراءات محسّنة عند التحقيق والمقاضاة. ونعمل مع وزارة الداخلية لتحسين الوسائل المتاحة أمام المواطنين لتسجيل شكاوى ضد الشرطة دون خوف من الانتقام.

اقتصاد داعم للاستقرار

يرتكز استمرار الاستقرار في تونس على تعزيز الاستدامة الاقتصادية وعلى الديناميكية والقدرة على النفاذ وإتاحة الفرص. لئن كان بمقدور المانحين الدوليّين المساعدة في إصلاح القطاع الأمني في تونس وتطويره، فإنّ التطرف العنيف سيستمرّ في استقطاب التونسيين الذين تعوزهم الوسيلة للإسهام في إعالة أسرهم والمساهمة في مجتمعاتهم المحلية وفي المجتمع ككلّ. ورغم هذه التحدّيات، فقد مضت الحكومة التونسية قُدُما في الإصلاحات الاقتصادية التي من شأنها أن تكون أكثر دواما كونها ثمرة عملية سياسية شرعية. وستعزّز قوانين شراكة القطاعين العامّ والخاصّ والبنوك وقوانين الإفلاس علاقات تونس الاقتصادية العالمية بما في ذلك مع الولايات المتّحدة، بعد أن مهّدت الطريق لزيادة الاستثمار والتجارة وجعل القطاع الخاصّ أكثر قوة.

ورغم أنّ بناء مؤسسات مستدامة لتحقيق نموّ على المدى الطويل أمر بالغ الأهمية للنجاح فإن حاجة تونس للمساعدة مستعجلة ولذلك ساعدت الولايات المتّحدة تونس منذ سنة 2012 في الحصول على تمويل ميسور التكلفة قارب المليار ونصف دولار وذلك عبر تقديم ثلاث ضمانات قروض. ويتواصل التعاون الثنائي و الأمثلة كثيرة منها الاجتماع الأوّل لكامل اللجنة الاقتصادية الأمريكية التونسية المشتركة بواشنطن في شهرماي الماضي. وقد أعلن كلا البلدين اتّخاذ سلسلة من الخطوات التي ترمي إلى توسيع فرص الاستثمار وخلق فرص العمل وتحسين مناخ الأعمال العام وتحفيز نموّ اقتصادي يفيد كلّ التونسيين. وتُجسّد برامج كالصندوق التونسي الأمريكي لتمويل المؤسّسات (TAEF) التزام الولايات المتحدة بالاستثمار في الشركات الصغيرة والمتوسّطة إذ يستثمر هذا الصندوق، عبر تمويل كبير من الكونغرس، في الشركات الصغيرة والمتوسطة وهي من أهم محرّكات خلق فرص العمل لبناء استدامة طويلة المدى للقطاع الخاص في تونس. كما تدعم برامج مساعدة أخرى الشركات الجديدة في تونس وأصحاب المشاريع الشبان لدفع عجلة نموّ يقوده القطاع الخاصّ، إضافة إلى المساعدة  في خلق أكثر من 12 ألف فرصة عمل جديدة ومستدامة في القطاع الخاصّ. إنّ فتح مجال المنافسة داخل تونس وتحسين قدرتها التنافسية ضمن الاقتصاد الإقليمي والعالمي بشكل ملحوظ  يستحقّان أن يُولَيا أكبر اهتمام من قبل التونسيين والأمركيين وجميع الملتزمين بمستقبل أفضل لتونس الديمقراطية.

التطلّع إلى المستقبل

“من المهمّ أن نعترف بأنّ موطن انطلاق الربيع العربي هو البلد الذي شهد تقدّما خارقا في إتاحة الفرص لجميع الأطراف وجميع الفئات، بما في ذلك النساء والأقليات، للمشاركة الكاملة في الحياة المدنية والسياسية وهو ما يبشّر بمستقبل مشرق لتونس وأبنائها… أريد أن يعلم رئيس الجمهورية التونسية وشعبها أنّ الولايات المتحدة تؤمن بإمكانيات تونس وتستثمر في نجاحها وستعمل على مرّ السنين كشريك دائم لها.”

لا تزال كلمة الرئيس أوباما بُعيد لقائه بالرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في شهر ماي  من سنة 2015 تلامس عين الحقيقة إذ أنجزت تونس أمورا خارقة خلال السنوات الخمس الماضية ولكن تلك السنوات لم تكن قطّ باليسيرة. إذ يشعر الشباب بالإحباط لأنّ التغيّر الجوهري المنشود لم يحدث بسرعة أكبر، كما يواجه معظم التونسيّين إدراكهم أنّ الديمقراطية سباق ماراثون وليست بسباق عدْو عاديّ. ولكنّهم رغم ذلك يحافظون على التزامهم الثابت بالنجاح حتّى وهم يواجهون خيبة الأمل والحقيقة القاسية، حقيقة ما يتطلّبه دفع عجلة  الديمقراطية من عمل و جهد. وتستند علاقتنا مع تونس على ركائز ثلاث إن هوت إحداها أحدق الخطر بالبنيان كلّه: ترسيخ الديمقراطية الفتيّة وتعزيز الأمن الذي اُمتُحِن بشدّة، وتحفيز النموّ الاقتصادي المستدام الشامل للجميع. ويقع على عاتق الولايات المتّحدة وأصدقاء تونس الآخرين مسؤولية المساعدة كي يبقى هذا الأساس صلبا قدر الامكان والدعم لهذا الالتزام كي يؤدّي إلى النجاح والتأكّد من أن تحظى تونس بكل الفرص لتحقيق حلمها في الديمقراطية.

………………………………………………………………….

*دانيال روبنستين هو  سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى تونس

……………………………………………………………………

**نشر المقال على الموقع الرسمي للسفارة الأمريكية

……………………………………………………………………..

 *** المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.