الرئيسية » 28 – الإسلام كنظام محبّةٍ عالمي

28 – الإسلام كنظام محبّةٍ عالمي

رمضانيات

يوميات رمضانية

يكتبها فرحات عثمان

 

بيّنا في يومية سابقة أن القرار التونسي تحت سيطرة أصحابه إذا عرفوا امتهان سياسة فهيمة. وهذا يحتمه المرور من نظام عالمي قديم أفلس إلى نظام جديد ما زال في المهد، للجميع فيه الكلمة لأن حقبة ما بعد الحداثة هي زمن الجماهير بامتياز.

ونظرا لما أصبحنا نعيشه من تعاسة أخلاقية ولخبطة قيمية، لا محيص من العودة إلى أسس العلاقات البشرية، لا فقط وطنيا، بل عالميا لما بين المستويين من ارتباط وثيق. ومنها خاصة أس المشاعر في تجلياتها التكافلية بين أطراف العالم، إذ تتوجب التنمية اليوم قبل أي وقت مضى في عالم أظلمت فيه القيم بعد أن غزته الكراهة والحقد.

يكون ذلك بالعمل لخلق نظام محبةٍ عالمي في هذا الكون المترابط الأطراف إذ أصبحنا في عمارة كوكبية immeuble planétaire فهو الوحيد الذي من شأنه إنقاذ المعمورة من المخاطر التي تهدد البشرية والمهاوي المذهبية وهي بعد بصدد الذهاب بالأخضر واليابس على البسيطة.

ولا شك عندها أن للإسلام التونسي، وبلدنا يعيش على وقع الإسلام السياسي، أن يلعب دوره في مثل هذا النظام العالمي لمشاعر المحبة إذا نجحنا في المرور به بتونس من الجاهلية التي هو فيها واللخبطة القيمية التي مسخته إلى تنويرية جديدة متجددة.

نظام المحبة السياسي بتونس

يرى علم الإجتماع الفهيم sociologie compréhensive أنه لا مناص اليوم في عصر ما بعد الحداثة من سياسة تُعنى بتنمية المشاعر culture des sentiments، وهو يؤكد أن القانون  المتحتّم الذي تتجه نحوه البشرية هو قانون الأخوّة loi des frères. ولا يخفى على أحد ما لهذا القانون من شديد العلاقة بالأخوّة الإسلامية، والمحبة التي عبّر عنها الصوفية خير تعبير، وهما شكلان هامان من ديننا يتبنى ولا شك، أو يدّعي ذلك، الإسلام السياسي البعض من جوانبهما.

إن كل شيء في بلدنا، خاصة مع شمس فصل الصيف هذا، حرارة مادية ومعنوية؛ والحرارة علامة الحياة وترجمان الأشواق؛ وهي من باب تنمية المشاعر ونظام المحبة. وعلى هذا الأخير أن يكون بلا منازع اليوم  إسلاميا لما غمر الدين القيّم من مفاسد؛ فبذلك ننقذه وننقذ العالم من فواجعه الحالية بجعلنا من الإسلام حقا الدين الكوني الذي ركيزته الأساسية نظام محبة الخلق بعضهم لبعض توازيا مع حب الخالق لخلقه.

إلا أن هناك من يسعى لمصالحه الضيقة قبل صالح الشعب والعالم، وإن ادعي العكس، يريد أن تكون تونسنا اليوم بمثابة المتجر حيث يحلو البيع والشراء فتغدو الأخلاق فيه، كل الأخلاق، أي تلك التي تضمها منظومة علم الآداب، مجرد بضاعة في سوق الرأسمالية الرابضة على دنيانا بكلكلها الثقيل وقد فسح لها المجال انهيار الشيوعية وسقوط أو إسقاط النظام السابق.

أنا لا أعادي البتة النظام الرأسمالي ومناصريه ما دمت أنادي بنظام محبة شامل، ولكني لا أناصر استغلال الإنسان لأخيه الإنسان حتى وإن كان ذلك باسم الحريات، لأن الذي لا يستحي يفعل ما يشاء. فلا مجال، وليس بالإمكان، أن نفتح أبواب تونس الروحانيات على مصراعيها لرأسمالية متعجرفة لا تأخد إلا بقانون الربح والريع، وهو قانون الغاب الذي لم تعد تسمح به أعراف النظم الديمقراطية.

فنحن نرى أهل الرسمالية المتوحشة ينوون بلادنا سوقا لا غير، أي أنهم يأتون لا لخيرٍ يكون فيه ربحهم متقاسما مع خير شعبنا كما ندعو إليه ويدّعونه هم، بل لخيرهم الصرف، متجاهلين كل القوانين الأخلاقية، بل والمعايير السياسية والاقتصادية أيضا. فهذه الأخيرة تؤكد على ضرورة مشاركة القوى العاملة، وهي أصل الثروة، في المرابيح بصفة عادلة أو أقرب للعدل.

إنه يُراد اليوم لبلدنا أن يكون محطة هامة لأصحاب المال، غربيين كانوا أو شرقيين، لأن قوانينها الردعية هشة لانتهاكات مبدأ التشارك في الأرباح والعدالة للشعب؛ لذلك نرى رأس المال العالمي يسعى جاهدا لاستعمال كل فرصة سانحة لاستغلال االشعب وثروات بلاده ما دامت الظروف الحالية تسمح بذلك، فلا يهمه مصير الشعب ولا مصلحته على المدى الطويل. ولا شك أن هذا هو من الأسباب التي جعلت ساسة الغرب تعمل جاهدة على تشجيع الأحزاب الإسلامية للصعود للحكم، لا لشيء إلا لأن برامجها الاقتصادية تأخذ بالرأسمالية الهمجية.

هذا هو الخطر الداهم على بلداننا في غمرة ما يسمّى بالديمقراطية الانتخابية التي ليس فيها إلا مظاهر خدّاعة باسم الاقتراع الذي لم يعد يؤسس لحكم الشعب، كما كنا نعتقد، إنما يؤسس لمنظومة فيها يُقنن استغلال الشعب حسب معايير همها تدجينه لا غير. ذلك ما يعبّر عنه عند باحثي العلم السياسي بديمقراطية التدجين démocratie d’élevage وهو الديمومقراطية، أي مفازة جن السياسة       daimoncratie التي نقول فيها كلمات لاحقا إذ يتعيّن الخروج منها لولوج ما بعد الديمقراطية أو الديملوكية démoarchie التي تعني سلطة الشعب اليوم.

لئن كان من السهل إخضاع تطلعات هذا الشعب لمزيد من الحريات إلى توجهات إستهلاكية صرفة باسم فهم خاطيء للحرية، فليس من السهل البتة أن تُفرض عليه منظومة تسلب له حريته أو ما بدا له كذلك، كما تسعى إليه الساسة بتونس، وعلى رأسها الحزب الإسلامي، أو على الأقل العديد من أعضائه. ذلك لأن الحرية الحقة هي التي لا تنفي التمسك بالمباديء السامية واحترام حرية الآخر، بل تفرضها، إذ هي من المقدسات الحقيقية، حتى أنها لتأتي قبل المقدسات الدينية المعروفة لأنها تحترم الذات البشرية، وتلك بلا شك أعلى ما يقدّس !

إن الله خلق الإنسان ليعبده، ولهذا حمّله الأمانة وشُرّف بعبوديته لخالقه وإسلام نفسه له دون أحدٍ غيره؛ تلك حريته المطلقة ومدار ضرورة حماية شخصه وتقديس عدم المساس بذاته، لأن المساس بها هو المساس بحرية تقديسه لله وعقلنته. هلا فهم ساسة البلاد هذا وتمعنت في مغبة الرمي به عرض الحائط ؟ هلا أدركت أن الإيمان الحقيقي بالله لا يُفرض فرضا، بل ينبع من القلب بكل طلاقة وحرية، وأن الحرص على مجرد مظاهره من المراءاة وهي ليست من الإسلام في شيء ؟ هلا حرصت على محبة الشعب، كل الشعب، بأطيافه طرا، فعملت على التودد له بخدمة مصالحه وحاجياته دون المساس بحرياته وطلاقة فكره ؟

إن ما يتهدد النخبة السياسية، لا في تونس فقط بل في العالم أجمع،  هو  ما أسميه الألزهايمر السياسي Alzheimer politique؛ ولعل البعض يعاني منه بعد. وبما أني نصحت في يومية سابقة خُصصت لهذه الآفة بمعالجة ما ليس هو إلا شيخوخة مبكرة بما سمّيته المعالجة بالقبل bécothérapie، فإني أرى الشيء نفسه للسياسيين، وذلك بالدعوة إلى ترسيخ نظام المحبة ordo amoris في نطاق السياسة الفهيمة politique compréhensive لتغمر ربوع بلدنا في فترة مابعد الحداثة التي أظلتنا والتي فيها مسألة تنمية الأحاسيس ومشاعر المحبة من أهم المسائل.

لست الأول الذي يدعو إلى مثالية المحبة كسلاح سياسي، فقد سبقني إليها ببلادنا من أشاطره الإسم ومسقط الرأس : فرحات العظيم. لقد قالها فرحات حشاد ولم تتعلمها منه ساسة هذا البلد : أحبك يا شعب !  فهاهم رجال الإسلام التونسي ونساؤه يسعون جاهدين لأسلمة البلد علنا أو خلسة دون أن يدركوا أنهم بذلك يعجّلون بنهاية قصة الحب التي يمكن أن تجمعهم بالشعب. فالتونسي لم يقم بانقلابه الشعبي بمسعىً ديني بل لأجل مجاهرة بيّنة بحقوقه وحرياته كعربون محبة لأبناء الشعب وتفهمٍ لرغباته. أين كل ذلك وأين نحن منه، ومنظومة العهد البائد لا تزال قائمة ؟ أتذهب مطالب الشعب هباءً وراء زخرف الحكم ؟

زمن الحب في تونس وفي الإسلام

كيف ينسى أهل الإسلام السياسي واجباتهم من منظور الأخلاقية الإسلامية نفسها، فيسعى للتنظير لما يفرّق شمل هذا الشعب ويزرع الفتنة بين أفراده ؟ إنها ليست فقط الفتنة المزعومة في الاعتداء على المقدسات الدينية، بل الفتنة الحقة التي تتمثل في خرق مقدسات دولة القانون ودوسها. فالحياة ببلاد الإسلام ضرورةً حياة محبة المسلم لأخيه المسلم، حتى وإن أخطأ، وبالأخص أيضا لأخيه غير المسلم أيا كان معتقده؛ وبما أن الإسلام هو الدين والسياسة، عقيدة ومعاملات، فالسياسة تكون أيضا ببلاد الإسلام اليوم نظام محبةٍ.

إن السياسة الحقة اليوم بتونس في زمن الحب هذا لهي، كما قالها فرحات العظيم، محبّة الشعب، كل الشعب بجميع أصنافه وأطيافه: المتدّين فيه والسفيه والفاسق، السلفي والعلماني، المتشرق والمتغرب، المتزمت في دينه والصوفي والملحد، الملتزم بتصرف جنسي عادي والمتوجه لتصرف غير عادي موافقا تمام الموافقة لطبيعته وذاته اللتان جعلهما الله فيه؛ هل مدبّر غير الله لأمور خلقه ؟

إن تونس الجميلة كما تغنّى بها شاعرنا الكبير الشابي رائقة الجمال بتنوّعها وتعدّد مشارب بناتها وأبنائها، ذلك هو الذي كوّن ويكوّن نبوغ التونسي وعبقريته، مما جعله محط أنظار العالم منذ القدم؛ وهوذا المثال الذي يُحتذى اليوم في ربيعٍ عربيٍ له أن يكون فاتحةً لربيع إسلامي وللإنسانية جمعاء. لذا، الشعب التونسي في حاجة ماسة الآن إلى نخبة سياسية تكون بحق في خدمته فتحاكي بذكاء في تعاطيها للسياسة ذكاء النقابي الفطري ولمعان ذهنه المتوقد.

إن التونسي معروف أبد الدهر بسماحة أخلاقه ورعايته لأنبل العادات وأقدسها، ومنها حماية المستجير وإعانة اللاجيء به إلى أن تثبت براءته أو يتوفر له حق الدفاع عنها. ولا شك أن نضال ابن قرقنة بيّن بأفضل صفة أن الزعامة هي لمحبة الشعب. لقد قالها فرحات حشاد وأبدع، فلم يظاهي قيله ولا فعله أحد من بعده، حتى ذلك الذي أسعفه الدهر بالتفرد بالتحكم في القلوب بتونس بعد اغتيال النقابي الكبير، رئيس تونس الأول، الحبيب بورقيبة. ذلك لأنه لم يسر على هدي النقابي، هذا السياسي الفهيم، فعمل أساسا على إرساء نظام حكمٍ يقدس لشخصه، مما أهدر ما قدّمه لشعبه من خدماتٍ جليلةٍ في أول سنوات حكمه، خاصة تحرير المرأة؛ إلا أن هذا يحق يُنسي هناته في ظلمات الحاضر المقيت.

الجيل البورقيبي حاضرا يتغنّى بأمجاد زعيمه ويحاكي تصرفه ناسيا أن أمجاد حشاد أعلى وأكبر، لأن حب الشعب الذي كان شعاره الأوحد هو الحب الحقيقي في السياسة الصادقة الناجحة، لا حب الذات والعمل على تمجيدها على حساب الأخرين، أصدقاءً كانوا أم أعداءً. فلا مجال للكره ولا مكان للأعداء في نظام المحبة الذي أراه النظام السياسي الأفضل لهذه البلاد. لم لا يكون كذلك والبلاد متعلقة بتراثها التليد الذي يقدّس المحبة، إلاهيةً كانت أم بشريةً، بما أن الإسلام الشعبي بتونس إسلام التصوّف، والمحبة الصوفية هي أعلى درجة في المحبة ؟

لا جرم، الإسلام بتونس روحاني قبل أن يمت إلى التزمت السلفي، ولا غرو أن الروح السلفية الحقة، تلك التي تعود إلى حقيقة الإسلام في مقاصده النيرة، هي في الحقيقة أقرب إلى صوفية الحقائق من هراء سلفية الأكاذيب ودعدشة المارقين عن الدين. وقد اعترف بذلك، كما سبق أن بيّنا، منظرو السلفية أنفسهم فتكلّموا عن علوّ قدر الصوفيين وباعهم في الدين والدنيا. ولا شك أن شهادة ابن حنبل أو ابن تيمية في حق الصوفية من أكبر الدلائل على صحة ما أقول من كون أهل الصفاء اليوم هم البديل لدجل أهل الجاهلية الحديثة؛ فهم بلا منازع أهل الحقائق لا المشعوذة السلفية التي منها براء سلفنا الصالح في نقاء دينه وصفاء سريرته من كل كرهٍ وبغضٍ وحنقٍ على من خالف وابتدع، فربما هداه الله إلى الإبداع في الإسلام، إذ الإسلام ثورة دائمة وإبداع مستمر.

إن محجة الإسلام اليوم هي في الدعوة إلى التي هي أحسن، والحسنى في الإسلام ليست إلا المثل الطيب والقدوة المثلى، فلا إرغام ولا ترهيب، ولا إكراه ولا إهدار كرامة. الثابت أنه لا يُقاد أحد إلى الجنة مسلسلا ولا يُرسل إلى الجحيم بأمر بشري؛ فرحمة الله باقية ما دام في الإنسان رمق من الحياة من شأنه أن يهديه إلى السبيل السوي. لهذا، لا يتنافى الإسلام مع مباديء دولة القانون الأساسية اليوم، مثل المساواة التامة في كل شيء بين الجنسين، ومنع عقوبة الإعدام، وعدم تجريم أي عمل أو نشاط فكري وثقافي بدعوى كاذبة في الكفر أو تدنيسٍ للمقدسات أو مخالفة قطعيات ليست إلا في ذهن الفقهاء. كما هو لا يتنافى مع الحريات الشخصية مثل حرية المعتقد وحرية المشارب الجنسية أيا كانت؛ وقد تكّلمنا في ذلك بما فيه الكفاية.

هذه السبيل ليست جديدة، ونحن لا نبتدع شيئا؛ فقد توصل إليها منذ أمد بعيد الصوفي في مسلكه لابتغاء الفناء في محبة الله بتنزيه يده ولسانه عن كل ما يشين تلك المحبة. إن المسلم الصوفي يعلم أن الله كله محبة لا مراء فيها، فيعمل على حبه وحب خلقه وتحبيب الناس له، كل الناس، خاصة الكافر بنعمه عليه؛ يكون هذا بالعمل الدؤوب على ذاك الدرب في سره وعلانيته، إذ يعلم أن الله يراه حتى وإن لم يكن هو يراه. ولا شك أن الشعب التونسي الأصيل، كما مجّده فرحات حشادو هو في حياته اليومية من صوفية الطراز الأول، يسعى لمصلحته دون انتقاص لمصلحة غيره، فالكل سواسية في ابتغاء الأفضل؛ على أن يبقى هذا الأفضل الاحترام المتبادل للاختلاف والتنوع، حتى وإن بولغ في الخلاف والاختلاف، ما دام مرد ذلك الحرية الشخصية دون الانتقاص من حرية الغير.

إن الخيار الأوحد اليوم ولا غيره بتونس وببلاد الإسلام عامة هو بين الإسلام التنويريي – والصوفية، صوفية الحقائق هي أفضل ممثل له – والإسلام الظلامي المتزمت – والسلفية كما نراها اليوم، سلفية الجاهلية ومن لف لفها – هي التي تمثله؛ ولنا في الداعشية والوهابية أتعس الأمثلة.

إن قانون الأخوة الذي يصبو إليه شعب هذا البلد المحب للحياة (وذلك معنى وصفه بالعياش، حسب التعبير الشعبي) من شأنه أن يعوّض بصفته الأفقية، حيث الكل سواسية، القانون السائد إلى اليوم في كل المجتمعات بما فيها الإسلامية، المبني على قانون الأبوة، سواء كان هذا الأب الإلاه أو الدولة أو كل سلطة متعالية؛ فهو قانون عمودي متغطرس التعالي؛ وهذا هو الإسلام المابعد حداثي. ولا شك أن زمنه في تونس وفي العالم سيأتي في الإبان إذا وثقنا في أنفسنا وسعينا لأجل عالمٍ جديدٍ بالقطع مع مومياء النظام القديم المتهافت.

المرور من الديمومقرطية إلى الديملوكية

لعل ما يجب القطع معه أولا وعلى المستوى السياسي هي نظرية الديمقراطية، لأنها من المفاهيم التي أكل عليه الدهر وشرب للثمالة. ولا شك أن فراغها المدقع يبدو لأول وهلة، ومن المفارقات الغريبة، في هذا التعلق من طرف الأحزاب بتونس بآلية من آلياتها، ألا وهي الانتخابات، بينما هذه التنظيمات لا تؤمن في الواقع بالديمقراطية الحقة، أي سلطة الشعب.

نحن نسمع يوميا الكلام المسهب على ضرورة الالتجاء للصندوق وحكم الصندوق وكأنه من القرآن المنزل الذي لا مراء فيه؛ في ذات الوقت، نصغي لنفس هؤلاء الذين بمجدّون تلك الآلية الآتية إلينا من الغرب ينتقدون هذا الغرب ويرفضون فكره ونظرته للسياسة. إنهم لا يأخذون منه إلا ما فسد ويضربون عرض الحائط بما حسن عنده وأصبح نافقا عند من لا ينافق في تلك البلاد. فالحقيقة الثابتة بالغرب أن الديمقراطية ماتت إذ أصبحت ديمومقراطية daimoncratie؛ وهي تعريب لكلمتي المبتكرة بالفرنسية daimoncratie أو أيضا démoncratie، وهي نظام عفاريت الحكم.

فالأحزاب في بلدنا، كما الحال بالغرب، يجعلون من الانتخابات علامة على هيكل صوري لا فائدة فيه إلا لمن في أنفسهم جنون الحكم والتسلط والتجبر. إنها لعبة لا تمت للديمقراطية الحقة في شيء إذ ليست إلا الديمومقراطية أي ديمومة الديمقراطية، بمعنى أنها صحراء قاحلة. وكما نعلم، فالديموم في العربية هي الصحراء والمفازة التي يكثر فيها الجن، فإذا هي مرتع العفاريت، تماما كالنظام الذي تريده الساسة لهذه البلاد، يرتع فيه جن السياسة وعفاريت الحكم المتغطرس.

إن الصندوق وآلية الديمقراطية النظرية مما لم يعد فيه أي نفع في الغرب نفسه حيث بينت التجارب أن الانتخابات ليست، في معظم الأحيان، إلا عملية خداع لا خير فيها. ذلك أن هدفها الوحيد هو إلباس تسلط الساسة قناع سلطة الشعب واختياره، بينما الاختيار الحقيقي يبقى لصنّاع القرار من شياطين السياسة وأبالسة الأحزاب، يفرضون مرشحيهم بوسائل عدة، قذرة كالمال السياسي، وشبه نظيفة بالتوظيف الإعلامي. لهذا تنادي الأصوات النبيلة المتعلقة بفهمٍ صحيحٍ لسطلة الشعب في الغرب للخروج من هذه الديمقراطية الخاطئة التي غدت كالصحراء أو الديموم، مرتعا خصبا لشياطين السياسة، وهي تكثر في المفاوز حسب المتخيل العربي التي هي هنا مفاوز دولة القانون؛ فالديمومقراطية هي حكم شياطين السياسة في ما أصبح صحراء مجتمع الحريات القاحل، لا سلطة للشعب فيه حقيقة. ومثل هذه الأصوات تدعو اليوم بالغرب إلى ديمقراطية تكون أقرب إلى سلطة الشعب في واقعه المعيش، وذلك من خلال آليات تقرّب المواطن من مواقع النفوذ في نطاق ما سمّي بالمشاركة participation والعقل التشاركي raison participative أو الديمقراطية التشاركية démocratie participative التي هي أساسا ديمقراطية محلية démocratie locale. تلك هي الديملوكية ، démoarchie أي سلطة الشعب، وهي ديمقراطية هذا الزمن .

إن الشعب التونسي بفضل فطنته وتيقظ شبابه رفض ويرفض هذه المهزلة لأنه يبتغي بحق دولة قانون تُحفظ فيها الحريات ولا تُستباح وتُحترم فيها الحقوق فلا تُضيع؛ ولا يكون هذا إلا بعد أن يقع تفعيل الاستحقاقات التي جاء بها الدستور الذي فرضه مجتمعه المدني، إلا أن ساسة البلد ينوون تركه حبرا على ورق. لقد فهم الشعب بحكمته الفطرية أن من شأن الانتخابات الوطنية، وقد سبقت المحلية، القضاء مؤقتا على تطلعاته لدولة الحريات والقانون. فالأغلبية التي تأتي بها انتخابات وطنية صورية،  لا تشارك فيها إلا أقلية من الشعب، حسب قانون انتخابي جائر لا يصلح إلا لخدمة مصالح من هو في الحكم،  لا تعمل إلا على الحفاظ على منظومة العهد البائد لتستغلها لأغراضها ومنافعها وقد رضيت بها فلم تبطلها طيلة حكمها. وهذا ما كان خلال قرابة ست سنوات منذا الانقلاب الشعبي.

لا شك أن التوجه الجديد بالغرب في فهمٍ متجددٍ للديمقراطية هو الذي يتوجب علينا أخذه عنه حتى لا نستورد إلى بلادنا بضاعة فسدت، لم تعد صالحة، أو في أفضل الحالات تلك الثياب التي خرجت من السوق والتي هي عماد سوق نافقة عندنا، تلك التي تسمى «البالة». ونحن لقادورن على الإتيان بالجديد، فلا يكون عندها الصندق في بلادنا نعشا لحكم الشعب وإنما أفضل سدة لحكمه بنفسه. إننا في فترة ما بعد الحداثة، وهي زمن الجماهير، وهذا يقتضي تدعيم الامركزية بالبلاد، لا الإدارية فحسب، بل السياسية بالخصوص، إذ لا تنفع اليوم الإنتخابات إذا لم تكن محلية يختار فيه المواطن مرشحه حسب قانون انتخابي على الأشخاص وفي نطاق عقد يربط المترشح بمن يصوت له مع إمكانية تجريد المنتخَب من منصبه من طرف منتخبه في حالة عدم احترامه لبنود العقد.

بهذا تكون الديمقراطية في بلادنا ديملوكية، أي أقرب للحقيقة منها إلى ما هي عليه اليوم، مجرد سوق نخاسة تُباع فيها الأصوات وتُشترى باسم الشعب ولا حول ولا قوة للشعب فيها إذ لا يحكم هذه السوق إلا نخاسة هذا العهد وهي الأحزاب بقائماتها وطغاتها. ولقد أخطأ أهل الساسة ببلادنا بتجاهل الضرورة القصوى التي يحتمها الوضع بتونس والحالة المزرية التي عليها مدننا وقرانا في عدم تنظيم الانتخابات البلدية والجهوية قبل التشريعية والرئاسية. ذلك لأنهم غلّبوا مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن العليا، فجعلوا من الصندوق الانتخابي نعشا لما كان من الممكن له أن يكون المثال النير لديمقراطية جديدة متناغمة مع متطلبات الزمن في نظام عالمي جديد.

حتمية الدولة المدنية بتونس

من حتميات هذا النظام العالمي المتجدّد، بالنسبة لبلادنا، الدولة المدنية التي كرس الدستور مبدأها مع التنصيص على المرجعية الإسلامية بتونس. ورغم أن البعض من أهل القانون والدين يرون تناقضا في مثل هذا التأليف، بديهي أن الدين والدولة في الإسلام صنوان، إذ الإسلام، خلافا لليهودية والمسيحية، دين ودولة، فهو وحدة روحانية ثنائية أو وحدانية unicité، فليس هو أحدية أو واحدية       unité.

إن مفهوم الدولة المدنية إسلامي بطبعه، تماما كأي آدمي الذي هو بطبعه مدني. إلا أن العديد يفهمه غلطا فيذهب به ذلك إلى تأييدٍ لبعض التصرفات الخرقاء التي تظلم الدين والدستور معا. مثال هذا بث الآذان على موجات القنوات الإعلامية العمومية أو الخرق السافر للدستور وللدين في عقر المؤسسة الساهرة مبدئيا على احترامهما، ألا وهو قطع جلسات مجلس النواب لإقام الصلاة. ما من شك أن كل هذا يخالف مفهوم الدولة المدنية، وبالتالي يناقض الدستور نصا وروحا كما يسيء للإسلام في أفضل ما فيه، وهو تأليفه بين الدين والدنيا بموافقةٍ بين مختلفين، أي المجال العام والخاص، موافقة تناغم لا نشاز.

في عمارتنا الكوكبية، لا مناص لتونس من التبعية للمنظومة العالمية، ومن تجليات مبادئها السياسية مدنية الدولة التي هي إرث بشري تليد. فالبشر مدنيون ما داموا لا يعيشون إلا جماعات، وليس ذلك بمعنى التخلق بطباع أهل المدن والعمران، بل إشارةً للانتقال من الهمجية إلى حالة الأنس، أي العيش الآمن مع بني الإنسان؛ ولا شك أن هذا لا تختص به المدن وحدها، إذ هي أيضا حال القرى، بل وحتى ما يميّز أهل الوبر، البدو الرحل، رغم ما شاع من مناقضة المدينة للقرية وجعل أهل المدر نقيض أهل الوبر. مثل هذه المقولة انتهت صلوحيتها إذ العمران بشري قبل أن يكون بناء وتمصيرا؛ فكم من قبائل هدمت مدنا وبنت حضارات، وكم من حضارات متمدنة توحشت فيها الأخلاق وتهيجت، فصارت الحياة بها أعتى وأوحش من واقع الصحاري والأدغال !

لذا، مدنية الدولة أو الدولة المدنية في الإسلام هي أولا وقبل كل شيء في العمران الذي لا يجب قصر فهمه في البنيان بل اعتبار أنه كل ما يُعمر به البلد فتحسن حاله، لا فقط من كثرة الأهالي وتجميع الأعيال أو التمدن، وإن كان ذلك صحيحا، بل أيضا وخاصة في التكاتف والتناصر والتحابب والتآخي، أي كل ما يزخر به ديننا من تعاليم ومكارم أخلاق؛ هذه الحضارة والتقدم؛ فهل أفضل من التقدم الأخلاقي؛ أليست الأمم الأخلاق ؟

لا شك أن الإسلام عرف مدنية الدولة إذ فصل فصلا بيّنا الخاص عن العام. فبه نفهم مدنية الدولة الإسلامية على حق، أي أنها الدولة، مدنية كانت أو بدوية، بالمعنى العمراني القديم؛ ولا شك أن الإسلام، رغم استقراره بالمدينة ثم بدمشق وبغداد بقي بدويا، خاصة في عهد الإمبراطورية الأموية، لطبيعة القبائل العربية. مع هذا، فقد كانت هذه الأخيرة النواة لجعل ملة الأعراب الدين الحضاري العالمي المنتشر بكل أصقاع المعمورة.

الدولة الإسلامية المدنية إذن تعني الاعتراف بمجالين متساويين، هما صنوان : المجال الديني والمجال المدني، الأول يختص بالدين ويخصه وحده؛ فيه العلاقة مباشرة بين الله وعبده، لا دخل لأحد بينهما، إذ لا كنيسة ولا كهانة في الإسلام، ولا حتى مرجعية إمامية كما نراه عن الشيعة، وهو من الخطأ التشريعي الفاحش. أما المجال الثاني، فهو المجال المدني أي العمومي، مجال المعاملات، وهو الذي يخص شؤون الحياة العمومية حسب ظروفها الآنية وتطوراتها وتداول النواميس والأعراف بها؛ ولا دخل للدين فيها وإلا فقد قداسته فمسه ما يمس أمور الحياة الدنيا من خساسة وفساد.

ولا شك أن ذلك ما رأيناه طوال التاريخ الإسلامي حين أصبحت ذمم البعض من رجال الد ين، بما فيهم العدد الوافر من كبار الصحابة، كالزهري وأبا هريرة، تُشترى بمضيرة، تلك الأكلة الشهيرة في زمن المؤسس الأول للدولة الأموية. هذا أيضا ما نشاهده اليوم، زمن الدعدشة لدين القيمة. قناعي أن المستقبل بتونس وبالعالم الإسلامي في عدم الخلط بين الخاص والعام إذ ذلك مفسدة للدين. فالواجب الأكيد لحماية الدين يقتضي المفاصلية بين المدني والديني، خاصة عند صعود سدة الحكم أحزاب لها مرجعية دينية؛ فالدين للجميع، مؤمنا كان أو غير مؤمن، تماما مثل الدولة، وذلك لا يتم إلا بتعايش وتناغم تامين.

فلا ميزة في هذا المؤتلف الإسلامي بين مجالين مستقلين عن بعضهما، لا للمجال الخاص، أي الديني ولا للمجال العام، أي المدني، فهما في نفس الدرجة والأهمية؛ كما لا خلط بينهما ولا تداخل، وإلا انفصلت حبات عقد الإسلام. فبعدم الخلط بين العام والخاص كوّن الإسلام هذا العقد الفريد الذي واسطته هي التسليم بالله ومشيئته، أي أنه الواحد الأحد العارف بمصالح عباده في أمورهم الخصوصية وحرياتهم الذاتية، فلا لمخلوق أن يخلفه في ذلك.

هذا، ولنذكّر ما قلناه سابقا أنه لم يكن لله إلا خليفة أوحد هو الرسول الأكرم. فمعلوم أن الخليفة الأول بعد الرسول كان يحرص على أن يُدعى خليفة رسول الله، وكذلك كانت البداية مع الخليفة الثاني الذي قرر اختيار لقب أمير المؤمنين عوض خليفة خليفة رسول الله حتى لا تطول التسمية. ورغم أنه لا خليفة لله بعد الرسول، فقد انتحل هذه الصفة الحكام العرب لمّا أصبح الملك عضوضا، ثم وصل بهم الخور إلى التجرؤ على التسمي بلقب خليفة الله في الأرض، مساوين أنفسهم بالرسول الكريم !

في ذلك ما يبيّن جليا مساوىء الخلط بين الدين والسياسة إلى حد الخروج من الدين الصحيح إلى شبه دينٍ لا يمت بصلة إلى       الإسلام، خصوصا وأن الإسرائيليات كثرت فيه إلى حد تشويه تعاليمه السمحة.     هذه هي اللخبطة القيمية التي لا بد من الخروج منها؛ ويتحتم ذلك في ظل النظام العالمي الجديد. فالجاهلية الحالية التي يعيشها أهل الإسلام، وقد تدعدش بالإسرائيليات، تقتضي تخليص إبريز الإسلام مما شانه من السياسة بالنأي به عنها؛ ولكم رفض سابقا فقهاء أجلاء ذلك حارصين على عدم الاتساخ بأدران الدنيا، حريصين على دينهم ألا يدنّس سياسة عند انعدام الأخلاق بها.

إنه لا إسلام سياسة إلا بالمعنى السالف الذكر للمدنية الإسلامية، أي الدولة المدنية التي تفرّق جليا بين مجال الدين فتحصره في الحياة الخصوصية للمؤمن حيث يحافظ على كل حرياته الخاصة لما للحياة الخصوصية من حرمة في الإسلام؛ والمجال العمومي وهو ميدان الحياة السياسية حسب مباديء سلطة الشعب بمواصفاتها العالمية. هذا، مع العلم أن أهل المجال الخاص لهم وحدهم إمكانية الدخول للمجال العام، إذ العكس غير ممكن للسبب المذكور أعلاه، أي الإساءة للدين. على ألا يكون دخول الميدان العمومي من طرف أهل المجال الخاص، لأنها متساويان،  إلا للإتيان بالمثل الأسنى وتقمص مكارم الأخلاق فقط.

ذلك لأن المسلم هو الذي يأخذ بها ويعمل على إتمامها؛ تلك هي الرسالة النبوية في بلوغ المؤمن الخلق العظيم. فأي عظمة من خلق لا يمد فيه المؤمن يده ولسانه على غيره ويغض به النظر عن كل ما لا يُعجبه، بما أنه لا إكراه في دينٍ هو الحريات التي أساسها النية الصادقة والمثل الأعلى. هذا هو الإسلام السلام (إ-سلام) الذي يتأقلم مع مقتضيات كل زمن، بما أن الميزة الكبار للزمن البشير هي جدلية التطور والانقراض المستديمة، خاصة أيديولوجيا.

جدلية التطور والانقراض الأيديولوجي

لا تمانع اليوم عند أهل البحث في علوم الاجتماع البشري أن هناك جدلية قائمة صلب مفهوم التطور فيها حتمية الانقراض الأيديلوجي لا مناص منها، وذلك حتى للأيديولوجية التي تُعد الأم في حقبة زمنية ما، لأن الحقبة الزمنية ليست إلا هذه الفاصلة التي تقتضي ضرورة الختام بعد الفتح؛ وذلك هو المعنى الاشتقاقي اللاتيني  للكلمة بالفرنسية époque (pause, parenthèse : epokhê).

لا غرو أن هذه الحقيقة تفرض نفسها اليوم أكثر من أي وقت مضى في عصر الجماهير الذي نعيشه، أي ما بعد الحداثة. بديهي أن من مقتضيات هذا العهد اشتداد وطأة الحسي والعقل الحسي raison sensible مع ما يأتي به ذلك من تنمية للمشاعر والأحاسيس ما من شأنه لا محالة نفي ما عهدناه من تزمت في الأخذ بكل ما في البشرية من فطرة وطفرة في هذه الفطرة، خاصة منها الطبيعة الجنسية. فلا شك أن ما يميّز التزمت، الديني منه أساسا، هو قمع الحس الجنسي في البشر؛ وهذا يجعله غير آبهٍ بقيمة الإغلام في الحياة اليومية الجماعاتية رغم أنه مفتاحها. ومن هذا التزمت ما نعيشه في بلادنا العربية الإسلامية من مروق عن الدين باسم الجاهلية التي تشين الإسلام ولا تزينه بما فيها من تزمت غير إسلامي البتة.

نعرض لهذا الأمر من منظور الدغمائية الوهابية التي آن وقت اندثارها كأثرٍ من مخلفات عهد الحداثة المنقضية، خاصة بعد أن بدأت بوادر الاحتضار بقيام ما يسمى الدولة الداعشية. ذلك لأن النظام الوهابي يمثّل مسمار جحا في دار الإسلام، أي هذا الثابت المانع للتطور، المحافظ على مظاهر التخلف للإسلام؛ لا مناص إذن من انقراضه حتى يتم التطور للإسلام وعودته للحضارة .

ما يلخّص نوعية الحياة بصفة عامة، وحياة البشر بصفة أخص، هو هذه الحتمية للتطور بها؛ فلا بشرية بدون مراحل تطور، ولا إنسانية بلا عوامل لإفراز التطور وتفعيله فكرا أو عملا أو فكرا وعملا. إلا أن التطور لا يكون ضرورة خطيا، بل هو في قالبٍ لولبيٍ أو في نموٍ وارتقاءٍ بتدرّج، لعلهما يأتيان أحيانا بتثاقل إلى حد الإيهام لمن لا يرى ما وراء البشرة المجتمعاتية من إرهاصات بأنه لا وجود لتطورٍ البتة، بينما هو متجذر تمام التجذر، كحال البراكين قبل ثورانها. كذلك تأتي الثورات البشرية التي لا تشتعل فجأة، إنما تمهّد لها عوامل عدة متغلغلة في الواقع المعاش والمعيش اليومي، متأصلة فيه وفي المتخيل الشعبي.

هذه الحتمية تؤشر دوما إلى مرورٍ لا مناص منه من نموذج إلى آخر؛ وبداخل كل نموذج، من روح وجو معينين إلى روح أخرى وجو طريف في تزامنه مع أهم مقتضيات الآني والحالي البشري وخاصياته. وما من شك أن النفس المميزة لزمننا ما بعد الحداثي تتمثل في اشتداد الحسية كما قلنا، إذ البدن المجتمعاتي اليوم كله أحاسيس ومشاعر، ميزتها أنها أشد إرهافا من الأمس لما فيها من فطرية وتفاعل أكبر مع المحيط، سواء كان طبيعيا أو بشريا.

هذا ما نسمّيه عندنا بالمكتوب، وهو في علم الاجتماع الفهيم التماهي الكلي مع البيئة إلى حد الانصهار écosophie. لذا نرى العنصر الحي في المجتمعات التي اعتادت مناهضته وتقزيمه، أي الشبيبة، تثور مطالبة بحقوقها المشروعة في كل المجالات، بداية بالحريات الذاتية. ولا مناص اليوم من الاعتراف للشباب بحقوقه الطبيعية هذه، وأولها حرية العلاقات الجنسية. ذلك لأنه إذا لم يقع الاعتراف بهذه الحقوق البديهية، لا محالة عندها أن تمتد ثورة الشباب من مجرد المناداة بحقه المشروع في الحب (إذ فترة الشباب هي فترة المحبة حتى يكون الانسان كاملا) إلى المطالبة بها وبغيرها من الحقوق السياسية التي تفرضها الحياة الاجتماعية. هذا يؤدي طبعا إلى استعمال العنف لما فيه من مجابهة متحتمة لمؤسسة الدولة ومشروعية امتلاكها حق استعمال القوة. فالحق مرتبط بوجوب استعماله لأجل الصالح العام لا لتوظيفه لحماية حقوق أقلية ضد الأغلبية.

إن الأغلبية اليوم في العالم كله تطالب بتعاطي الحريات الشخصية بدون قيد ولا شرط، والخيار الوحيد لأهل السياسة الإسلامية إذن هو إما المزيد من الحريات الشخصية عن طواعية، وإلا مجابهة ثورة عارمة طاحنة؛ لأن الشباب إذا حُرم من الحب والجنس يتعاطاهما عنفا وإرهابا؛ ذلك ما نرى مع داعش. ولا شك أن هذا هو العامل الأساس الذي يؤدي دوما إلى انقراض ما عهدناه من تزمت، ديني أو أخلاقي، و إلى انفتاحٍ في الحقوق الشعبية لا مفر منه في انتظار عودته تحت عباءة جديدة تكون ضرورة أقل تزمتا وأكثر تحررا، بما أن التاريخ       يعيد نفسه في الزمن اللولبي.

إذا أردنا الآن التعبير عما سبق بلغة دينية محضة، بإمكاننا القول أن الإسلام اليوم ليس له إلا أن يكون صوفيا لما في إسلام التصوف من الاعتراف بحريات المؤمن كاملة. فلا شك أن التصوف، تصوف الجنيد والبسطامي والمحاسبي والغزالي، مثّل فترة الذروة في الفتح والتفتح للحريات في الدين الإسلامي إذ كانت الأخلاقيات الصوفية هي مرجع الإسلام في أوج حضارته. وما ضاع مجد الإسلام بفقدان سماحته ومكارم أخلاقه إلا بزوال حداثته التراجعية Rétromodernité بما أنه كان حداثة قبل الحداثة الغربية. ما من شك أن هذا كان مع الإمبريالية وتغلغل الإسرائيليات في الإسلام، الشيء الذي ترك المجال فسيحا للسلفية المتزمتة مما مهد لأبغض السلفية، أي الأيديولوجية الوهابية التي ليست فيها أي روح إسلامية.

إن بوادر نهاية الإسلام المتزمت لفعلية، متجسدة في الجاهلية النكراء المتسمية بهتانا بدولة إسلامية وليس فيها من الإسلام أي شيء؛ أما الوهابية، فهي في أفضل الحالات إسلام هجين مستهجن. لذا لا يمكن الدوام لمثل هذه الأيديولوجيات، إذ  من المتحّتم اليوم على الإسلام أن يتجدّد حتى يبقى الدين العلمي العالمي، الثورة العقلية التي كان عليها وخاتم الرسالات السماوية. من المعلوم الثابت اليوم عند أهل الإسلام الصحيح أن الوهابية إسلام كاذب دعي، بما أغلب تعاليمه من الإسرائيليات، أو هي مما ينقض مقاصد الشريعة بظاهر نص جاء لزمن ولا يُعتمد لكل الأزمن. من ذلك قطع اليد أو العبودية أو عدم المساواة في الإرث، وغير ذلك من الأمور التي كانت رحمة في زمن النقمة الجاهلية، فإذا الوهابية تجعل منها إسلام النقمة بينما دين محمد دين الرحمة؛ فكيف لا يكون كذلك في زمن أرحم عموما اليوم؟  فإن مثلت داعش الصورة  البشعة  لهذه الأيديولوجية، فهي في نفس الوقت أول بوادر انقراضها حتما، إذ لا مجال لبقاء داعش ما دامت الأسباب التي أتت بهذه الجاهلية الإسلامية أصبح ضررها أشد من نفعها.

الكل يعلم أن السند الأهم للنظام الوهابي هو الحليف الأمريكي الذي ساند ويساند داعش، وقد موّلته وتموّله الوهابية وباقي زعماء الإسلام المتزمت. إلا أن داعش مكنت بفظاعة تصرفاتها من إعادة وعي المسلم الحقيقي إلى كنه دينه والخطر الذي يتهدده من الداخل. فسماحة تعاليمه شُوهت وأصبحت بدون أخلاقية إسلامية ما دامت المسحة الإسرائيلية طاغية عليها بالرهبرت والنقموت الذي يميزها خلافا للقرآن وهو الفرقان بين الحق والباطل، دين إله رحمان رحيم. هذا يجرّنا للقول بحتمية نهاية الوهابية؛ إذ استغناء الحليف الأمريكي عن النظام الوهابي فرضية واردة، بل حتمية تاريخية.

ولنا اليوم بالشرق ما يؤشر لظهور إسلامٍ متسامحٍ آخذٍ بما وصلت إليه الحضارة البشرية دون التفريط في لب لباب الدين، ألا وهي سماحته. فحري بهذا الإسلام الصوفي أن يتمركز بأقدس أراضي الإسلام فيأخذ بثأره من السلفية التي أزاحته من الحكم بمساعدة غرب سهى عن مبادئه لأجل مصالحه الآنية. ذلك لأن الغرب ليس بمقدوره طويلا غض النظر لأجل هذه المصالح عن مستقبله على المدى البعيد، وهو في تشجيع الإسلام المتسامح، الإسلام الصوفي، أي الإسلام الحق، إسلام الجماهير في عهد الجماهير، ليكون حليفه البديل بالأراضي المقدسة، فيقطع دابر داعش ومن وراءها دون التفريط في مصالحه سواء على المدى القصير أو الطويل. لهذا، ليس من المستبعد أن تحدث قريبا على الساحة السياسية تغييرات من الحجم الثقيل لا تكون إلا تجلياتٍ لما يحدث حاليا في الخفاء من التحضير لإسلامٍ بديل، وليس هناك كبديل جدي إلا الإسلام الصوفي.

هناك بعد من الملاحظين من يؤكد أن السلالة الوهابية قد انتهت مع صعود الملك الحالي لسدة الحكم؛ ولعل مايحدث في المملكة ليس إلا من باب تأخير حتمية زوال أيديولوجية التزمت، لعل وهابية       مبسترة تكون بداية لها. ذلك أنه من القوانين السوسيولوجية ما ينص على أن المؤسسة البشرية مستعدة، في حالة صراع خانق للدوام، لأن تنقض مبادئها الأساسية. ليس من المستبعد إذن أن تستغنى السعودية عن الوهابية لإدامة حكمها، بما أن المستقبل حتما لإسلام الصوفية للخروج بالإسلام من جاهليتة الحالية، هذا الماضي المقيت الذي حان له أن يندثر .

القطع مع دغمائية النظام العالمي القديم

إن مَثَل الماضي الذي لا يزال يتمطط فلايقبل الاضمحلال، بينما هي الحتمية التي لا مناص منها، كمَثَل نظام الديكتاتورية البغيض الذي عرفته تونس، وهو الذي لا يزال يهيمن على الأنظمة العربية؛ إلا أنه أيضا وخاصة الديكتاتورية المعنوية التي لا تزال محتلة للعقول. وهذا طبعا لا يخص تونس فقط وبلاد العرب، إذ منبعها فكر غربي يسمّى حداثةو أي المفهوم المتهافت الذي انتهى زمنه، لأنه ما قبل ما بعد الحداثة، أي ما قدُم وانتهت فاعليته.

لا شك أن ما يلخص فترة الحداثة الآفلة هي هذه الدغمائية السياسية التي ترى أنه لا مناص من القبول بالنظام الحالي المهيمن على العالم وعلى العلاقات الدولية، خاصة بين الشمال والجنوب بما فيها من انتقاص لحقوق مواطني بلاد الجنوب. هذا النظام أفلس منذ أمد طويل ويتوجب الخلاص منه لأنه لم يعد إلا تلك المومياء التي تسر هيأتها الناظرين وليس فيها أي حياة. ولا شك أن ذلك يقتضي، بالنسبة لتونس وبلدان المغرب ومحيطهم المتوسطي، الدعوة إلى بعث فضاء ديمقراطية متوسطي، أول تداعياته وأوكدها إرساء التنقل الحر داخله لكل مواطني دول الجنوب التي تكون نجحت في انتقالها الديمقراطي، كما هو الحال بالنسبة لتونس. لقد سبق أن بيّنا أن هذا بإمكانه أن يتم عمليا بواسطة آلية تحترم كل المواصفات الأمنية المتحتمة اليوم، أي االتأشيرة الحالية التي تصبح عندها تأشيرة مرور visa biométrique de circulation يتسليمها كل تونسي مع الصلوحية لمدة سنة أو ثلاث سنوات والتجديد الآلي.

هذا من شأنه أن يوشّر للضرورة القصوى المتمثلة في طلب الانضمام للإتحاد الأوربي، الانضمام الذي لا مناص منه نظرا للترابط الوثيق، بل العضوي، بين شمال البحر المتوسط وجنوبه، إضافة إلى تواجد أوربا على الأرض المغاربية من خلال مستحقاتها الإسبانية بالمغرب الأقصى، سبتة ومليلية. فالمنطق يقتضي أن تصفّي أوروبا مثل هذا الدوام المقيت لتبعات الاحتلال فتعيد تلك الأراضي لأصحابها أو أن تبني معهم علـي أساسه حاضرا متجددا بفتح الباب علـى مصراعيه لمستقبل آمن ببحيرتنا المتوسطية. ولا يكون لا محالة إلا بترابط ضفتيها رسميا، فعليا وعمليا، لا كما هو الحال اليوم بصفة جائرة، في صالح أوروبا المحض.

طبعا، ليس العائق من الطرف الغربي فقط، إذ أن هذه النقلة النوعية  تقتضي أيضا وباديء ذي بدء القطع مع لاوعينا العربوي ومتخيلنا الإسلاموي. فالمتخيّل العربي وما يميّز اللاعي فيه من إسلاموية وأخلاق بدوية يرفضان التحضر ويؤكدان أن الماضي يواصل التجلي في أعتى صوره. فالخرائط بالبلاد العربية الإسلامية يُعاد تأويلها بتواطي من العرب المسلمين إلى حد التضحية ببعض الدول، كالعراق وسوريا ليبيا. ولئن واصلت الدول الكبرى، مع إسرائيل على رأسها، التطاول على عالم عربي في مهب الريح، فلأن العربي المسلم يسعى في ركاب مصالحها للإمتيازات الآنية لساسته. لذلك حُق لنا أن نجعل من زمن المضارع، بل وحتى المستقبل، كل ما عرفته البلاد العربية الإسلامية سابقا من إمبريالية، بما أن الاتفاقيات من نوع سايكس-بيكو التي احتفلنا أخيرا بمرور مائة سنة عليها لا تزال تُكتب يوميا وبالأيادي العربية بداية؛ هذا هو البيان الثابت اليوم حتى وإن تخفّى.

مشروعات إعادة ترسيم الحدود العربية، في الشرق وفي شمال إفريقيا، تبدأ في العقل العربي؛ وهذا يتم طبعا بتشجيعٍ أو ضغطٍ من أسياد الموقف حسب المناطق، سواء كان السيد جهويا، أي إسرائيل وكبار الدول الإسلامية كالسعودية، وتركيا مثلا، أو عالميا، أي أمريكا وروسيا والاتحاد الأوربي. هؤلاء لا يتورعون عن عرض والدفاع عن مشاريعهم الوطنية الأنانية، ومنها التأكيد على ضرورة إعادة رسم خريطة المشرق العربي والمغرب الأمازيغي العربي، بل والعالم أجمع بما يستجيب لتطلعاتهم.

ذلك من المتحتم في سياسة القوى، متوسطة كانت أو عظمى؛ وهي أيضا مما تحاكيه البلاد الأصغر التي تعتقد لنفسها أهلية لعب الدور الذي يليق لا بمصالح شعبها، إذ لا شعب يُوجد في متخيل الحكام، بما في ذلك الأنظمة الديمقراطية، بل بمصالح جن السياسة بما أنها، كما  بينّاه، مرتع الجن بامتياز. ونحن، على ساحتنا السياسية العربية الإسلامية، لا نعدم مثل هذه الجن، بما فيها تلك التي عصت ربها فأصبحت من المغضوب عليها، كداعش التي رأيناها ونراها تمثل عند البعض أسمى عبارات التصدي للإمبريالية العالمية بينما ليست هي إلا من تجلياتها في عالم أصبحت اللخبطة القيمية فيه على أوجها.

لذلك، ويجب ألا نغتر مثلا بما قامت به داعش، سنة 2014، من هدمٍ للحدود بين سوريا والعراق في عملية مشهدية تمثلت أساسا في عملٍ رمزي فيه كل التنديد والازدراء لرسم الحدود كما مثلتها سايكس-بيكو. ففي الآن نفسه، انطلاقا من حقٍ لا يمكن له إلا تهييج حمية الجماهير، عمل ويعمل التنظيم الإرهابي على زرع باطله في كتابة سايكس-بيكو ما بعد الحداثة من خلال رمزية الصراع ضدَّ الإمبريالية، لا باسم إسلامٍ صحيحٍ متجذرٍ حيويٍ، بل بنسخة إسلاموية لا تعمل إلا لما تسعى إلى الحصول       عليه تلك الامبريالية. فباسم العداء للإمبريالية، أمكن للأولى – علنا – وللثانية – خفية – ارتكاب كل الجرائم والاعدامات البشعة الممكنة؛ فداعش تقترفها بوصفها إعادة نسخ تاريخيَّة لجرائم الغرب الَّتي لا حصر لها في حقّ العالم العربيّ.

أما الامبريالية العالمية، بما فيها القوى الصغرى التي تعتمد عليه من العرب وأهل الإسلام، وفيهم داعش بلا أدنى شك، فهي تستغل فساد داعش والانقسامات العربية الإسلامية للإمعان في القتل الجماعي واستغلال الأرضين وخيراتها وتقطيع أوصال الوحدات الجغرافية سياسيا وأيديلوجيا حسب مصالح اليوم، تماما كما فعلته زمن سايكس-بيكو. ماذا تغيّر؟ لا شيء، لأن الأمور على حالها في اللاوعي العربي والمتخيل الإسلاموي. هذا ما يتوجب دراسته وتغييره، لا ما ينتج من       الاتفاقيات السرية وعنها؛ فهي من السياسة خاصة عندما تصبح سياسوية، فلا مفر منها؛ الأفضل تزكية النفس بسياسة أخلاقية.

استنباط النظام العالمي الجديد                       

كل ما سبق يساهم في دعم التوجه الجديد المحتوم للديبلوماسية التونسية والمغاربية –  وكذلك، بصفة أعم، دول الجنوب، عربا وعجما – ليؤدي ضرورة إلـى العمل الدؤوب على إرساء دعائم مساحة حضارية بين الغرب والشرق، نواته أرض الخضراء. هذه المساحة تكون الامتداد الطبيعي للفضاء الديمقراطي المتوسطي، الذي بإمكانه أيضا أن يكون، في مرحلة من مراحله الأولى، فضاء ديمقراطية فركفوني.

هذا يفرض نفسه اليوم كضرورة قصوى لمجابهة قوى الشر المنتشرة كالنار في الهشيم بالعالم مستغلة ذهوله عن قيم التضامن والترابط بين مختلف البشر بكل نزعاتهم، وبخاصة بين شرق غوى لأجل تزمته الديني وغرب هوى إلى أفظع تجليات المادية. فالمستقبل للروحانيات كما رأينا وقلنا؛ وبديهي أن دور تونس لكبير في أيامنا الظلماء هذه حتى تتم النقلة بسلاسة من النموذج السياسي البالي لنظام المحبة بتونس بكون فتحا لنظام عالمي متآكل انتهت صلوحيته، ولا بد أن يترك مكانه لنظام جديد أعدل لأنه أكثر إنسانية.

ولا شك أن هذا يخص أولا وقبل كل شيء القضية الفلسطينية، قلب مشاكل المتوسط. فمن المؤسف أن يتجاهل البعض من أهل السياسة في البلاد حقيقة الوضع، بما فيه من له التجربة والمسافة مع الأحداث ومقضيات السياسة مما يفرض عليه كلمة الحق. فنحن نراه في أفضل الحالات يتكلم خارج الموضوع ملوحا بوصفات لا معنى لها، إذ هي مما لا جدوى فيه نظرا للوضع القانوني بالبلاد وللنظام العالمي الاقتصادي والسياسي الذي يتجاهله رغم حتمية الأخذ به.

قلنا أن الوضع الراهن يقتضي، داخليا، تحيين  الترسانة القانونية اللازمة للتغيير والإرادة السياسية التي بدونها لا شيء يتم؛ فقد فشلت السياسات الكلاسيكية والتقليدية وثبتت ضرورة القطع معها، الشيء الذي يقتضي توفير المناخ اللازم بالعمل على تهيأة الأدمغة لها حتى تكون كالنبتة التي نزرعها بأرض خصبة، ذاك التيرب الذي يقتضي الثقة في حكام البلاد وقوانينها، وإلا كان كالحبة التي نرميها على أرض لا تنبت شيئا؛ وليس هذا موجودا بعد بتونس الرازحة تحت قوانين الاحتلال والديكتاتورية.

أما خارجيا، وفي نطاق فضاء الديمقراطية المتوسطية، ولاحقا مساحة الحضارة بين الرشق والغرب، لا بد من التصفية العاجلة العادلة للقضية الفلسطينية حسب المشروعية العالمية. فلم يعد يكفي ذكر المباديء، بل لا بد المرور للفعل، وهو في الاعتراف المتبادل حسب التقسيم الدولي والقطع مع تعبير الكيان الصهيوني المتهاوي. وبما أن إسرائيل في موقف القوة اليوم، فالمنطق يفرض على الضعيف القيام بالخطوة الأولى؛ وهذا متحتم لأن عدم حلحلة القضية يخدم مصالح إسرائيل لا الفلسطينيين. ثم بما أن القضية تُستغل أيديولجيا ودينيا، لا بد للإسلاميين من القيام بأول خطوة حاسمة، وهي الدعوة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في نطاق تفعيل لتقسيم 1947 الممثل للمشروعية الدولية التي لم تعد تعترف بها إسرائيل، وليس ذلك إلا النفي من طرفها لبطاقة ولادتها؛ هذا ما يتوجّب التذكير به.

إن مثل هذه الإصلاح  على مستوى السياسة الخارجية لهو في قيمة الإصلاح الداخلي العاجل بالنسبة لمنظومة بلدنا، إذ هو الذي يبني لعقلية جديدة متفتحة لدولة القانون نظرا للتوابع والتداعيات على المتخيل الشعبي واللاوعي الجماعي وأضرارها الفاحشة به. ومثل هذا الإصلاح الداخلي والخارجي يمهد السبيل ولا شك لتغيير النظام العالمي الجائر. فالوضع الراهن بالعالم لا يمكن له أن يتواصل على حاله المزرية.

ذلك لأن المصالح الرأسمالية عديدة، وهي تمنع منعا باتا أي تغيير يمس بها؛ وبديهي أن أي تغيير بالسياسة في تونس، خاصة الاقتصادية، له تداعيات عليها؛ كما أن تواصل العداء لدولة معترف بها لا يفيد في شيء حل القضية وإعادة الحقوق المشروعة لأهلها. لهذا، لا بد من المطالبة بما يمكن أن يرمز لهذه النية والقبول بها، لا فقط من طرف ساستنا، بل وأيضا من طرف حلفائنا الغربيين، الشيء الذي من شأنه خلق ردة فعل إيجابية عند الشعب، خاصة الشباب. يكون ذلك إذن بالقطع مع السياسة المتبعة اليوم في ما ذكرنا من أمثله داخليا وخارجيا لارتباطهما العضوي.

ضرورة سياسة أخلاقية لزمن الحب

هذا هو اتجاه التاريخ وتلك هي مصلحة الغرب نفسه إذا أراد حقا حماية مصالحه الجمة ببلدنا، وإلا خسرها إذا سقطت تونس بين مخالب الإرهاب الفاتح فاه بها، وليس ذاك بالمستبعد اليوم للأسف. إنها سياسة إنقاذ وطني ليس فيها القرار لتونس وحدها، بل في واشنطن وبروكسيل أيضا، ولربما في العاصمة الأولى بداية ! هذه مقتضيات تغيّر العالم. فما من أحد يشك اليوم ، إلا النوكى الذين لا يُعتد طبعا برأيهم، في أن العالم تغيّر، خاصة في المفاهيم التي تحكمه بخصوص النظرة إلى الحضارة بغلوّها في النزعة العلماوية. فهي بصدد ترك مكانها، وقد استنفدت كل ما فيها من معاني، لمفاهيم مستحدثة تقتضي العودة للأخذ بكل ما صلح في عادات البشر وتقالديه مما عُد سابقا من الترهات أو البدع. وهذا أيضا مما يميّز زمن ما بعد الحداثة وتقتضيه الحتمية التاريخية.

خلاصة القول، ونحن نعيد هذا لمزيد الإفادة، إنه لا يختلف اليوم إثنان في أن مصلحة البلاد العربية الأمازيغية المسلمة هي في حمل الإسلام السياسي في الحكم على الأخد به بحكمة، إذ لا يمكن إقصاء هذا الجزء المجتعي الهام من الشعب عنه. إلا أن ذلك لا يكون على الشاكلة المخزية الحالية في توظيف الدين لأغراض ضيقة تجعل الناس تنفر منه ومن سماحة تعاليمه وإناسيتها. فهي بهذا تستصغر انتماءها للإسلام وما أتى به للحضارة العالمية، فإذا بها مركب نقص هو أنجع العمل السلبي على بقاء بلادنا متخلفة؛ فلا تقدم بلا قناعة في أن لنا ما نقدم للعالم وللأفضل فيه. طبعا، ليس يأتي مثل هذا التصرف الأخرق من غالبيتنا عن سوء نية أو عن حسن نية، بل بصفة لاشعورية بسب لخبطة قيمية فظيعة حان لنا أن تفيق من غفوتها.

إن زمننا ما بعد الحداثي يفرض أكثر من أي وقت مضى تحيين قراءتنا لتعاليم الدين للأخذ به حسب روحه ومقاصده، إذ هو في ذلك جماهيري بدون أدنى شك حسب عقلية اليوم، وإلا لما كان حداثيا قبل الحداثة الغربية المتهاوية لطغيان المادة فيها دون أي روحانيات. لا يكون هذا إلا بتعاطي ما تقتضيه روح الزمن من إرساء نظام محبة بالبلاد يتناسب مع الروح المغربية الصوفية والإقدام على القطع حقا مع الماضي، داخليا وخارجيا.

وبديهي أن الماضي في تونس لا يتمثل فحسب في نظام الديكتاتونية السياسي والأخلاقي، ولكن أيضا في الدغمائية السياسوية التي تقول بديمومة النظام العالمي الحالي رغم أنه أفلس منذ زمن طويل، وليس هو إلا ما يروّج له الغرب للحفاظ على زعامته وقد أفل نجمه منذ مدة، كما صرّح بذلك أهله أنفسهم، مثل سبنغلر Spengler في بداية القرن الماضي. وطبعا، هذا لا يوافق مصالح كل من انتفع بالنظام المتهاوي، سواء بالداخل أو الخارج، وعلى رأسهم رأس المال العالمي.

المستقبل الإنساني بلا منارع لنظام الحب ordre amoureux أو ordo amoris؛ وله الحظوظ الوافرة للبزوغ بمغربنا الأمازيغي العربي وبتونس الجميلة خاصة إذ دينها روحانيات، أي هو مشاعر حب ونزوعٍ للأخلاق في الصميم. ولا شك أن للنخب فيه الدور المهم للمساعدة على إخراج ساسة العالم من سباتهم المادي وغفلتهم عن القيم. يكون ذلك بالعمل الجاد المتواصل حتى تتم النقلة النوعية بسلاسة من النموذج السياسي لنظام عالمي منتهية صلوحيته بانتهاء القرن الماضي إلى النوذج المابعد حداثي للقرن الجديد، قرن المحبة في زمن الحب؛ فلا مجال لأن تُقاوم الكراهة التي غزت العالم إلا بمشاعر الحب والتكافل والتضامن.

هذا واجب ساسة مغربنا الكبير، خاصة منهم من يدّعي المرجعية الإسلامية؛ فخدمة العدل والانصاف لا يكون بالشعارات الكاذبة وزخرف القول وتهافت العمل. وهو أيضا مسؤولية أهل السياسة الخارجية التي مفهومها اليوم أكثر من أي وقت مضى لهو اليقين أنه لا يستحيل أي شيء لمن عمل على تنمية الأحاسيس بقلبه ومشاعر الحب، أي سياسية القبل السياسية  bécopolitique للمرور من سياسة انعدمت الأخلاق بها إلى سياسة أخلاقية poléthique ونظام محبةٍ عالمي.

وبعد، إن كل ما سبق مما لا يشك فيه كل من يعلم حقا أن أي سؤال نسأله لا يكون بدون جواب سبقه ولادةً. هذا من مبادىء الروحانيات الصوفية حيث لا أسئلة إلا لأجل الشك المنهجي؛ وليس ذلك من المنكر  على شرط العمل بعد الشك والخلوص لليقين المتحتم أننا في زمن الأبدال. هذا يقتضي الإصلاح للإحسان ولكلمة السواء للانتهاء من كلام وفعل السوء. تلك هي الحسنى السياسية الإسلامية التي بها يكون المسلم في السياسة مفكّرا ناشطا للأفضل، يغمر الحب فؤاده فكلامه فعمله.

هكذا تكون غدا بلاد الإسلام، وعالمنا أجمع، أرض المحبة لأهل الحب، أبدال ما بعد الحداثة، زمننا الراهن المتعطش للمحبة لفرط ارتوائه كراهة وبغظا. أليس هذا الرهان اليوم للإسلام حتى يكون إيمان نظام محبّةٍ عالمي ؟

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.