الرئيسية » إشكاليَّة التَّخطيط التَّربوي : مؤسَّسات مدرسيَّة أم مقابر جماعيَّة للأطفال؟

إشكاليَّة التَّخطيط التَّربوي : مؤسَّسات مدرسيَّة أم مقابر جماعيَّة للأطفال؟

مدرسة ابتدائية

بقلم لحسن أوزين *

ليس هناك متَّسع للاختيار عندما تقتل أحلام الإنسان في المهد ويحرم نهائيًّا من بناء مشروعه الوجوديّ في أن يكون ويصير، والخطير في الأمر أنّ عمليَّة الاغتيال تتمُّ في سياق كرنفال، متخم زورا بفرح الحياة، تسمح أقنعته الجذَّابة السَّاحرة، والمثيرة لهوامات خيالات لولبيَّة كاذبة بروعة الحياة والمستقبل، بتخفّي القاتل وبإلتباس أداة الجريمة.

فكلُّ المعطيات الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة في البلدان العربيَّة والتَّقارير الأجنبيَّة تظهر بالتَّحليل الملموس حجم الكارثة الإنسانيَّة الَّتي تعيشها مؤسَّساتنا المدرسيَّة على جميع المستويات في الفشل والتَّسرب والهدر والأميَّة…

وفي هذا السّياق يقول سمير الحجاوي” الحالة في الأردن ليست منعزلة، بل تشكّل جزء من سلسلة من الاحباطات التَّعليميَّة في العالم العربي كلّه، وإن كان يسجّل للأردن أنَّه يتحدَّث عن واقعة بجرأة وشفافيَّة وصراحة، فقد أظهر تقرير فلسطيني أعدَّه مركز إبداع المعلّم تدني التَّحصيل العلمي لدى الطَّلبة خاصَّة في المراحل الأساسيَّة وأن 40% من طلبة الصُّفوف الأولى الأساسيَّة في الضّفة الغربيَّة لا يجيدون القراءة والكتابة، وهي النّسبة ذاتها في السُّودان حيث أظهرت دراسة أنَّ 40% من طلاَّب المرحلة الأساسيَّة في العاصمة الخرطوم لا يجيدون الكتابة والقراءة. وفي مصر كشف المركز القومي للامتحانات والتَّقويم التَّربوي عن تراجع مستوى التَّلاميذ في مواد اللُّغة العربيَّة والرياضيات والعلوم، بنسبة كبيرة، وتراوحت نسبة الإخفاق فيها من %74 إلى 86% بين تلاميذ المرحلة الابتدائيَّة وأكّد أنّ %78 من طلاب المرحلة الابتدائيَّة لا يجيدون القراءة والكتابة حتَّى الصَّفّ السَّادس”.( الدَّوحة ع77س2014 )

والاحصاءات صادمة أيضا في باقي الدُّول العربيَّة كالمغرب والجزائر وتونس …

أن يتحدَّث مجتمع مَّا عن الأميَّة والجهل في الشَّارع، أي خارج أسوار المؤسَّسات التَّربويَّة المدرسيَّة بالنّسبة لأطفال حرموا من حقّ التَّمدرس، فذلك مشكل يمكن مناقشته، رغم تحايله الإيديولوجي، وهو يتلبس رداء المعطى الطَّبيعي المتنصّل من مبدأ التَّناقض المجتمعي الَّذي يكشف حقيقته كممارسة سياسيّة اجتماعيَّة تربويَّة تمارس التَّمييز والعزل والإقصاء وتحارب المساواة والعدالة في حقّ التَّمدرس والارتقاء الاجتماعي والثَّقافي، لكن أن تتحدَّث مجتمعات مَّا عن فعل تعليمي تعلمي ينتج في سيرورته التَّعليميَّة التَّعلميَّة الأميَّة والجهل والهدر،أي أن تتحدَّث عن أطفال لم يتمكّنوا من التَّعلمات الأساس من القراءة والكتابة والرّياضيات خلال مسارهم الدّراسي وكأنَّهم لم يستفيدوا من ولوج المدرسة والتَّمتع بحقّ التَّمدرس، فذلك يعني بصريح الوقائع الملموسة، كشفرة الحلاقة الدَّامية، أنّنا لسنا أمام مؤسَّسات مدرسيَّة بقدر ما نحن داخل مقابر جماعيَّة لجثث أطفال سلبت منهم أرواحهم/ أحلامهم وأرغموا دون وعي منهم على البقاء الاجتماعيّ التَّربوي لتزيين مشهد الاختلالات والتَّخبط والارتجال وانعدام الرُّؤية والتَّخطيط الاستراتيجيّ.

إلاَّ أنَّ ما لا يدركه الَّذي يستهينون بضرورة البعد الاستراتيجيّ للتَّخطيط في بناء ليس فقط مدرسة المستقبل، بل أيضا التَّحكُّم في صناعة مستقبل مصير المجتمعات سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وتربويًّا هو أنَّ تلك الجثث من الأطفال الملزمة بتزيين المشهد كثيرا ما تتحوّل إلى وقود للعنف أو إلى قنابل موقوتة تأتي على الأخضر واليابس.

فهل هذا الواقع البشع واللاَّإنساني ينبئ عن حضور قويّ وفاعل للتَّخطيط التَّربوي ضمن سياساتنا التَّربويَّة؟ وبناء على هذا الواقع المؤلم هل نستطيع الجزم برؤية وجود حقيقي لتخطيط استراتيجي؟ هذا ما سنحاول تناوله من خلال ما نعتبره الضَّرورات الأساس لرؤية التَّخطيط الاستراتيجي التَّربوي.

أوَّلا: التَّخطيط الاستراتيجي التَّربوي ضرورة سياسيَّة

في ظلّ الاختلالات الخطيرة الَّتي يعرفها ميدانيًّا واقع التَّربية والتَّكوين خاصَّة حين يمسّ الهدر الإنسان في مشروعه الشَّخصيّ والوجوديّ فإنَّه يصعب الحديث عن ثقافة التَّربية على القيم والمواطنة وحقوق الإنسان وبناء المجتمع الدّيمقراطي الحداثي. فالنَّتائج المرعبة الَّتي تنتجها المؤسَّسات المدرسيةّ في حقّ الطُّفولة القلب النَّابض للمجتمع والخزان لأحلام المستقبل الواعد بالتَّنمية السّياسيَّة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة الإنسانيَّة على كلّ المستويات، تبيّن بجلاء تلك النَّتائج حجم وعمق واتّساع خطورة سطوة الارتجال والعمل العشوائي الَّذي تمارسه العقليّة الأداتيَّة الإجرائيَّة في بعدها السُّلطوي التّراتبي الإداري كأقسام ومصالح إقليميَّة وجهويَّة ووزاريَّة تجهل وتبخس القيمة العلميَّة والعمليَّة لضرورة التَّخطيط الاستراتيجيّ الَّذي يطرح الأسئلة الكبرى لاستشراف المستقبل، من خلال رؤية شموليَّة متعدّدة الأبعاد والوجوه والَّتي تمارس تنوّع وتركيب زوايا المنظورات. هذه الرُّؤية الَّتي تنطلق من الواقع الملموس وتخضع له في منهجياتها ومختلف أشكال مقارباتها لا أن تقوم بلي عنق الواقع لينسجم وقوالبها المنطقيَّة النَّظريَّة الَّتي تكون في الغالب مستوردة بإكراه وفق مصالح المؤسَّسات الماليَّة والنَّقديَّة الأجنبيَّة وغريبة عن الواقع الحيّ المعاش. إنَّها الرُّؤية الَّتي تنطلق من ملفَّات بحوث ميدانيَّة تمتلكها معرفيًّا وعلميًّا بالبحث والدّراسة والتَّحليل النَّقدي لمواطن قوَّتها وضعفها وللفرص الَّتي تحتضنها وللمخاطر الَّتي تطرحها كتهديد وتحدّيات. وهي جهود يمكن أن تنجزها معاهد ومراكز البحث العلمي الجامعي، الَّتي تهميشها ونفيها داخل أوطانها في غربة مضاعفة، باستبعادها كقوَّة إنتاج معرفيَّة وعلميَّة وكمؤطّرة اجتماعيَّة ثقافيَّة للتَّوجهات المستقبليَّة، وفي إعادة الاعتبار لها والاعتراف والمشاركة، تكمن الخطوة الأساس لإعطاء قيمة للكفاءات الوطنيَّة في التَّفكير والفعل والبناء والمسؤوليَّة.

إنطلاقا من هذا الوعي العلمي بأهميَّة التَّخطيط الاستراتيجي المنفتح على الآفاق الرَّحبة للمستقبل يمكن أن يلعب التَّخطيط التَّربوي دورا محوريًّا ومتميّزا على مستوى التَّنمية السّياسيَّة، سواء على مستوى الإسهام الفعال في انتشار ثقافة المواطنة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان، خاصَّة ونحن نعلم التَّرابط الجدلي بين هذه القيم السّياسيَّة والحقّ في التَّربية والتَّعليم، كما ينصُّ على ذلك صراحة الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان في المادَّة 26. لأنَّ وحده التَّخطيط الاستشرافي كما حدَّدنا معالمه سابقا هو ما يمكن أن يجنبنا قتل الأحلام وهدر الإنسان. فبناء الإنسان تعليميًّا وتربويًّا بتحريره من مخاطر الأميَّة والتَّسرُّب والانقطاع والهدر وتثبيت وتعزيز أحلامه في بناء مشروعه الوجودي ونماء شخصيته بصورة كاملة هو ما يمكن أن يضمن احترام كرامته وقيمته الإنسانيَّة وحرّياته الأساسيَّة وامتلاكه الوعي والمعرفة والوسائل والأدوات الَّتي تمكّنه بشكل ذاتي من تفعيل وممارسة وحماية هذه القيم الكونيَّة والمبادئ الإنسانيَّة. وبذلك يصير بمحض إرادته فاعلا سياسيًّا يسهم ويشارك بفعاليّة في بناء وتنمية وتطوير القيم السّياسيَّة كقيم ثقافيَّة اجتماعيَّة نابعة من صلب الفعل المجتمعي كضرورة سياسيَّة يعيها الجميع ويقتنع بأهمّيتها كأساس لأيّ تحوّل مجتمعي يريد تحقيق النَّهضة والتَّقدّم والرّيادة في التّنمية الإنسانيَّة الشَّامل أداة وغاية.

لعلَّنا بهذه الإشارات السَّريعة حول أهميَّة ودور التَّخطيط ندرك بأنَّ غيابه الحقيقيّ هو الَّذي يفسّر الفشل الذَّريع للكثير من مشاريع الإصلاح التَّعليميّ التَّربويّ والَّذي يطال أيضا مفاصل أخرى كاللاَّمركزيَّة واللاَّتمرك والحكامة…إلى جانب تحوّل المؤسَّسات المدرسيَّة إلى مقابر جماعيَّة للأطفال تقذف بالجثث سنة بعدا أخرى، وهي قابلة لكلّ الانحرافات ولكافَّة أشكال الاستغلال المدمّر لمستقبل البلاد العربيَّة خاصَّة في تحوّلاتها السّياسيَّة الطَّموحة إلى التَّحوُّل والتَّغيير.

ثانيا: التَّخطيط الاستراتيجي التَّربوي ضرورة اقتصاديَّة

نحن نعرف اليوم بأنَّ العالم الجديد الَّذي نعيش فيه لا يكفّ عن التَّحوُّل والتَّغيُّر بسرعة فائقة في كافَّة المجالات المعرفيَّة والعلميَّة والتكنولوجيَّة والاتّصاليَّة والمعلوماتيَّة، وفي العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة وفي مختلف أشكال الاقتصاد. وهو عالم جديد بمعنى الكلمة، كلّ ساعة أو كلّ لحظة، حيث تشكّل الموارد البشريَّة المؤهّلة معرفيًّا وعلميًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا الأساس الماديّ والثَّقافي لدينامياته الحيويَّة والجدليَّة. فالمجتمعات الَّتي تفتقر للرَّأسمال البشري المكوّن والمؤهّل ستكون معرضة أكثر من أي وقت مضى للخراب أو التَّآكل الذَّاتي، من خلال التهام نفسها بالتَّخلُّف، وبالعنف والعنف المضادّ.

فالنَّتائج الكارثيَّة الَّتي تعرفها منظومة التَّربية والتَّكوين تنعكس سلبا على اقتصاد البلاد العربيَّة وتشكّل هدرا لمواردها البشريَّة والماليّة والماديَّة وهي تكرّس بالتَّالي تخلّفها في تحقيق تنمية إقتصاديَّة إنسانيَّة معقولة تضمن تحوّلها النَّوعي إستجابة للمتطلّبات الموضوعيَّة الَّتي تفرضها الألفيّة الجديدة على كلّ الأمم الرَّاغبة في الاندماج والبقاء، وفي التَّطوُّر والنَّماء والتَّقدُّم والرّيادة.

فمن الذي يمكن أن يرى الفرص والمخاطر التي تحملها في طياتها الألفية الجديدة؟ ومن الذي يمكن أن يدرك الإيحاءات الصريحة والقوية لقولنا بأننا بتلك النتائج الرهيبة أمام مقابر جماعية للأطفال، وأننا لا نبالغ في التسمية والتوصيف؟

إنَّ العقل والفكر التَّخطيطي الاستراتيجي هو المؤهّل لرؤية كل ذلك، وهو الَّذي بإمكانه أخذ الفرص والمخاطر والمستجدَّات، والقضايا بكامل الجديَّة والمسؤوليَّة في التَّفكير العلمي العقلاني، والتَّقدير الموضوعي للواقع الرَّاهن والمستقبلي. لأنَّ هذا العقل التَّخطيطي يدرك ويعرف حقّ المعرفة ان الرُّؤية السُّلطويَّة الإداريَّة الإجرائيَّة الضَّيّقة كارثيَّة في نتائجها على كافَّة المستويات، ومدمّرة بشكل خطير لاقتصاد البلد، وبالتَّالي تكرّس انحسار الأفاق المستقبليَّة وتؤبّد الهدر الوجوديّ للإنسان.

إنَّ الأمم المتقدّمة ما كان لها لتخطو إلى الأمام لولا التَّخطيط الاستراتيجيّ التَّربوي كأساس ورافعة للنُّهوض والتَّقدُّم والتَّنمية على كافَّة الأصعدة، بما في ذلك الازدهار الاقتصادي. لعلَّنا نعرف جميعا شعارات التَّخطيط الاستراتيجي الَّتي كانت ولا تزال ترفعها البلدان المتقدّمة للنُّهوض بمشاريع التَّطوير للنّظام التَّعليمي والتَّربوي كلَّما أحسَّت بضعف ووهن الفاعلية الاقتصاديَّة وطنيًّا وإقليميَّا وعالميًّا. وما كان لها أن تنجح في ذلك لولا وعيها بأهميَّة ومحوريَّة التَّخطيط كقاعدة لكلّ الخطوات البنائيَّة الأخرى. من هذا الفهم وهذا الوعي يتأسَّس التَّخطيط التَّربوي في شموليَّة رؤيته كأرضيَّة وقاعدة أساس للنُّهوض الاقتصادي. ومن ثمَّة تحسب له الدُّول الرَّاغبة في التَّقدُّم ألف حساب، كما يقول التَّعبير المكرّس والمتداول في العربيّة، احتراما لحرمة وحصانة وقيمة الإنسان، الشَّيء الَّذي يتطلَّب التَّفكير التَّخطيطي الاستراتيجي في احترام وتقدير وحماية أطفال اليوم كنوع اجتماعي يمثّل إنسان المستقبل رجالا ونساء، وهي ثروة لا تقدَّر بثمن. فمن بوصلة التَّخطيط الاستراتيجي التَّربوي يتمّ بناء اقتصاد مستقبل البلد، وفي غياب تلك البوصلة ينهار الاقتصاد ويهدر المواطن ويتآكل الوطن.

ثالثا: التَّخطيط الاستراتيجي التَّربوي ضرورة اجتماعيَّة

إزاء الأعداد الهائلة من التَّلاميذ المنقطعين عن الدّراسة والمتسرّبين، وفق إيقاع يتجاوز المئات والآلاف ليصل إلى الملايين، لم يعد ممكنا قراءة هذه المعطيات بعيون باردة محايدة، بل يشعر الإنسان بعيونه تقتلع من الدَّاخل لأنَّه يدرك أنَّ الوطن العربي في مفهومه الأساسي ككيان كلّي مهدّد بالانهيار في حرمته وحصانته السّياديَّة، وفي قيمه الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة وفي انتمائه الحضاري وفي مؤسَّساته السّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة. من هنا يتَّضح أنَّ المستوى البنيوي التَّربوي يمثّل الأرضيَّة الصُّلبة والمتينة لحماية الوطن من مرض الكيان الكلّي خاصَّة عندما تنهار أسسه الاجتماعيَّة، كما يمثّل القاعدة الأساس للإقلاع الحضاري وللنُّمو والتَّنمية المستدامة على كافَّة الأصعدة. إنَّ تلك الأعداد الهائلة من التَّلاميذ المحبطين واليائسين المتخلَّى عنهم يضمرون في أنفسهم عصاب الفشل الَّذي تشربوه في سيرورتهم التَّعليميَّة التّعلميَّة ممَّا يجعلهم يكرّسون كفايات الفشل في حياتهم المجتمعيَّة بنوع من ذكاء تدبير الحال في الأعمال الممنوعة وغير المشروعة، وفي وضعيات مجتمعيَّة تبخس ولا تعير أيَّ اهتمام للقيم الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة. هكذا يصير هؤلاء عبئا على المجتمع وعقبة في وجه تطوّره وتقدُّمه، كما يحمل هؤلاء في أعماق دواخلهم قلق الهجر والانفصال السَّيكولوجي والاجتماعي الَّذي استبطنوه خلال مسارهم الدّراسي المتميّز بعشرات الوصمات السَيِّئة التَّقويميَّة التَّربويَّة والاجتماعيَّة: الكسول، الفاشل، المشاغب، القبيح غير الصَّالح، المسخوط…) إلى جانب العنف الماديّ والرَّمزي الَّذي مورس في حقّ طفولتهم البريئة. هل نفهم الآن جذور سرّ كلّ الأمراض والكوارث الاجتماعية) من العنف والانحراف والدَّعارة واللُّصوصيَّة والمناطقيَّة والعصبيَّة والقبليَّة…) الَّتي تعتمل بشكل مقنع وصريح في واقع مجتمعاتنا؟

ألا نصل الآن إلى قناعة واضحة وشفَّافة بأنَّ الرُّؤية الاستراتيجيَّة للتَّخطيط التَّربوي هي وصحبة دعامات محوريَّة أخرى: سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة، القادرة على رؤية التَّآكل المجتمعي والانهيار الاجتماعي لمفهوم وحقيقة المواطن والوطن؟

إنَّ التَّخطيط الاستراتيجي التَّربوي هو الَّذي بإمكانه تعظيم الفرص الَّتي تتيحها اللَّحظة الحضاريَّة والمرحلة التَّاريخيَّة، كما بإمكانه الأخذ بمفهوم التنمية الإنسانيَّة الَّتي تعطي الإنسان كلّ ما يستحقه من التَّقدير والاعتبار في الخطط والبرامج والوسائل والأهداف والغايات، وفي الظُّروف والشُّروط والممارسات. والتَّخطيط الاستراتيجي بهذه الخلفيّة المعرفيَّة والعلميَّة والسّياسيَّة الاجتماعيَّة لا يمكن أن يقبل بتلك الأعداد الهائلة من الأطفال غير المرغوب فيهم، كما لا يمكن أن يبقى مكتوف الأيدي أمام الوضعيات الصَّعبة الَّتي قد تفاجئه في الممارسة التَّعليميَّة التَّربويَّة الاجتماعيَّة، لأنَّه بذلك الحسّ التَّخطيطي يتوقَّع العقبات والتَّعثرات والصُّعوبات الَّتي تعيق وتعرقل تحقيق الكفايات والأهداف والغايات الاستشرافيّة الَّتي تتجاوز مفهوم التَّعليم التَّعلّم في سيرورة المناخ التَّربوي للمؤسَّسة المدرسيَّة لتصل إلى صناعة المصير والمستقبل الواعد بالتَّنمية الاجتماعيَّة الإنسانيَّة الشَّاملة، وبالتَّقدّم العلميّ التكنولوجيّ والازدهار الاقتصادي وبالتَّحوُّل السّياسي الديمقراطيّ الحداثيّ.

إلاَّ أنَّ ما يمكن أن يجعل هذا التَّصوّر والطموح واقعيا هو إرادة سياسيَّة حقيقيَّة تريد التَّحوّل والنُّهوض وعيا بمصالحها ومصالح شعوبها، وهي تترفَّع عن الحساسيات السّياسيَّة الحزبيَّة الضيّقة في صورتها المؤقَّتة والاستعجاليَّة الَّتي لم ترق إلى الوعي الاجتماعي للمواطن في دفاعه المستميت عن حقّ التَّمدرس والتَّعلم في مدرسة عموميَّة تحتضن أحلام المجتمع والأطفال، وتضيف دما نقيًّا جديدا ومتجدّدا لأرواحهم عوض أن تسلبهم حقَّهم في الحياة لبناء مشروعهم الوجودي.

رابعا : التَّخطيط الاستراتيجي التَّربوي ضرورة تربويَّة

إنَّ الضَّرورة التَّربويَّة في التَّخطيط الاستراتيجيّ لا تحضر بصفتها مرحلة متأخّرة، بل أنّ هذا التَّقسيم التَّنظيمي التَّرتيبي الَّذي قمنا به لا يحمل أيَّة قيمة تمييزيَّة تفاضليَّة. فالأسباب المنهجيَّة هي الَّتي تحكَّمت في هذا الشَّكل من التَّناول والتَّحليل. لأنَّنا نعتبر المحاور الأربعة مترابطة ومتمفصلة بصورة ديناميّة جدليَّة تفاعليَّة متبادلة التَّأثير والتَّأثر والتَّحديد والتَّحدُّد.

لهذا نرى أنَّ التَّخطيط الاستراتيجي في رؤيته الشَّاملة هو القادر على رسم معالم المستقبل وإعداد وتهيئ مجتمعاتنا لخوض معارك التَّطوير والتَّقدُّم والتَّنمية على كافّة الأصعدة والمستويات في عالم يتطلّب الكثير من الاقتدار المعرفيّ والعلميّ والتَّربويّ والصّحة والمناعة النَّفسيَّة والفكريَّة والثَّقافيَّة والحضاريَّة. إنَّنا بهذا الوعي بأهميّة التَّخطيط خاصَّة منه التَّخطيط الاستراتيجيّ التَّربوي كأساس ورافعة لكلّ تحوّل وتطوّر نوعي تطمح إليه مجتمعاتنا نكون قد هيأنا النّجاح لقيم العلم والتَّعلُّم والقراءة والبحث العلمي ولظروف وشروط الفكر والثَّقافة كقيم مجتمعيَّة في المواقف والسُّلوك والتَّصرفات والمعايير الاجتماعيّة وفي نمط التَّفكير والرُّؤية للذَّات والآخرين والعالم. إنَّنا بهذا الفهم للأبعاد المستقبليَّة للتَّخطيط في أدواره ودلالاته ووظائفه وغاياته ومراميه نتجاوز الكثير من المعضلات التَّربويَّة والتَّعليميَّة والتَّعلميَّة الَّتي ينتجها العمل الإداريّ الإجرائي وفق ما يسمّيه إكراهات الخريطة المدرسيَّة وتدبير أزمات الموارد البشريَّة. هذه الإجراءات الضَّيقة المعزولة عن ضرورات التَّفكير في التَّخطيط الاستراتيجي بصورته الشَّاملة كما أشرنا إلى ذلك سابقا هي الَّتي تسمح بتكريس قيم ثقافة المحسوبيَّة والزبونيّة والغشّ والرَّشوة والتَّسرُّب والانقطاع والهدر …كما أنَّ هذه العقليَّة اللاَّعقلانيَّة في تدبير منظومة التَّربية والتَّكوين تسميت في ترسيخ أفكار وقناعات واعتقادات خاطئة ومسمومة داخل الجسم التَّعليمي التَّعلمي ووسط القيم الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة السَّائدة في المجتمع حول صعوبة واستحالة إصلاح التَّعليم. وهي لا تكفّ عن افتعال الكثير من العقبات في سيرورات المناخ التَّربوي للمؤسَّسات المدرسيَّة باستنبات ظواهر مرضيَّة مثل الاكتظاظ وضمّ الأقسام للتَّفييض، أو فرض الخصاص، وكلّ هذا لغرض في نفس يعقوب. ومثل هذه الظَّواهر تؤثّر بشكل سلبي على سيرورة المناخ التَّربوي العام للمؤسَّسة وبالتَّالي على سيرورة الفعل التَّعليمي التَّعلمي. وفي وضع إجرائي كهذا يؤسّس ممارساته على البعد الإداري السُّلطوي يستحيل الحديث عن لغة الكفايات الَّتي هي في أبسط تعريفاتها سيرورة شاملة لبناء العلم والمعرفة والفكر والمواقف والاتّجاهات وهي – الكفايات- تتناقض مع الانحسار الوجوديّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ والتَّربوي للمتعلّم والمعلّم، ولكلّ المكوّنات الأخرى الَّتي تشكّل ما يسمَّى بالمناخ التَّربوي العام للمؤسَّسة الَّذي لا يعرف قيمته وضرورته غير العقليَّة التَّخطيطيَّة الاستراتيجيَّة الَّتي يمكنها الحسم مع تلك الظَّواهر المرضيَّة الَّتي تنتجها العقليَّة الأداتيّة الإجرائيَّة الَّتي ترتكب جرما إنسانيًّا خطيرا في حقّ الأطفال الَّذين تحوّلهم إلى مجرّد جثث في مقابر جماعيَّة، والمدرسين الَّذين تبخس قيمتهم وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه حين تستهدف النَّيل من مجهودهم ومردوديتهم، وهي تأسرهم داخل تلك الظَّواهر المرضيَّة، وما أكثرها، فتجزّ بهم في نفق ما تسمّيه التعثُّرات والصُّعوبات وأشكال الدَّعم الكاذبة للتَّغطية على الواقع المؤلم… وهي قضايا ومعضلات تربويَّة تأتي في غير محلّها.

نحن نعتقد أنَّ الكثير من المشاكل التَّعليميَّة والتَّربويَّة، خاصَّة على مستوى مقاربات التَّعلّم مفتعلة وغير حقيقيَّة، فرغم أنَّها – المشاكل – تبدو قديمة ومتجذّرة في جسم منظومة التَّربية والتَّكوين فهي هشَّة ويمكن الحسم معها كلما كانت هناك إرادة سياسيَّة مستقبليَّة حقيقيَّة تطرح بمسؤوليَّة الضَّرورات الأربعة للتَّخطيط الاستراتيجيّ التَّربوي.

………………………………………………………………………….

*نشر المقال بموقع الأوان الفكري بتاريخ 29 أوت 2016

** المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.