الرئيسية » (24) الإسلام لا يمنع إبطال عقوبة الإعدام

(24) الإسلام لا يمنع إبطال عقوبة الإعدام

الإعدام

يكتبها فرحات عثمان

إن من علامات التحضر في عالم اليوم إبطال عقوبة الإعدام إذ هي ميزة النظم المتسلطة التي عادة ما تستعملها لقمع معارضيها.

إضافة إلى ذلك، لدعوة الإبطال أسباب أخرى، أهمها قدسية الحياة وإمكانية الخطأ القضائي. لذا، نعتقد أنه حري بأهل الإسلام لهذين السببين الأخيرين على الأقل الانتصار لإبطال عقوبة الإعدام باسم دينهم.

للأسف فوّت الإسلاميون بتونس الفرصة لذلك عند كتابة الدستور الذي تناقض تمام التناقض بتكريسه من جهة لقدسية الحياة ثم قبوله للإعدام من جهة ثانية. لذلك، بقي أن يصحح المسار لاحقا القضاء الدستوري بتصريفه تأويل الدستور نحو الإبطال الذي لا يمنعه بتاتا الإسلام كما ندلل عليه في هذه اليومية، إذ سنرى أن مقاصد الشريعة فيها الحث على إبطال عقوبة الإعدام.

الحتمية القانونية والدينية لإبطال العقوبة

إن مبدأ منع عقوبة الإعدام هو أولا وقبل كل شيء مبدأ الحق في الحياة الذي تضمنه عدة اتفاقيات دولية مصادق عليها من طرف السلط التونسية؛ وليس هو فقط ما تقتضيه المعايير الدولية للديمقراطيات الحديثة، بل أيضا الدستور التونسي ودين البلاد الذان يحتمان ضرورة منع هذه العقوبة اللاإنسانية.

نعم، تلتزم السلط منذ مدة بعدم تنفيذ الأحكام الصادرة بالإعدام، لكنها لا تتجرأ على منع العقوبة لأسباب اجتماعية ودينية حسب قولها. ولاشك أن الداعي الديني هو الوازع الأكبر لرفض منع هذه العقوبة، إذ هو الذي يغذّي مخيال الشرائح الاجتماعية بتعلة أن ذلك من شأنه أن يخل بواجباتهم الدينية واحترامهم لها.

هذا من الخطأ الفادح، بل هو من المغالطات الكبرى في الحمل على الاعتقاد أن الاسلام يحرّم منع عقوبة الإعدام، إذ يشجّع بالعكس ديننا على ذلك كما نبيّنه. لنقل قبل ذلك أن حق الحياة الذي كرّسه الدستور التونسي يقتضي منطقيا منع عقوبة الاعدام؛ وفي ذلك الاحترام الكامل للدين الإسلامي لا فقط من زاوية مقاصده بل وأيضا نصه.

ثم إن منع عقوبة الإعدام لهي الفرصة السانحة لتلميع صورة الإسلام وقد شوهها الظلمة اليوم فطمسوا تناغمه مع مقتضيات الحضارة البشرية ومعايير الإناسة العامية.

هذا، وإبطال العقوبة من شأنه أن يؤهل الإسلام لأن يدخل قلب المحكوم عليه بالمؤبد في نطاق سياسة   تجعل من رواق الموت رواقا للروحانيات لأهل الدين العمل فيه على حمل المعنيين بالأمر على التوبة عن أفعالهم والتكفير عما اقترفوه من جرم بالعودة إلى تعاليم الدين والتمعن فيها لتصدق توبتهم فينالوا عفو من ظلموا وعفو الله لصدق التوبة.

ليس قبض الأرواح إلا لله

عقوبة الإعدام لا تحترم الإسلام بقدر ما هي تشوّه تعاليمه، إذ قبض الروح من طرف العبد مكان الله يمكن أن يُعد من الكفر به؛ فالحق في الحياة مقدس في الإسلام، كما قلنا. لذا، لا يجوز المساس به إلا من طرفه تعالى، بما أن الله كما يعطي الحياة لخلقه، هو الوحيد الذي يقبضها؛ فهل يقبض الأرواح غير الله؟ متى كان قتل الناس باسم العدل والله، وهو أعدل الناس، ترك لهم إلى آخر رمق فيهم حق التوبة والإنابة للتكفير عن ذنوبهم، بما فيها أبشعها وأعظمها شناعة؟

لا حق للعبد أن يحاكي خالقه فيقبص عوضه أنفس الناس، وإن أسرفوا، وإن أفسدوا؛ فهل يعفو الله ولا يعفو العبد؟ وهل يترك الله الباب متوحا للتوبة ويغلقه عبده باسم حقه في القصاص والانتقام؟

نعم، لم يمنع الله قط عبده من المطالبة بحقه في الثأر زمن كانت السن بالسن، والعين بالعين؛ لكن هل الجروحات قصاص في كل وقت وزمان؟ هل ملك اليمين لهذا الزمن أو قطع اليد؟

إننا بإبقاء عقوبة الإعدام بمنظومتنا القضائية، حتى وإن لم نعمل بها، لنفعل فعل ذلك المتكبر الكافر بالله الذي قال لنبي الله : « أنا أحي وأميت »؛ فهل نتطاول نحن مثله على الله، وهو وحده الذي يحي ويميت، فنتمادى في عوارنا وجهلنا أن عقوبة الإعدام هي من أخص خصائص الله تعالى؟

إن الحياة مقدّسة، فلا يجوز المساس بحق الحياة لأي سبب، وإلا تجاوز العبد حدّه وتطاول على خالقه، خاصة وقد تغيرت الأذهان وعاد حق القصاص إلى الله لتغيّر حالة المجتمع وعقليته، فأصبح منع عقوبة الإعدام المؤشر الكبار على نمو هذه الذهنية وأخذ العبد بأسباب الحضارة والديمقراطية مع التعلق بروحانيته.

الإسلام إن أقرّ القصاص، فذلك كان من باب إحكام حكمته بالتدرج في الأحكام، إذ لا يفتأ يدعوالمسلم إلى التسليم لله وحده في كل ما يهمه من أمور، خاصة تلك التي تتعلق بأخص خاصياته؛ ولا شك أن من أعظم نزعاته الأخذ بالثأر وحق الدم.

لقد دعا الله إلى العفو، لا للتغاضي عما يقترفه العبد من ذنب لعله يعظم فلا يستحق الشفقة في فضاعته، وإنما لترك الباب مفتوحا على مصراعيه لهذا المذنب في حق غيره وفي حق نفسه أيضا. فله دوما العودة لله والتكفير عما اقترفته يداه والعمل على إصلاح ما أفسد في الناس وما فسد في طبعه. هذه فلسفة الإسلام وروحه السنية : عمل بلا هوادة لتزكية النفس، طالما فيها رمق، إذ لا يقبض الروح إلا خالقها.

الإسلام دعوة مغفرة ورحمة أساسا، وهما لب لبابه، فكيف نتسمك بحرف من نصه جاء متناغما مع متطلبات عصر طغت فيه نزعة القصاص ونترك روح الدين السنية وهي تمجّد الله الغفور الرحيم؟

الإسلام سلام، وأعظم ما يمثّله هو الأخذ بما يدعو الله إليه من ترك القصاص له وحده ممن يسيء إلينا، حتى وإن أمعن في ذلك وأسرف؛ هذا خاصة في عصر أصبحت فيه عقوبة الإعدام من أبشع مظاهر توحش الدول، حيث هي أبدا السلاح الفتاك بين أيدي المتغطرسين من الحكام.

حالات الإعدام في الإسلام

نعم، هناك نصوص صريحة تقر عقوبة الإعدام، ولكن النص لا يلغي روحه التي هي أوكد احتراما من حرفه. فما هي روح الإسلام بخصوص عقوبة الإعدام؟

إنها روح العدل والإنصاف والتسامح. ولعل أكبر الدليل على ذلك دعوة الإسلام الصريحة والمؤكدة إلى درء الحدود بالشبهات. يتبين ذلك في الشروط العديدة التي يفرضها الإسلام لإقامة حد الإعدام. فهذه العقوبة تنتفي لمجرد وجود أدنى شك أو لانتفاء أقل عنصر من عناصر تأكد الجريمة.

إضافة إلى ذلك، يترك الله دوما الباب مفتوحا للصفح والمغفرة، سواء كان ذلك من طرف العبد، إذا كانت الجريمة اعتداء على الأشخاص، أو من لدنه، إذا تعلق الأمر بعلاقة الإنسان بخالقه.

ولئن عددنا الحالات التي أقر الله فيها عقوبة الإعدام، لرأينا مدى إمكانية انتفاء القول بضرورة تطبيقها باسم النص القرآني حرفيا لأن روح هذا النص نفسه تدعو إلى عدم تطبيقه، بل تسمح برفع عقوبة الإعدام تماما.

            *الحالة الأولى : قاتل العمد

هذه أول حالة متفق عليها من الحالات المستوجبة لحكم الإعدام. مع العلم أنه من المتفق عليه أيضا هو انعدام أية شبهة في وقوع مثل هذه الجريمة، لأن مجرد الشبهة هي ظلم في ديننا.

القتل العمد من منظور إسلامي هو قتل النفس بدون أي موجب أو سبب معيّن؛ فهو شرعا القتل بغير أدني مبرر. وبما أن القتل عموما له أسباب ومسببات، فهو مما يدرؤ بالشبهات. ومما يؤكد ذلك الباب العريض المفتوح أمام أهل القتيل للصفح والعفو. بل إن الله ليحث على ذلك، معتبرا أن الصفح والعفو هما الأصل في علاقة المسلم بأخيه المسلم. ولا غرو أن تلك هي سماحة الإسلام!

لنأخذ مثلا على ما لهذه السماحة من أهمية في ديننا : إذا صدر حكم بالإعدام على قاتل ثبتت إدانته ثم اعترض أهل المقتول على هذا الحكم وعفوا على القاتل، فإن العفو هو الذي ينفذ لا حكم الإعدام! أليس هذا من أكبر الأدلة على تعلق الإسلام بالإصلاح والمغفرة لتحقيق العدالة، سواء أكانت بمجتمع البشر أو بالدار الآخرة؟

            * الحالة الثانية : الزاني المحصن

الحالة الثانية التي ورد فيها حكم الإعدام في الإسلام تتعلق بالزاني المحصن. هنا أيضا نرى الإسلام يشدد في ضرورة تحقق الزنا نظرا لشدة العقاب؛ بل إن التشدد في البرهان والأدلة ليبيّن أن روح النص هي الدعوة للعفو والتسامح لا للعقاب والإنتقام.

إن العدالة كما ارتآها الإسلام تقتضي هنا أن يكون الزنا بثبوت ولوج ذكر الزاني بفرج الزانية. فليس المعني هنا مجرد الجماع أو المباشرة أو احتكاك الجسد بالجسد. هذا، وتكون الشهادة على ذلك من طرف أربعة شهود عدول.

لا ضرورة طبعا هنا للتذكير أن عدالة الشهود تقتضي نزاهتهم التامة، إذ يكفي أن تنتفي إحدى شروط عدالة الشاهد وضوابطها حتى يمنع على القاضي إصدار حكم الإعدام، بل ويتوجب عليه مقاضاة الشاهد لأجل القذف.

ثم هذه الحالة مما يتوجب الاجتهاد فيه، إذ كان الإسلام سبّاقا في عصر لم تكن تُحترم فيه الذات البشرية للتحديد من اللجوء إليها؛ فما بالك اليوم ولم تعد العلاقات الجنسية خارج الزواج بالخطورة التي كانت عليها في زمن لم يعرف وسائل منع الحمل مثلا.

            * الحالة الثالثة : الحارب

الحارب هو الممتهن الحرابة، وهي الإعتداء على الناس بقطع الطريق والقتل من أجل السلب والنهب. لخطورة هذه الجريمة التي تعني انعدام الأمن، فقد أوجب الله أبشع حكم إعدام، ألا وهو قطع الأيدي والأرجل من خلاف والصلب. ولا شك أن هذه البشاعة هي بقدر بشاعة عمل متعاطيها.

إلا أن الذي لا شك فيه هو أن هذه العقوبة كسابقاتها تنتفي بوجود مجرد الشبهة. بل وتقتضي أيضا أن يكون قاطع الطريق حقا من المفسدين في الأرض، امتهن قطع الطريق؛ فهو لا يتعاطى ذلك لمرة أو لسبب ما، كما نرى اليوم في بعض الإعتصامات، فهذا لا يمكن أن يعد من الحرابة بحال. إن عقوبة الإعدام هنا هي لمن امتهن الجريمة المنظمة في القتل والسلب والنهب، ولم يتعاطاها لسبب من الأسباب غير الإفساد في الأرض وإرهاب السابلة وإزهاق الأرواح الآمنة.

عقوبة الإعدام في الإسلام غير مطلقة

تلك هي الحالات الموجبة للإعدام في الإسلام بحرف النص الذي يقتضي استيفاء شروط عدة؛ أما بروحه، فهي تقتضي الركون إلى التسامح وإلى العدل الإلهي. ومنه، إذا لم نكتف بروح نص القرآن، أن نعتبر أحكامه بشروطها قد أقرت لتطبّق في مجتمع إسلامي كامل الأوصاف من جميع نواحيه الإجتماعية وخواصه البشرية. وطالما لم يبلغ هذا المجتمع تلك الصفات، فمن الحمق تطبيق نصوص أعدت لمجتمع أرقى درجة، لأنها في تلك الحالة تفقد كل ما فيها من عدالة إلاهية، فلا يبقي إلا ما يضر بالدين وينفي سماحته.

الإسلام نص وروح، فإذا تعرض النص لحكم، فربما روحه تقتضي خلاف ذلك الحكم، لأن ديننا السمح اهتم أولا وقبل كل شيء بطبيعة المجتمع الذي جاء لترتيبه وبواقع البشر الذي أراد الارتفاع به إلى حال أفضل. ولا شك أن طبيعة المجتمع اليوم وحال بلادنا تقتضيان تفعيل روح النص القرآني دون حرفه لانتفاء العديد من الأسباب التي اقتضت أن يأتي النص القرآني بحكم الإعدام رغم أن روحه حدّت من تطبيقه بصفة شبه كلية.

لقد ضبط الله مقاصد للشرع خمسة من أهمها، بعد حفظ الدين، حفظ النفس. وما حفظ النفس إلا منع إزهاق الروح والعمل على تطبيق منع عقوبة الإعدام بين البشر.

إن العدالة الإلاهية أعلى وأكبر من عدالة البشر، وهي وإن كانت نسبية في الحياة الدنيا، فهي مطلقة في الآخرة، والأفضل للبشر الأخذ بالمثال الإلهي في توخّي العدالة في دنياهم وترك العقاب إلى عدالة الله المطلقة في الآخرة.

لهذا، لا مانع البتة من المنظور الإسلامي إقرار منع عقوبة الإعدام والكف عن مداومة التشبث بعقوبة نبذتها كل الشعوب المتحضرة؛ فالإسلام حضارة !

من أروقة الموت إلى أروقة الروحانيات

لا شك أن العديد من الناس في بلاد الإسلام يمانعون في رفع عقوبة الإعدام رغم أن إبطالها من المؤشرات على التطور الديمقراطي، وذلك لاعتقادهم أن هذا يخالف الدين الإسلامي وأخلاقياته. وهو من الخطأ الفاحش لأنه يجعل من دين الرحمة الذي هو إسلامنا دين النقمة وطغيان العقاب على التوبة والغفران.

فلا شك أن الإسلام جاء رحمة للناس ودعا إليها؛ لذا، حدّد كما رأينا الحالات التي تقتضي عقوبة الإعدام تحديدا متشددا، داعيا دوما إلى العفو والمغفرة لأصحاب الحق في القصاص. وبديهي أن النزعة الأساسية في دين الإسلام هي الدعوة إلى العفو والمغفرة رغم تأكيده على القصاص وحق الأخذ به. فذلك من باب تأقلم ديننا مع طباع البشر وما كان عاديا في المجتمع الذي ظهر فيه، حيث كانت قاعدة السن بالسن وحق القصاص لا محيد عنهما في ذلك الزمان.

ورغم أن العصر كان عصر ظلمة من حيث قيم المحبة والرحمة، فلقد جاء الإسلام داعيا إليها، حاثا على الإتيان بها دون تردد، مثيبا عليها، مؤكدا على الجزاء العظيم الذي ينجر لمن يرحم فيعفو ويتنازل عن حقه في الثأر.

ذلك لأن انتهاج سبيل العفو هو من الجهاد الأكبر الذي يدعو له الإسلام، أي جهاد النفس الأمّارة بالسوء؛ وأي مجاهدة أعتى من مجاهدة النفس ونوازعها، خاصة تلك التي تدفع بنا للانتقام ممن أساء إلينا عوض محاولة ترويضها على قبول الإساءة والرد عليها بالحسنة؟ وأي حسنة أكبر من العفو عمن أتى بالإساءة العظمى، ألا وهي قتل النفس؟ بل لعلها أفضل ما يأتيه الإنسان في محاولة العمل بما يدعوه إليه الله من التشبّه به في العفو والمغفرة عند المقدرة ونبذ كل ما فيه من نوازع تأخذ به بعيدا كل البعد عن العواطف النبيلة والأحاسيس الطيّبة.

هل هناك أعظم من العفو على الظالم من طرف المظلوم صاحب الحق في القصاص؟ وهل هناك من هذا المظلوم أكبر دليل على استحقاقه الثواب الجزيل لصفاء نفسه وتعاليه على كل ما اختصت به النفس البشرية من وضاعة بتصرّفه كما علّمه ربه، أي بالتدليل على أنه يتمرّن بحق على أن يكون رحمانا رحيما كخالقه؟

لا شك أن مثل هذا التصرف من المؤمن، الذي يتنازل عن حقه في الانتقام لأجل التمسك أكثر وأشد بقيم دينه، لهو الشهادة منه على تشبّعه بأخلاقية الإسلام العالية وسماحة حكمته ونبل تصريفه لعلاقة البشر بعضهم ببعض.

هذا من ناحية المظلوم؛ أما من ناحية الظالم لنفسه ولغيره، فالعفو من شأنه أن يهز فيه هزة تجعل ضميره يستيقظ من غفلته ويفيق من غفوته، فيعترف بفظاعة ذنبه ويتوب إلى ربه ويعتذر إلى من أذنب في حقه وأساء إليه. أليس العفو هنا مظنة لإعادة المذنب إلى حضيرة الإسلام التي تركها بفعله الشنيع والتي لا فرصة له ولا حــظ في العودة إليها بدون البقاء على قيد الحياة للتوبة؛ وبابها على الدوام لا يغلق في ديننا؟

طبعا، لعله لا يتوب ويمضي على عنجهيته؛ لكن، هل نسارع في قتله وتنفيذ القصاص فيه فنُسدي إليه هكذا خير خدمة بأن نمكّنه من الفرار من وخز الضمير، وهو بحق من عذاب الجحيم عندما يستيقظ؟ فما من شك أن الموت أهون من عذاب الضمير الحي!

لا شك أيضا أن مثل هذا العذاب يكون أشد وقعا على المذنب إذا عملنا على إفاقة السريرة النائمة فيه وإحياء الذمة الميّتة عنده بمساعدته على رياضة النفس والعمل على تزكيتها بالعودة إلى ديننا الحنيف وتعاليمه.

فنحن إن ندعو إلى منع عقوبة الإعدام ببلاد الإسلام نهدف في نفس الوقت إلى أن تنقلب أروقة الموت، التي ينتظر فيها المحكوم عليهم بالإعدام الخلاص من عذاب الانتظار أو ربما استفاقة الشعور، إلى أروقة للروحانيات تتكفل الدولة فيها بإعطاء المحكوم عليهم بالسجن المؤبد الغذاء الروحي الذي ينقصهم وكان سببا في ما أقدموا عليه، وذلك مما من شأنه أن يعود بهم إلى ظلال إسلامنا الوارفة وروحانيته النبيلة.

هكذا نعمل بما أوصانا به ديننا من الحث على الحسنى والتشجيع على انتهاج محجة الدين القيم بالاغتراف من منابعه التي لا تفنى. وأن يكون ذلك مع من فقد كل شيء في الدنيا بعمله الشنيع لهو من الجهاد في سبيل الله، إذ نسهر بهذا على ألا يفقد إمكانية التوبة، أي أفضل ما من شأنه أن يعيد له الاعتبار باسترجاع إنسانيته.

بهذا، يستحق عفو من أساء إليه وعفو ربّه؛ وفي نفس الوقت، يصير من جديد آدميا؛ كل ذلك بفضل ديننا، دين الرحمة والغفران. وبهذه الصفة، بفضل منعنا لعقوبة الإعدام، نكون في مصاف الدول المتحضرة التي تحجرّ مثل هذه العقوبة ونبيّن في الآن نفسه أننا أوفياء لديننا في دعوته إلى مكارم الأخلاق والعمل دوما على ابتغاء المعروف والحسنى على الدوام.

فهل أفضل من ذلك للتدليل على أننا نعمل لتلك الغاية سواء بالعفو والمغفرة عندما نُظلم، مع قدرتنا على استيفاء حقنا، وبمجاهدة النفس أو المساعدة على ذلك لإحياء الضمير والمرور من وخزه إلى تزكية النفس بالعودة إلى السبيل القويم، سبيل الحنيفية المسلمة؟

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.