الرئيسية » في تجسيد الأنبياء والصّحابة : فصل المقال فيمَن ادّعى الباطل بقصد الإضلال

في تجسيد الأنبياء والصّحابة : فصل المقال فيمَن ادّعى الباطل بقصد الإضلال

%d8%aa%d8%ac%d8%b3%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%b3%d9%88%d9%84

بقلم : أسعد جمعة*

في الأيّام القليلة الماضية، طلعت علينا إحدى الصّحف الإلكترونيّة “حقائق أون لاين” بعنوان أراده صاحبه بمثابة فصل المقال في مسألة خلافيّة: “تجسيد الأنبياء والصّحابة”، والحقيقة أنّ بعض الحشويّة من سلفيّي الوهّابيّة الحنبليّة يقول بالتّحريم دون سائر علماء الأمّة، موهمًا القارئ العادي أنّه لا يجوز “دينيًّا” التّعقيب على رأي محاوره. فآثر أن يعنون مقاله: بعد الجدل الذي أثارته إمكانيّة عرض فيلم “محمّد رسول الله” في تونس: حمدة سعيّد [المفتي الأسبق للدّيار التّونسيّة] يوضّح رأي الدّين من تجسيد الأنبياء والرّسل”.

فنقول بداية: مَن الذي أهّل هذا الرّجل للحديث باسم الدّين؟ فإذا ما سلّمنا أنّه يصادر عن رأي الجماعة المالكيّة، فلا يمكنه القول بأنّ تشخيص الأنبياء والصّحابة محرّم شرعًا، ذلك أنّ الأدلّة الشّرعيّة تعوزه.

ما افتراه هذا الرّجل هو، بلغة الفقهاء، من باب “التّشْديد على غير قياس”، فمن أين له “أنّ الدّين الاسلامي لا يسمح بتجسيد الرّسل والأنبياء بأيّ شكل من الأشكال”، وهذا حكم شرعيّ “سادس” من اختلاق مدّعي الفتيا، فممّا أقرّه جمهور الفقهاء أنّ الأحكام الشّرعيّة تقتصر على خمس لا سادس لها؟

أمّا العلّة في هذا الحكم الشّرعيّ السّادس، فإنّها الأخطر: “باعتبار أنّ الله رفع من شأنهم ووضعهم في مكانة مميّزة مقارنة ببقيّة البشر”، وقد نبّهنا -جلّ من قائل- بظاهر الآيات المحكمات من مثل هذا الصّنيع، درءًا لشبهة الشّرك: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ (سورة الكهف، الآية 110)، ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ (سورة إبراهيم، الآية 11)،  ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ﴾ (سورة آل عمران، الآية 144)، إلى غير ذلك من الآيات العاضدة لهذا المعنى؟

كما أنّ كتب السّيرة النّبويّة الشّريفة قد أوردت لنا صفات نبيّنا الأكرم على جهة التّفصيل. فلو كان هذا من باب الإتيان بما حرّم الله، فأنّى للإمام التّرمذيّ أن يأتي بمثله في كتاب “الشّمائل المحمّديّة”، حيث ذكر فيه أحاديث كثيرة في وصفه –عليه الصّلاة والسّلام-؟ أليس هذا ضرب من ضروب تجسيد نبيّنا –صلّى الله عليه وسلّم-؟

ألا يعلم هذا الفقيّه أنّه من أصول فقه المالكيّة أن لا اجتهاد مع النصّ، والآثار الدّالّة على الإباحة في الغرض أكثر من أن تحْصى؟! فليراجع بداية المجتهد ونهاية المقتصد لأبي الوليد بن رشد إن كان في ريبة من أمره؟

أمّا عن تعلّله بأصل الإجماع، فعلى فرض إمكان انعقاده في هذا الشّأن، فلا إجماع بين علماء المالكيّة، فضلاً عن علماء الأمّة، على تحريم تجْسيد الأنبياء والرّسل. كما أنّ المؤتمر الذي عقده السّلفيّون الوهّابيّون المُشار إليه في قول هذا الرّجل، لا حجّيّة شرعيّة له. فما من أصوليّ قد تحدّث عن حجّية مؤتمر يُعقد في مكان ما، يُقصى منه ثلاثة أرباع علماء المسلمين. أضف إلى ذلك أنّ الرّجل يتحدّث عن “شبه إجماع”: “رأي كلّ علماء الأمة تقريبًا”، فأغيثوني يا علماء الأمّة، أسمعتم أصوليّ أوْحد قد نزّل “شبه إجماع” علماء الأمّة منزلة الأصل الفقهيّ؟!

أمّا عن تحصّنه بأصل الرّأي، ففضلاً عن عدم توفّر شروط الاجتهاد في هذا الرّجل، لِمَا سبق من أدلّة على جهله بالقرآن والسنّة وأصول الفقه، فإنّ العمل بمبدإ “سدّ باب الذّرائع” يقود إلى الإباحة لا إلى التّحريم، ذلك أنّ شبهة الشّرك بالله (في صورة اعتبار الأنبياء والرّسل أسمى من المرتبة البشريّة) هي أوْكد هاهنا من ادّعاء التّنزيه (عن جسديّة سائر البشر).

أمّا عن قوله: “وفي رأيي الدّين الاسلامي فيه قضايا أعمق وأبلغ من هذه القضيّة”، فلمّا كان لا أصل فقهيّ لهذا القول عند المالكيّة، فنكتفي بالقول في ردّنا على هذا الرّجل: إنّ الفتوى في العبادات لا تكون، في المذهب المالكي، رهينة الخطورة من عدمها. ذلك أنّ الجماعة المالكيّة لا تنزّل الاستصحاب ولا الاستصلاح ولا الاستحسان منزلة أصول الفقه. فعلى أيّ مذهب أفتى هذا الرّجل؟!

أتحدّى هذا الرّجل أن يقف عند أئمّة المذهب المالكي على كلمة واحدة عاضدة لمثل هذا التّحريم. إنّما وردت المسألة في آثار متشدّدي الحنابلة أمثال ابن تيميّة وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة، لتتّخذ حكم التّحريم عند السّلفيّة الوهابيّة، إذا ما سلّمنا أنّ هذه الفرقة تتنزّل منزلة المذهب الفقهيّ.

والخليق بالملاحظة هو مدى استخفاف أمثال هذا الرّجل بخططهم الشّرعيّة. تحضرني الآن قولة لفقيه مالكيّ آخر (الإمام سحنون)، وشتّان بين الاثنين، حيث قال لابنته بعد أن أرغمه الأمير أبو العبّاس على تولّي قضاء أفريقيّة: “اليوم ذُبح أبوك بغير سكين”، إشارة منه إلى هوْل التّصدّى للقضاء والفتيا. فإن كان –عزّ من قائل- قد عاتب حبيبه المصطفى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ﴾ (سورة التّحريم، الآية 1)، فانظر – أيّها الرّجل- ما هو – تعالى- فاعل بك حين لا ينفع لا مال ولا جاه.

…………………………………………………………………………………………

* جامعيّ.

………………………………………………………………………………………

**  المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.