الرئيسية » الجوانب الخفيّة لعلاقة تونس بصندوق النقد الدولي

الجوانب الخفيّة لعلاقة تونس بصندوق النقد الدولي

صندوق النقد الدولي، ص ن دبقلم أحمد بن مصطفى*

منذ الإعلان بتاريخ 13 ماي 2016 عن موافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على برنامج جديد للدعم المالي المشروط لتونس بقيمة 2،8 مليار دولار ـ يقع صرفه على أقساط على مدى أربع سنوات بداية من العام الجاري –  تسارعت وتيرة الخطوات الحكوميّة الهادفة لتمرير القوانين والتشريعات المجسدة لما تم الاتفاق عليه مع الصندوق من «اصلاحات هيكلية موجعة» مكمّلة للخطوات المنجزة بموجب الاتفاق السابق المبرم سنة 2013 مع الصندوق وهو بقيمة 1،7 مليار دولار.

وهكذا بلغ مجمل القروض المشروطة الممنوحة لتونس من صندوق النقد الدولي خلال السنوات الثلاث الماضية 4،6 مليار دولار مما جعله من أهم الممولين لتونس إلى جانب البنك العالمي الذي وافق أيضا على منح تونس  قروض إضافية بقيمة 5 مليار دولار بعنوان السنوات الخمس القادمة.

هذا إلى جانب القروض الجديدة المعلن عن منحها لتونس مطلع العام الجاري من قبل  الاتحاد الأوروبي وفرنسا  في اعقاب موجة التحركات الاحتجاجية النابعة من الجهات ألداخلية، لكن الملاحظ ان هذه  الدفعة جديدة من القروض  الضخمة تخضع لنفس المقاييس و الشروط المجحفة  المفروضة من صندوق النقد الدولي و البنك العالمي و منها خاصة ضرورة  إعطاء الأولوية المطلقة لسداد الاقساط المستحقة  للقروض القديمة بنسبة تصل منذ 2011 الى حوالي  80% من القروض الجديدة وهو ما تسبب في مضاعفة كتلة الديون التونسية منذ الثورة من 25 الى اكثر من 50 مليار دينار مما ادى الى انهيار خطير و غير مسبوق للتوازنات المالية الكبرى لتونس في حين يدعي الصندوق انه يسعى الى مساعدتها  على استرداد استقرارها المالي و عافيتها الاقتصادية.

انحراف خطير بالوظائف الاصلية لصندوق النقد الدولي و البنك العالمي

يجدر التذكير بان البنك العالمي و صندوق النقد الدولي استحدثا سنة 1944 اثناء اول ندوة  مالية دولية عقدت في  بريتن وودس ثم الحقا بالأجهزة و المؤسسات المختصة التابعة للأمم المتحدة و الخاضعة رسميا للمجلس الاقتصادي و ألاجتماعي و تتمثل  الوظيفة الاساسية الموكولة لصندوق النقد الدولي لدى تأسيسه  الحفاظ على استقرار المنظومة المالية الدولية من خلال تنظيم حركة رؤوس الاموال و قد انضمت تونس اليه بشكل مبكر منذ  1958 . أما البنك العالمي، فإنه بعث رسميا لمقاومة الفقر و مساعدة البلدان حديثة الاستقلال على اعداد و انجاز مخططاتها التنموية بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي الذي منح تونس اول قرض سنة 1964 و كان بقيمة 13 مليون دولا.

كما حرصت تونس على الحصول على تزكية البنك العالمي لإستراتيجيتها التنموية الأولى لمرحلة الستينات وهي الافاق العشرية للتنمية التي تم تمويل مخططاتها التنموية جزئيا عبر قروض من الدول الغربية و المؤسسات المالية الدولية الخاضعة لها.لكن الدول الغربية سرعان ما عمدت الى فك الارتباط بين الصندوق و البنك و الامم المتحدة و تم اعفاء هاتين المؤسستين من الزامية الخضوع لإشراف المجلس الاقتصادي و الاجتماعي ، و اصبحتا تحت الهيمنة المباشرة لدول مجموعة السبع ذات الاغلبية بمجلس الادارة الذي تحول شيئا فشيئا الى اداة لفرض سياسة الانفتاح الاقتصادي وتعميم منظومة اقتصاد السوق على الصعيد الدولي بما يخدم مصالح و نفود هذه الدول .

و قد تم استغلال الازمات الاقتصادية التي تمر بها الدول و من بينها تونس  لتكريس هذه السياسة و ذلك بحجة  مساعدة هذه البلدان على إنجاز الاصلاحات الكفيلة بإعادة دفع الدورة الاقتصادية و تجاوز الصعوبات، غير ان تدخلات الصندوق و البنك عادة ما تزيد في تعميق الازمة  التي تدعي حلها كما كان الشأن بالنسبة لتونس سنة 1986 و ايضا بعد الثورة و ذلك رغم اللجوء المبكّر من قبل الحكومات المتعاقبة إلى صندوق النقد الدولي وإلتزامها بتنفيذ شروطه ومنها إعادة رسملة البنوك العمومية تمهيدا لخوصصتها ومراجعة قانون الاستثمار باتجاه الرفع الكلّي للقيود أمام رؤوس الأموال الأجنبية للنشاط والتملّك في كافة المجالات الاقتصادية وغيرها من الخطوات المنجرّة باتجاه توسيع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي  من خلال  اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق الجاري التفاوض حوله..

الحصيلة السلبية لبرنامج التعاون مع صندوق النقد الدولي لسنة 2013

الملاحظ أنه لدى إبرام إتفاق 2013 المصنّف ضمن فئة القروض قصيرة الأمد (stand-by) كانت تقارير صندوق النقد الدولي تتوقع أن يستعيد الاقتصاد التونسي تدريجيا عافيته وتوازناته المالية المختلة وأن ترتفع نسبة النمو لتصل الى 5٪ سنة 2015، بفعل توقع عودة الحركيّة الاقتصادية والاستثمارات الداخلية والخارجية إلى الانتعاشة مجددا، لكن الوقائع والأرقام كذّبت هذه التوقعات بل أن المؤشرات الاقتصادية التونسية شهدت انحدارا كبيرا على كافة المستويات.

كما ارتفعت نسبة التداين الخارجي إلى مستويات قياسية خطيرة بسبب تجاوز تونس لطاقاتها القصوى على الاقتراض على نحو جعلها دولة مصدرة للأموال لفائدة الأطراف المقرضة بحكم تخصيصها لجانب هام من الأموال المقترضة لتسديد القروض القديمة المستحقة أصلا وفائدة.

هذا ومن التبعات الخطيرة غير المعلنة لخضوع تونس إلى وصفات المؤسسات المالية الدولية و الاتحاد الاوروبي ، تفاقم العجز التجاري وتدهور ميزان المدفوعات إلى مستويات قياسية بالتوازي مع تهاوي قيمة العملة الوطنية بصفة متواصلة لأسباب متعددة وخاصة منها تخلّي البنك المركزي عن دوره التعديلي في الحفاظ على قيمة الدينار الذي فقد حوالي 50٪ من قيمته إزاء العملة الأوروبية، وكذلك الشأن قياسا مع الدولار الأمريكي وإن كان بنسبة أقل مما أدّى عمليا إلى ارتفاع جنوني في نسب التضخم للمواد الأساسية التي تناهز حوالي 300٪ منذ 2011. كما أدّى هذا الانهيار في قيمة الدينار إلى ارتفاع مواز في نسبة التداين الخارجي وتضخم كلفة الاقتراض الخارجي بحكم أن تسديد الأقساط المستحقة يتم بالعملة الصعبة.

واللافت للإنتباه أن التدحرج المستمر منذ إندلاع الثورة للعملة الوطنية ظل في حكم الأمر الواقع غير المعلن رغم تبعاته الكارثية ويبدو أن ذلك يعزى إلى إلتزام الحكومات المتعاقبة إزاء الأطراف الدولية المقرضة بعدم التدخل لإيقاف هذا النزيف.

ورغم هذه التبعات الكارثيّة لخضوع تونس لإملاءات صندوق النقد الدولي فإنها بصدد التوقيع على الاتفاق الجديد المشار إليه وهو بقيمة 2،8 مليار دولار ومرتبط بحزمة من الشروط الأكثر إحجافا قياسا بالاتفاقيات السابقة مع الصندوق باعتبار أن هذا القرض مصنّف ضمن ما يسمّى بالآلية الموسعة للإقراض (Mécanisme élargie de crédit).

مضمون برنامج التعاون الجديد مع صندوق النقد الدولي

الجدير بالذكر أن هذا الصنف من القروض مخصص للدول التي تواجه تدهور خطير في ميزان المدفوعات جراء عقبات هيكليّة تؤدي إلى تباطئ أو تعطّل نسق النمو إلى جانب هشاشة مزمنة للتوازنات المالية الكبرى. ولتصويب هذه الإخلالات يرتبط هذا البرنامج بحزمة أوسع من الإصلاحات الهيكلية طويلة الأمد تشمل التقليص في نفقات التصرّف وتوجيه إعتمادات الميزانية لإنعاش الاستثمارات والنهوض بالتشغيل وذلك على حساب النفقات ذات الصبغة الاجتماعية.

لكن الشروط المفروضة المرافقة لمثل هذه البرامج، عادة ما تكون ذات مفعول عكسي حيث أنها تؤدي غالبا إلى تفاقم العجز المالي والتجاري وتقلّص الموارد الذاتية ومزيد انهيار العملة وارتفاع نسبة التضخم وإرتفاع المديونية…. كما حصل كلما لجأت تونس إلى صندوق النقد الدولي منذ مطلع الاستقلال وخاصة أثناء الأزمة الاقتصادية الحادة لمنتصف الثمانينات وكذلك بعد الثورة.

وتجدر الإشارة إلى تصريحات وزير المالية سليم شاكر المتزامنة مع الإعلان عن الاتفاق الجديد المزمع إمضاؤه مع صندوق النقد الدولي ومفادها أن تونس خطت خطوات كبيرة بإتجاه الاستجابة للتعهدات المتفق عليها مذكرا في هذا الصدد بقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإعادة هيكلة القطاع البنكي، والقانون الأساسي حول استقلالية البنك المركزي المثير للجدل، ومشروع المجلة الجديدة لتشجيع الاستثمار وغيرها من الإجراءات متوسطة وطويلة الأمد التي تم تفصيلها في رسالة النوايا الموجهة من وزير المالية ومحافظ البنك المركزي الشادلي العياري بتاريخ 2 ماي 2016 إلى صندوق النقد الدولي مرفوقة بوثيقة تفصيلية في صيغة مذكرة تفاهم عن السياسات الاقتصادية والمالية المزمع تطبيقها خلال السنوات الخمس المقبلة.

ولابد من الإشارة إلى خطورة رسالة النوايا هذه وما ورد فيها ومرفقاتها من تعهدات بإدخال تغييرات جوهرية على بنية الاقتصاد التونسي باتجاه إنهاء أي دور اقتصادي للدولة وللقطاع العام من خلال خوصصة المنشآت والمؤسسات العمومية، وتقليص حجم الإدارة وتخفيض مرتبات موظفي الدولة، وكذلك جرايات التقاعد وإلغاء الدعم ومراجعة أنظمة الضمان الاجتماعي… وكل ذلك بحجة التخفيض من عجز الموازنة العامة للدولة بنسبة 50٪.

كما تتضمّن الوثيقة تعهدات بمزيد الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية وتمكينها من حوافز جبائية ومالية وديوانية إضافية وذلك عبر استكمال مراجعة القوانين باتجاه التحرير الكلي لكافة الأنشطة والقطاعات الاقتصادية أمام رؤوس الأموال الأجنبية.

والملاحظ ان رسالة مماثلة وجهت إلى الاتحاد الأوروبي بما يشير إلى عزيمة السلطات الحاكمة لاستكمال المفاوضات حول منطقة التبادل الحر الشامل والمعمّق التي تنسجم كليا من حيث أهدافها مع خطة الطريق» المشار إليها المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي.

آفاق العلاقات بين تونس وصندوق النقد الدولي

لابد من التذكير أن هذه الحصيلة القائمة لعلاقات تونس بصندوق النقد الدولي والبنك العالمي هي نتيجة حتميّة للتوجهات والخيارات الاقتصادية الإنفتاحية التي فرضت على تونس في أعقاب الأزمة الاقتصادية وأزمة المديونية لمنتصف الثمانينات التي أدت إلى خضوع تونس لأول مرّة سنة 1986 إلى ما يسمّى ببرنامج الإصلاحات الهيكليّة لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي.

ودون الخوض في تفاصيل هذا البرنامج، فإنه يلتقي من حيث مضامينه وأهدافه المعلنة و الخفية ـ وهي التقليص من العجز وإستعادة التوازنات المالية الكبرى ومعالجة المديونية وإنعاش الدورة الاقتصادية المعطلة ومقاومة البطالة… مع اتفاق 2013 الموقع بعد الثورة والاتفاق الحالي المزمع توقيعه الذي يهدف في حقيقة الأمر إلى مزيد تكريس إنخراط تونس في منظومة اقتصاد السوق والعولمة الاقتصادية التي تم إقرارها وترسيخها كخيارات إستراتيجيّة من قبل النظام السابق من خلال الإنخراط في منظمة التجارة العالمية سنة 1994 ثم منطقة التبادل الحر للسلع الصناعية سنة 1995 مع الإتحاد الأوروبي التي مهدت لإتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق الجاري التفاوض بشأنه حاليا.

وقد حرص الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع بعد الثورة إلى التحرك بسرعة لضمان استمرارية هذه السياسات وذلك من خلال الوعود والحوافز المقدمة إلى تونس وبلدان «الربيع العربي» خلال قمة دوفيل لمجموعة السبع المنعقدة في ماي 2011 بمنحها برنامج ضخم للتمويلات بشروط ميسرة وتمكينها من إسترداد أموالها المنهوبة. لكنه تم التنكّر لهذه الوعود رغم التزام تونس بنفس الخيارات الاقتصادية للنظام السابق واستمرارها في تسديد الديون القذرة المتخلّدة بذمته مما ساهم في إنهيار الوضع الاقتصادي والمالي لتونس واستفحال أزمة المديونية الخارجية إلى مستويات خطيرة أدت إلى خضوعها مجددا منذ    2013 إلى البرامج والقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك العالمي.

وبالتالي فإن الخروج من هذه الحلقة المفرغة من التبعيّة للخارج وإرتهان سيادة القرار الوطني إلى المؤسسات المالية الدولية الخاضعة للهيمنة الغربية، يقتضي مراجعة جذرية للسياسة الاقتصادية والخيارات الدبلوماسية ذات الصلة بمنظومة اقتصاد السوق خاصة منها الأطر والاتفاقيات المنظمة لعلاقات تونس مع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى.

ويجدر التذكير بالإعلان الصادر مؤخرا عن وزارة الخارجية التونسية بخصوص إقرار آلية جديدة للتعاون بين تونس ومجموعة السبع تعني بتوفير دعم استثنائي إلى تونس يتجاوز الأطر التقليدية للتعاون، وذلك بهدف تأمين المساعدات الكفيلة بجعل تونس قادرة علي رفع التحديات الاقتصادية والمالية الصعبة التي تواجهها.

ولعله من المفيد أن تسعى تونس إلى توسيع دائرة اهتمامات هذه الآلية الجديدة باتجاه تحويلها إلى هيكل قار للتشاور السياسي  والعمل المشترك الهادف إلى وضع أطر استراتيجية جديدة للتعاون القائمة على مراعاة خصوصية الأوضاع الاقتصادية لتونس والسعي الجدّي لمساعدتها على الخروج من أزمتها المالية والاقتصادية والتخلص من مديونيتها الخانقة وإستعادة حرّية تحديد خياراتها وأولوياتها التنموية، باعتبارها من الشروط الضرورية لإرساء شراكة حقيقية وشاملة بين تونس وشركائها الاستراتيجيين الرئيسيين ترتكز على إرساء فضاء متوسطي مشترك للسلم والأمن والاستقرار والتنمية المتبادلة.

……………………………………………………………………………………

*سفير سابق ناشط في المجتمع المدني

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.