الرئيسية » 21 – لا تحريم للردة في الإسلام

21 – لا تحريم للردة في الإسلام

رمضانيات

 

يوميات رمضانية

يكتبها فرحات عثمان

نبين في هذا الطرح ماهية الاعتقاد في الإسلام مؤكدين على حريته في الإسلام الصحيح، إذ لا تحريم ولا تجريم للردة في دين القيّمة خلافا لما يُشاع.

فقد وضّحنا سابقا مفهوم الإيمان في الإسلام، وقلنا أن له منزلة خاصة تعلو مرتبة الإسلام المجرد لصفة الإسلام كخاتم للأديان. فالمسلم من أسلم وربما لم يؤمن تمام الإيمان، بينما المؤمن من أسلم وآمن. وقلنا أن الإسلام المعني هنا هو الإسلام الثقافي أو التام، أي الإسلام الحنيفي؛ لذا فليس هو بالضرورة الإسلام كما عهدناه حسب شعائره المعروفة، بل هو الحنيفية المسلمة، وهي دين التوحيد الإبراهيمي.

فنضيف اليوم، بخصوص موضوع  الإيمان والإسلام، أن العقيدة الإسلامية مبنية أساسا على صدق الإيمان، لأن الإسلام دين يتوجه للعقل أولا وقبل كل شيء، أي لخير ما في الإنسان، إضافة لمشاعره وعواطفه.

ولا شك أن العواطف الصادقة النبيلة هي تلك التي تتوافق مع العقل ولا تنقضه أو ترفضه. وبما أن الإيمان ليس الإسلام فحسب في شعائره كما أبانها الجانب الديني للإسلام، بل هو أولا وقبل كل شيء التوحيد للخالق العلىّ لهذا الكون؛ لذا، فليس الإيمان مجرد احترام الشعائر، بل هو تمام النية الصادقة في توجه الإنسان بكل جوارحه نحو خالقه والتسليم له في كل أموره.

وطبعا، لا يكون هذا ضرورة بما اعتاد البشر عليه من عادات وطقوس، لأن علاقة الله بعبده في الإسلام علاقة مباشرة؛ فهي لا تقتضي بالضرورة الرسوم، لما في الرسوم من إمكانية المغالطة والنفاق بالمظاهر، بقدر ما تقتضي الباطن والسريرة فيكون بصفائهما صفاء العقيدة وحسن الإيمان وتمام الدين، كما أتى به رسولنا الأكرم؛ وقد جاء متمما لمكارم الأخلاق.

الاعتقاد وحريته في الإسلام

الإعتقاد في دين الإسلام هو التوحيد الحر المتحرر لله من رسوم معيّنة من شأنها الحد من هذه الحرية والفصل بين الله وعبده في علاقتهما المباشرة التي لا يجب أن يتوسطها أحد ولا أن يزدلف بين أطرافها أي مزدلف. فالإيمان هو الإسلام الحنيفي، أي تمام الإيمان، بينما الإسلام المجرد، كما يبدو خاصة من خلال الإسلام الشعائري، هو من الإيمان ولكن ليس كل الإيمان.

إن الإعتقاد في الإسلام إعتقاد عقلاني علمي، لا يُفرض على الإنسان فرضا ولا قهرا؛ بل الإنسان هو الذي يسعى إليه بنفسه إذا كملت فيه الذات البشرية، فعَلَت به إلى مصاف الإنسان الكامل الفكر، الناضج العقل، السليم النية والذهن.

نعم، هناك من يشكك في هذا ويرومون التأكيد على انعدام حرية العقيدة في الإسلام بذكر ما يُسمّى آية أو آيات السيف في سورة التوبة،  ذُكر فيها القتال وحُث عليه في سياق الحديث عن الحرب.

وهذه هي الايات  : 1 – (برَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ)، 29 – (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)، 36 – (وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)، 41 – (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا)،

إن تلك الآيات وردت في نطاق معيّن ولا يُمكن إخراجها من منطوقها ولا تعميمها؛ ثم هي تتحدث بمنطق زمن كانت القاعدة فيه هي الحرب لا السلام. ورغم ذلك لم يُأخذ بهذه القاعدة إلا في حدود معينة كما سنبينه، مما يؤكد على سلمية ديننا لا نزوعه إلى المشاكسة والعنف.

ثم إن كانت آية أو آيات السيف تُبيح أو تدعو للقتال، فذلك من باب الدفاع عن النفس لا الاعتداء والانتقام؛ إذ علينا ألا ننسى أن الحرب كانت قائمة بين أهل المدينة المسلمين وأهل مكة، وجاءت هذه الآيات إثر جولة من جولات هذه الحرب كانت الغلبة فيها للمسلمين فأقرّوا بها تغلبهم مما أدى إلى فرض حكمهم؛ ولا شك أن الحروب تنتهي هكذا. مع الإشارة هنا أننا لم نر مع ذلك، خلافا لما كان معتادا في ذلك الزمان وفي أزمنة لاحقة، حملات انتقامية وإهدار للدماء من باب غريزة الإنتقام والتنكيل.

إن الإسلام لصريح في هذا الباب، إذ هو إذ أقر القتال والجهاد، لم يفعله إلا لمقتضيات واضحة وفي حدود لا يمكن تجاهل جدّتها وثوريتها على عقلية ذلك الزمان لأخذها بمباديء إنسانية لن تفرض نفسها في عالمنا البشري إلا بعد أمد طويل.

ولا بد هنا من التذكير بما قلناه، أي أن الجهاد في الإسلام جهادان، فهناك الأكبر والأصغر؛ وهذا الثاني، تماما كالهجرة، انتهي بانتشار الإسلام وتوطده. أما الأول والأهم، أي جهاد النفس ومصارعة نوازعها التي لا تهدأ، فذلك ما لا ينتهي. وقد كنا تحدثتا باستفاضة في الغرض.

هناك أيضا من يذكّر بما تواترت به الأخبار عن الرسول في عدم إمكانية الجمع بين دينين بالجزيزة العربية، مما حدا بالخليفة الراشد الثاني إلى تهجير من لم يكن مسلما من أهل الكتاب عن الجزيرة.

للرد على هذا، لنذكّر أولا أنه كان من باب تزامن الدين في صفته الدنيوية مع مقتضيات العصر وقواعده السياسية، وقد ظل العالم يعمل بها إلى عهد قريب كما رأينا ذلك في الأندلس عند سقوط غرناطة عندما أخرج المسيحيون من جزيرتهم كل من لم يعتنق دينهم.

لا شك أن هذا الجانب الدنيوي السياسي مما ولى وانقضى، فليس هو من قواعد الدين البتة، بل هو لزوما مما يزول بمقتضى أصول الدين الأزلية نفسها، ولا حاجة إلى ضرورة تبيان أو تدليل لبديهية المسألة، وإلا أخللنا على الأقل بقاعدة أساسية من الإسلام ألا وهي كونيته.

ولنا أن نبيّن، بعد هذا، أن حال الأسلام عند موت الرسول لم يكن من التمكن والتمتن ما يمكنه من تطبيق كل تعاليمه الثورية، ومنها طبعا كونيته، خاصة وأنها من التعاليم الجديدة التي لم يكن للناس بها دراية. لذا، كان من الضروري والطبيعي أن يحافظ أولا على كيانه حسب أحوال الزمان والمكان حتى يتمكن لاحقا من تطبيق أحكامه الثورية؛ وليس أبعد حكمة من هذا التوجه.

فلا مجال لانتقاد الإسلام لعملٍ موافقٍ لأخلاقيات الزمان وإلا كان ذلك من منطلق أخلاقيات اليوم ومفاهيمه، وهو من الإسقاطات المستهجنة التي لا يسمح بها لا المنطق ولا النزاهة التاريخية. إن  من لا يعرف دينه على حقيقته أو تجاهل روحه وكنهه – وهو طبعا أن الإسلام أولا وقبل كل شيء سلام -، يقف عند زمن من أزمنة الإسلام فلا يحيد عنه؛ فترى الإسلام دوما في محطة البداية، وكأنه وليد يومه أو قاصرا لمّا يبلغ بعد، فيتعامل معه معاملة غير البالغ، بينما هو الراشد تمام الرشد، بل المحنك الحكيم.

لا يمكننا اليوم التعاطي مع ديننا، وهو القوي العظيم، إلا بأمانة وصدق؛ فليس هو بالضعيف، كأنه من قوارير، نخاف عليه كما يخاف صاحب البيت من البلور أن يتهشم بيته لأقل شيء، وقد صمد على مر الزمان لما هو أعتى وأنكى. بل إن أخشي ما يُخشى على إسلامنا اليوم هو الإساءة إليه بتصرفنا معه قياسا على تصرفات من سبقنا من يهود ونصارى، الذين حرفوا دينهم أو عرّوه من ميزاته وجعلوا منه لباسا لكهنة وأحبار وقساوسة ورهبان كان همّهم الرياسة وفرض تصوراتهم للدين والدنيا لا التسليم لله بما جاء به من رسالة محبة وصفاء وسلام.

إن حرية الاعتقاد في الإسلام ثابتة مضمونة بصريح النص الشرعي. فالإسلام يضمن حرية الإنسان في الاعتقاد، إذ له حرية اعتناق الإسلام أو عدم اعتناقه؛ فإن أعرض، فلا حق لأحد أن يمنعه من ذلك أو أن يجبره على الإسلام، بما أن الرسول نفسه مُنع من أن يأتي ذلك بصريح النص.

لندلل على هذه الحرية الثابتة بما يلي من آيات من محكم الكتاب، ولنا عودة في نهاية الطرح لاستيفاء القول في الغرض:

يقول الله مثلا مخاطبا رسوله الأكرم في ما عدّت عند بعضهم إحدى سور القرآن الطول السبع : « وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ » (سورة يونس، الآية 99).

ويقول تعالى : « إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا » (سورة الإنسان، الآية 3).

وقال أيضا، مؤكدا أن ليس لأحد ارغام الناس على الإسلام : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ » (سورة الشورى، الآية 48).

وقد أكد الله ذلك، مبيّنا أن له وحده الحد والعقاب في هذا الموضوع الذي يبقى من خاص خاصياته : « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ » (سورة الغاشية، الآيات 22- 26).

ولعل الآية الموالية هي من أوضح ما جاء في القرآن بخصوص تمام حرية الإنسان في الاعتقاد : « وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ » (سورة الكهف، الآية 29).

ولا شك أن هذه الآية موازية في قوة الحجة والبرهان لما جاء في البقرة التي هي في هذا الأمر كالعلم الذي على رأسه النار « لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ » (سورة البقرة، الآية 256.).

نعم، لقد قلل الفقهاء من قوة الحرية وقيمتها في ما يخص مشيئة البشر بأن قالوا مثلا في تأويل الآية السابقة أن ذلك من باب التهديد والوعيد كما قاله ابن كثير في تفسير قوله تعالى : «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» : « هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ؛ ولهذا قال : (إِنَّا أَعْتَدْنَا) أي : أرْصَدْنا (لِلظَّالِمِينَ) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) أي سُورها.»

مع ذلك، هذا لا يمنع من ضرورة ملاحظة انعدام وجود عقوبة دنيوية للردة على الرغم من تعدد الآيات التي تشنّع بها أو تحذّر من الوقوع فيها مع التأكيد على العقوبة المعنوية الأخروية. ثم، لمّا نتذكر أن النصوص التي تفصّل العقوبات الحسية الدنيوية عديدة بخصوص الجرائم المتعلقة بحياة الفرد أو الأسرة أو المجتمع، نفهم مدى تحرر الإسلام في موضوع حق الردة المسموح به في القرآن كما سيتضح لنا في ما يلي من فقرات.

ولمزيد الاعتبار، لنذكر الآيات 22 إلى 26 من سورة الغاشية، مع العلم أن عدد الآيات التي تذكر حرّية المعتقد يصل إلى المائتين (200): «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ، إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ».

في ماهية الردة

حرية الاعتقاد إذن مضمونة في الإسلام، أي لا إكراه في اعتناق الإسلام ابتداءً؛ فهذه الحرية لا شك فيها ولا اختلاف، بل ولا حدود لها، إذ هي حرية مطلقة، وإلا لما كانت بحق حرية اعتناق.

رغم هذا، يستشهد بعضهم بالآية 19 من سورة آل عمران (إن الدين عند الله الإسلام) و الآية 85 من نفس السورة (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) ليقلل من قيمة هذه الحرية في الاعتقاد بالقول أنها لا تخص إلا الإسلام. ولا شك أن هذا من التعسف في شرح معنى الإسلام الذي هو أولا وقبل كل شيء التسليم لله والتوحيد له، ولا ضرورة الإسلام الشعائري. فالإسلام هنا بمعنى الحنيفية المسلمة أي الإيمان، بمعنى أوسع كما سبق أن بينا.

نعم، لنا أن نتساءل هل هذه الحرية بحق تامة في فرعيها، أي في اعتناق الإسلام والارتداد عنه. نقول : إن الحرية في فعل شيء تقتضي، إضافة إلى إمكانية الفعل، إمكانية الترك، أي إمكانية نقض الفعل والتنصل منه لاحقا؛ وإلا لما عدّت حرية تامة. وبما أن الإسلام أقرّ هذه الحرية، فليس بالإمكان القول بأنه أقرها ناقصة، لذا فهو يقر إمكانية الارتداد عن اعتناق الإسلام كما يقر حرية اعتناقه. وسنأتي بالدليل القرآني القطعي بعد أن نبيّن الدليل على المستوى البرهاني المحض.

الردة لغة هي الرجوع عن الشيء إلى غيره. جاء في لسان العرب : «وقد ارتد وارتد عنه : تحوّل؛ وفي التنزيل : من يرتدد منكم عن دينه. والاسم : الردة، ومنه : الردة عن الإسلام أي الرجوع عنه، وارتد فلان عن دينه إذا كفر بعد إسلامه؛ ورد عليه الشيء إذا لم يقبله. وكذلك إذا خطأه وتقول رده إلى منزله. ورد إليه جوابا أي رجع».

والمعروف عموما أن الردة هي حال الذي يعتنق الإسلام ثم ينتقل عنه إلى اعتقاد آخر؛ وهذا هو المفهوم الفقهي كما سنبينه. وهو لا يبعد عن المعنى اللغوي الذي يقتضي الرجوع والتحول. والرجوع هو الانصراف عن الشيء ومن الشيء، ومن حال إلى حال؛ وقد جاء باللسان : « حال الرجل يحول، مثل تحوّل من موضع إلى موضع. الجوهري : حال إلى مكان آخر أي تحوّل، وحال الشيء نفسه يحول حولا بمعنيين : يكون تغيرا ويكون تحولا. وقال النابغة : ولا يحول عطاء اليوم دون غد أي لا يحول عطاء اليوم دون عطاء غد؛ وحال فلان عن العهد يحول حولا وحؤولا أي زال. وتحوّل تنقل من موضع إلى موضع آخر. والتحول التنقل من موضع إلى موضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى : خالدين فيها لا يبغون عنها حول».

إلا أن من معانى التحول أيضا : التحيّل؛ يقول ابن منظور : « ويقال تحوّل الرجل واحتال إذا طلب الحيلة. وتحوّل أيضا أي احتال من الحيلة ». ومن معانيه أيضا الافساد، كما بين ذلك اللسان : « ويقال أحلت الكلام أحيله إحالة إذا أفسدته ».

هكذا نرى ما في الردة من معاني تتكامل وهي تقتضي لغةً المرور من حالة إلى حالة ومن وضع إلى وضع بما في ذلك من اختلاف بين الحالين، سواء كان هذا المرور عن حسن نية أو عن سوء نية، أي بالاحتيال والإفساد. وهذا هو المعنى الذي عرفه المسلمون وأصبغوه على الردة، أي التحول من وضع اجتماعي وسياسي معيّن إلى وضع آخر مع إفساد النظام المعهود والاحتيال في قبوله حسب مبادئه، كأن يُقبل الدين بدون واجب الزكاة، حتى تنعدم أوصال الدولة بانعدام مواردها. وسنعود لهذا لاحقا، يكفينا الآن، لإصلاح الفهم الخاطيء للردة، التفطن للمعنى اللغوي لها القاضي بالتبديل للشيء الذي يُتحوّل عنه وبإفساده.

الفهم الخاطيء للردة

فما هو مفهوم الردة فقها؟ الردة في الشرع هي الرجوع عن الإسلام إلى الكفر وقطع الإسلام، ويحصل تارة بالقـول وتــارة بالفعـل وتـارة بالاعتقــاد. وقد  اتفقت المذاهب الأربعة على أن الكفر هو بالقول، أي عمل اللسان، والفعل، أي عمل الجوارح، والاعتقاد والشك، أي عمل القلب.

إن المرتد فقها هو الذي يكفر بعد إسلامه إما نطقاً وإما فعلاً وإما اعتقاداً؛ فمن قال الكُفر كَفَر وإن لم يعتقده ولم يعمل به إذا لم يكن مكرهاً، وكذلك إذا فَعَل الكفر كَفَر وإن لم يعتقده ولانطق به، وكذلك إذا شرح بالكفر صدره أي فتحه ووسّعه وإن لم ينطق بذلك ولم يعمل به.

الفقهاء، من الزاوية النظرية، يعتبرون إذن الردة في معناها اللغوي، أي كونها الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر؛ فتكون شرعا النية أو الفعل أو القول في ذلك المعنى. ويذهب البعض إلى الأخذ بمثل هذا القول حتى وإن لم يكن اعتقادا، فجاء مجرد استهزاء أو عناد. أما في الواقع، فهم يقولون بأنه لا ردّة إلا بقول ٍ مُكَفِّر أو فعل ٍ مُكَفِّر، كما ذكّر بذلك ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول : « فالمرتد: كل من أتى بعد الإسلام من القول أو العمل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه ».

طبعا هذا ليس بالغريب في الإسلام لأن أحكام الدنيا لا تجري إلا على الظاهر، فطبيعي أن يقرر الفقهاء أن لا حكم بالردة إلا بقول مكفِّر أو فعل مكفِّر، إذ هما مايظهر من الإنسان؛ أما الاعتقاد والشك فمحلهما القلب، ولا مؤاخذة بهما في الدنيا ما لم يظهرا في قول أو فعل.

مثال ذلك، في ما يخص أهل القبلة من زاوية أن أحكام الدنيا لا تجري إلا على الظاهر، ما جاء في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي عن الإمام الطحاوي : «ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى». وعلق شارح كتابه على ذلك «لأنـَّا قد أُمِرنا بالحكم بالظاهر، ونُهينا عن الظن وإتباع ما ليس لنا به علم».

ولم يكن ذلك إلا من باب التطبيق للسنة الصحيحة إذ الحكم على الناس بالظاهر من أصول الإسلام؛ فقد ثبت عن الرسول قوله : « إني لم أومر أن أنْقُب عن قلوب الناس ولا أشُق بطونهم ». لذا، فحسب الفقه الحالي، من كفر بقلبه، باعتقاد أو شك، ولم يظهره في قول أو فعل، لا يمكن الشك في أنه مسلم، ولو كان كافرا في الحقيقة عند الله؛ وأكثر ما يُمكن القول فيه أنه منافق مستسرّ بكفره. وقد أكد ذلك الإمام ابن القيم بقوله في إعلام الموقعين عن رب العالمين،: « ولم يرتب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول ».

في كل ما سبق، يقول الدكتور وهبة الزحيلي في مصنفه الفقه الإسلامي وأدلته، ملخصا مفهوم الردة الخاطيء المعمول به إلى الآن: « فإن المرتد هو الراجع عن دين الإسلام إلى الكفر؛ مثل من أنكر وجود الخالق، أو نفى الرسل، أو كذب رسولا، أو حلل حراما بالإجماع كالزنا واللواط، وشرب الخمر، والظلم، أو حرم حلالا بالإجماع؛ كالبيع والنكاح. أو نفى وجوبا مجمعا عليه؛ كنفي ركعة من الصلوات الخمس المفروضة… إلخ ».

أقول هذا المفهوم الحالي الخاطيء لأن الفقهاء القدامي، لإن تشددوا في تعريف الردة حتى أنهم أخذوا بمجرد الكلام الهازيء مع وضوح النية، فذلك ولا شك للخطورة التي وجدوها في مثل هذا التصرف لا على الدين ودوامه فقط، بل لصيرورة الأمة جمعاء، لأن الدين كان عمادها.

القول الصحيح إذن هو أن الردة فقها، علاوة على أنها ارتداد عن الدين، هي ولا شك إثارةً للفتن والبلبلة بتعكيرها للنظام العام في الدولة الإسلامية؛ فهي بمثابة العصيان الديني الموازي للعصيان المدني اليوم، أو هي كالإنقلاب العسكري أو الثورة الشعبية. كل هذا مفهوم معروف عند الفقهاء، لذا تشددوا في الحكم على المرتد أكثر من اشتداد القرآن نفسه في الموضوع؛ بما أن الله، كما بيّنته الآية 217 من سورة البقرة اللاحقة الذكر، لم ينص على عقوبة دنيوية للردة وإن ندّد بها.

ونحن نرى الفقهاء يعودون للنص القرآني عندما لا ينشر المرتد ردّته فتبقى بينه وبين نفسه، لا يطلع أحدا على ذلك. هنا، فنراهم يقرّون بأن لا مجال للتعرض بسوء لمن يُتّهم مثلا بالارتداد دون أن يأتي منه ما يدل على ذلك.

وكما سبق القول، هذا منطقي وطبيعي في الإسلام لأن الله وحده هو المطلع على ما تخفي الصدور، ولا حكم بالظنة في ديننا. إلا أنه لا شك أن السبب الآخر والأهم، بل الحقيقي والوحيد في نظر الفقهاء، هو أن الأمة لا تتعرض لأي خطر بسبب مثل هذه الردة الغير معلنة أو المسالمة، حتى وإن كانت من الخداع، فتعود هنا إلى الأصل في الإسلام وهو حرية العقيدة بترك موضوع البت في تلك الردة لله وحده.

الفرق بين الردة والتبديل

إن المعنى الفقهي المعروف للردة كما بيّنا هو في الحقيقة معنى التبديل كما ألمحنا إليه سالفا عند حديثنا عن معاني الردة لغة وكما نبينه في ما يلي بقولنا إن الردة هي تبديل الدين.

لنسارع هنا بالقول أن المسلمين فهموا الردة بسائر معانيها اللغوية وخاصة تلك التي تقتضي لا التغيير فقط، بل وأيضا التبديل بما فيه إفساد وتحيّل وسوء نية.

الردة إذن ليست فقط في تبديل العقيدة أو الخروج منها على مستوى الفرد، بل هي أولا وقبل كل شيء في محاولة تبديل العقيدة بالإضرار بها، سواء كان ذلك بالمس بأس من أسسها أو بالعمل على التشكيك فيها أو التحريض على العصيان وكسر عصا الطاعة للنظام القائم.

بهذا المعنى الصحيح نخرج من عنق الزجاجة الذي وضع الفقهاء المعاصرون أنفسهم فيها بالتناقض الصارخ بين القول بحرية الاعتقاد في الإسلام وتجريم الردة بمعنى الخروج من الدين سواء كان ذلك لدين آخر أو لأجل الإلحاد.فالمجامع الفقهية اليوم تصدر الفتاوى في الردة، بمعناها الفقهي القاضي بالحد والعقاب الدنيوي، قائلة مع ذلك بعدم مخالفتها للحرية الدينية، مع أنها تطبقها على المعتقدات الشخصية السلمية لا الحركات السياسية المناهضة للنظام، المشوّشة للسلم الاجتماعية.

مثال ذلك، في الفتاوى المصرية، نرى هذه العبارة، التي لا معنى لها منطقيا، تتكرر عند الحكم بقتل المرتد حدا : «يقضي الحكم الشرعي بقتل المسلم الذي بدل دينه إذا أصر على ردته ولم يتب ولم يرجع إلى الإسلام متبرئا مما فعل، وهذا لا يتنافى مع الحرية الشخصية ».

لا شك أن إقرار معنى التبديل بما فيه من تعدٍّ على مقومات الدين من تحريف نص أو تزويره وإفساد معنى أو تشويهه، من شأنه ألا يمس بالمبدأ الذي أقررناه من أن في الإسلام الحرية المطلقة في اختيار العقيدة، وأن هذه الحرية لا تقف عند اعتناق الإسلام، بل تبقى سائرة المفعول حتى في تركه بالارتداد عنه إذا عنّ ذلك لصاحبه. فالحرية إما أن تكون تامة وإلا فليست بحرية !

ففي التبديل يكون العبث بالدين والسعي لتمزيق وحدة الأمة بالإخلال بالنظام العام والمس بمقوماته. وهذا لا يطال العقيدة، وإنما يمس بالأمن العمومي ويقتضي اليوم أعمالا تخريبية لا أقوالا كما كان الحال في الماضي.

ومن الضروري هنا أن نتذكر ما كان للكلام، وللشعر خاصة، من وقع على الحياة اليومية في المجتمع العربي القبلي، حتى قيل أن وقع الكلام لهو أشد أحيانا من حد السيف المهند ! ذلك لأن تلك الفترة الزمنية لم تكن تعرف حرية الرأي ولا ضرورة الفكر الحر؛ أما اليوم فلا يكفي للرأي وحده للإخلال بالنظام، على الأقل في النظم الديمقراطية.

ومما يؤكد ضرورة اقتران الارتداد بحالة الحرب وانعدام الأمن هو أن الرسول لم يتردد عند صلح الحديبية في إمضاء بند يقضي بأنه لا يجب على المؤمنين استرجاع من يرتد من المسلمين إلى مكة لأجل إقامة حد الردة عليه، وهو البند التالي : « من جاء محمدا من قريش يرده عليهم ، ومن جاء قريشا من المسلمين لا ترده إليهم»؛ وهذا يبيّن بلا أدنى شك أن الارتداد هنا لا عقوبة له بما أنه لا يثير حربا.

الردة هي تبديل الدين

الردة، كما عاشها العرب، لم تكن الخروج عن الدين أو البقاء فيه، بل كانت الخروج عن النظام؛ أما ما سماه الفقهاء بعد ذلك بالردة، فليس إلا تبديلا للدين وثورة على القائمين به، وهو دستور البلاد،كما نفصّله بعد تعريف التبديل لغة.

يقول ابن منظور في لسانه : « تبديل الشيء تغييره وإن لم تأت ببدل. والأصل في التبديل تغيير الشيء عن حاله، والأصل في الإبدال جعل شيء مكان شيء آخر كإبدالك من الواو تاء في تالله والعرب. فالتبديل هو تغيير الصورة إلى صورة أخرى ».

إن التبديل في الدين هو ما اعتدنا تسميته ردّة، بينما لا ردة بمعناها القرآني إلا في الاعتقاد، وهو لا يخص إلا الله وعبده؛ أما التبديل، فهو يتعلق بالمس بالعقد الذي يربط بين المؤمن ومجتمعه المنتمي إليه، وذلك بالإخلال بالأمن العام وإفساده كما وقع بالجزيرة العربية بعد موت الرسول الكريم. فلا شك أن ما رأيناه في التاريخ العربي الإسلامي مما سُمي ردة لم يكن سوى محاولة لتبديل نظام قائم، أي محاولة الانقلاب عليه.

أما تاريخيا، فالردة هي ما عاشه الإسلام الأول. ولعل ما قاله الإمام ابن القيم من أن « المرتد يقتل سياسة لا حدًّا، وهي مسألة سياسية قُصِد بها حياطة المسلمين » يبيّن حقيقة الردة بمعنى التبديل في التاريخ الإسلامي. وليس ذلك بالمستغرب لأن الردة لم تكن قط مجرد الرجوع أو الخروج عن الدين الذي نفهمه اليوم، أي مجرد قناعة شخصية؛ وكيف يكون ذلك وقد أكد الإسلام حرية الفكر والاعتقاد؟

لقد كانت الردة في التاريخ العربي الإسلامي تبديلا للدين، لذلك استوجبت العقاب الذي قررته السنة، إذ الرسول الأكرم تحدث عن تبديل الدين لا عن مجرد الردة كما وقع في القرآن. فالرسول يقول : «من بدل دينه فاقتلوه» كما ورد في صحيح البخاري.

إن التبديل في الدين، أي النظام الذي يدين له المجتمع، من أعظم الجرائم في كل المجتمعات، فليس هذا مما يخص الإسلام فحسب. ذلك أن الهرطقة في ذلك الزمان هي من التبديل، كما كانت منه كل مخالفة للمألوف في المجال العقائدي مما ليس فيه فقط بدعة أو شذوذ، بل وأيضا العمل على إشاعة المخالفة للأصل.

لهذا رأينا كل الديانات، سواء كانت كتابية أم لا، تحرص على المحافظة على دينها من كل تبديل حتى لا يقع تشويهه. وليس من الضروري التذكير كيف رفضت اليهودية دين المسيح إذ اعتبرته تبديلا لدين موسي؛ وكان الحال نفسه في بداية الإسلام إذ اعتبره البعض من المسيحيين هرطقة لديانتهم، متجاهلين ماهيته الحقة كدين جديد.

ما دعّم هذا التوجه هو أن المجتمعات في ذلك الزمان كانت مؤسسة على الدين الذي لم يكن مجرد عقيدة شخصية بل أساس نظام يرتكز عليه المجتمع بأسره. وكان هذا حال المجتمع القبلي العربي الذي جاء الإسلام لصهره في نطاق دولة عمادها الدين. فلعب الإسلام في الدولة الإسلامية الفتية الدور الذي يلعبه الدستور اليوم في مجتمعاتنا.

بهذا المعنى للتبديل يمكننا فهم موقف فقهاء الإسلام من الردة كتبديلٍ للدين، بل مسخٍ له، وتشددهم في الحكم عليها. فردة القبائل العربية كانت سياسية ولم تكن دينية. فلإن أجمع الفقه الإسلامي على قتل المرتد، لم يكن ذلك بالمرة على أساس نظرتنا اليوم لعملية الارتداد كنوع من ممارسة حرية العقيدة، وهو مما لم يكن معروفا بتاتا وقتئذ. لقد عاقب الفقهاء التبديل للدين، أي محاولة نسفه بانقلابٍ؛ والدليل على ذلك أن الردة كانت بالفعل حروبا، حيث كان الارتداد جماعيا، إذ أنكرت القبائل المرتدة علانية خضوعها لركن من أركان الإسلام ولحكم من أحكام النظام الاجتماعي للأمة، بل وهاجمت ممثلي النظام القائم. وتأكد ذلك بظهور أدعياء للنبوة كانت ثورتهم لا على الدين فقط، بل على الأمة كلها.

لا غرو أن ضرورة هذه النية المبيّتة للنيل من سلامة أمن البلاد من خلال المس بدينها واضحة عند الفقهاء بما أنهم طبّقوا الحديث الشريف الذي يربط بين التهديد الحاصل للدين وتداعياته على الأمة، لأن ذلك يتأتي من قوم لا من فرد، كما يتضح ذلك في كلام الرسول في قتل المرتد « التارك لدينه المفارق للجماعة ». ففراق الجماعة فقها، في ذلك الوقت، هو الانسلاخ من الكيان القبلي وإرادة الاضرار به، ونحن نعلم مدى قيمة القبيلة في تلك الأيام وذوبان الأفراد داخلها. لذا، كان ترك الدين مفارقة للجماعة، وكان ذلك من الخطورة ما أدى إلى إهدار دماء هؤلاء المفارقين قومهم، المقوّضين صرح قبيلتهم.

إضافة لقيمة الحياة الجماعية في ذلك الآن، علينا أيضا أن نتذكر أن مجرد مغادرة المدينة للتبدي والعودة إلى البادية لمن استقر بها كان مستهجنا بل مرفوضا غير مقبول. يقول الدكتور جواد علي في المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام : « وقد أبطل الإسلام كل سمة من سمات الجاهلية وعلامة من العلامات التي كانت تعد من صميم حياة الجاهليين. وفي جملتها المثل الأعرابية والحياة البدوية، فاعتبر الأعرابية بعد الإسلام ردة، ونهى عن الهجرة من المدن إلى البوادي، فكان الأعرابي إذا دخل الإسلام، لزم الحضارة، وكلف بواجب الجهاد في سبيل نشر الإسلام، لما في التبدي والأعرابية من ابتعاد عن الجماعة وترك للواجب الملقى على المواطن في الدفاع عن الإسلام وفي العمل على إنهاض المجتمع والإنتاج في سبيل الخير العام. لذلك لام الناس “أبا ذر الغفاري”، حين لجأ إلى “الربذة” فأقام بها وتعزب بذلك عن الجماعة »، كما ذكر ذلك تاج العروس في  مادة عزب.

حروب الردة في الإسلام

إن المأثور في التاريخ الإسلامي عن الردة أنها كانت رفض القبائل العربية بعد وفاة النبي دفع الزكاة لخليفته، ومن هنا كانت قولة أبي بكر المشهورة: « والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه للنبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ». وفي نفس الإتجاه، يمكن ذكر قوله أن حربه لمن يفرّق بين الصلاة والزكاة. لذا، يرى بعض المؤرخين أن نعت هذه الحروب بحروب الردة خطأ، إذ وجب تسميتها بحروب مانعي الزكاة.

ولا شك أننا بمفتاح التبديل نفهم هذا الجانب من تاريخية الردة وهي التبديل لا ما نعنيه اليوم من انتقال شخصي من دين إلى دين. ولعله من المفيد التذكير بما هو متعارف عليه من تعريف لحروب الردة في الإسلام. فقد وقع في الموسوعة العربية الميسرة في تعريف الردة : «رجوع قبائل العرب – فيما عدا قريش وثقيف – عن الإسلام عقب موت النبي. ومنهم من طالب بتخفيف الصلاة، أو بعدم أداء الزكاة. حاربهم أبو بكر حتى ردهم إلي الإسلام ».

إن ما عاب المسلمون على المرتدة هو إذن رفضهم للنظام السياسي الجديد كما جاء به الرسول، بينما لم يرفض أهل الردة الدين أساسا، بل تنصّلوا من زعامة من خلفه ورفضوا ضرورة الإذعان وخاصة في فرض الزكاة التي بدت لهم كالإتاوة تعبر عن خضوعم للمدينة بينما لم يرضوا بذلك إلا لشخص النبي.

فبينما رأى المرتدة أن علاقة الإذعان للرسول كانت سياسية، ولم تربطهم إلا بشخصه، كان رأي أبي بكر أن العلاقة أساسا دينية ربطتهم بنظام مما يجعل رفض الإذعان لهذا النظام خروجا عليه وتقويضا لصرحه. لم تكن إذن ضرورة الأخذ بالدين هي التي كانت وراء محاربة أبي بكر للمرتدة، بل الخوف من انهيار صرح الدولة التي بناها، خاصة وأنها لم تتمكن بعد من الاستقرار الكافي للسهو عن أمنها.

وهكذا، خلافا لعمر الذي كان ينظر لارتداد العرب نظرة دينية بحتة فلم يكن يحبذ الحرب، رأى أبو بكر الرأي السياسي الصائب للحفاظ لا على كيان الدين في الصدور، وإلا لفعل فعل عمر، وإنما كيان النظام الذي بناه والدولة التي أقرها. لم يحارب الخليفة الأول أساسا من نبذ الدين أو ارتد عن الإسلام، بل حارب من خالف النظام وسعى لتقويض صرحه ببث الفتنة وعدم الإذعان لحكام الدولة الفتية. ولا شك أنه لو لم يقم بتلك الحروب لما دامت دولة الإسلام بما أن رقعتها كانت في فترة تلك الحروب تكاد لا تتجاوز مكة والمدينة داخل الجزيرة العربية الثائرة.

ثم إننا رأينا أثناء هذه الحروب، خاصة مع خالد بن الوليد، ما بيّن صراحة أن الحرب استهدفت حتى بعض من لم يكن يُشك في بقائهم على الإسلام، كما كان الحال مع قوم مالك بن نويرة، وذلك لأن خروجهم عن النظام القائم كان كافيا لوحده للتشكيك في حسن نيتهم وسلامة عقيدتهم.

لقد عد بعض المؤرخين ذلك الحدث من أخطاء خالد التي عاقبه عليها عمر بعد موت أبي بكر، ولكن لم يكن ابن الوليد الوحيد في عدم الاكتراث بالدوام على الإسلام ومطالبة التدليل على البقاء على العهد السياسي. كل هذا يبين أن المهم في تلك الفترة العصيبة كانت ضرورةً النظام واستتاب الأمن لا الإيمان والذب عنه، لأن الإيمان مقامه أساسا داخل النفس.

حروب الردة عند الفقهاء

نفهم مما سبق أن الردة عند الفقهاء فُهمت بمعنى التبديل للدين كأساسٍ من أسس النظام ومقوّمٍ من مقوامات المجتمع، أي بالمعنى الذي عرفته الشعوب العربية الإسلامية. فلا ردة بدون تبديلٍ للدين في معناه الواسع في ذلك الوقت، أي النظام القائم.

ونحن نعلم أن دين الإسلام هو دين ودنيا، فهو عماد الارتكاز للدولة الإسلامية، إذ كان يمثل ما سماه عالم الإجتماع الشهير أميل ديركايم Emile Durkheim الاجتماع الرباني Le divin social.

يكفي أن نعود إلى ما صح عن النبي، أي قوله «من بدّل دينه فاقتلوه» لنتبين أن المعني بالحديث الشريف هو التبديل كما بيناه أعلاه لا مجرد الردة كما جاءت في القرآن. ومما يؤكد أن الردة الدينية هي التبديل ما جاء في سورة التوبة حول المنافقين الذين استهزؤا بالنبي وصحبه مرجعهم من غزوة تبوك، إذ رغم أن الله كفّرهم فقال فيهم في سورة التوبة : « ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم… (66)»، لم يقم النبي عليهم أي حد.

ويقول الفقهاء لتفسير ذلك أنه من الكفر القولي، وأن الكفر هنا ليس إلا في القول أو حتى الفِعل، دون الإصرار عليهما، وخاصة دون الانتقال إلى دِين آخر. لذلك لا ردة إذ صح أن الرسول الأكرم كان يُعامِل المنافقين مُعاملة المسلمين لظاهرهم وهو الإسلام.

فالردة الدينية هي إذن تبديل الدين بالانتقال إلى دِين آخر، والإصرار على ذلك. مع العلم أنه ليس لها أي حدّ في القرآن ولا السنة حتى وإن أجمعت الفقهاء على أن مَن بدّل دينه فإنه يُستتاب، فإن اصرّ على كفره قُتِل. من ذلك ما يُروى عن الإمام مالك : « مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ».

لئن كان الأمر كذلك فلأجب أن الفقهاء خلطوا الردة بالتبديل كما نقرأ عند  ابن عبد البر : « وظاهر هذا الحديث يُوجِب على كل حال مَن غّيّر دِين الإسلام أو بَدَّلَه فليقتل ويُضرب عنقه إلاّ أن الصحابة قالوا : إنه يُستتاب فإن تَاب وإلاّ قُتِل ، فكان الحديث عندهم خرج على مَن بَدّل دِينه وتَمَادى على ذلك ».

مفهوم الردة فقهيا إذن هو الانقلاب السياسي، ولا علاقة له بالمعنى المتعارف عليه اليوم للردة وقد تغير المعني بتغير الظرورف. فقد سبق أن بينا أن الإسلام دين ودنيا، وأن الرسول الكريم كان في نفس الآن المبلّغ للرسالة السماوية وباعث دولة كانت أساس حضارة عظيمة. إلا أن هذه الحضارة والدين الذي كان منبعها لم يصلا إلى الحد الكافي من الانتشار والتأسيس عند وفاة الرسول. لذا وجب حفظهما كما يحفظ كل نظام نفسه من أي محاولة انقلاب أو ثورة تعصف بما جاء به.

تلك هي الحال مع ما سمّي بحروب الردة التي ما كانت إلا ثورة على سلطة المدينة والنظام الذي أقامته باسم الدين. فالردة في ذلك العصر كانت مسمّى للخلاف السياسي الحاد، الخلاف السياسي المسلح، إذ لا يجب أن ننسى أن الخلاف كان جماعيا، أي قبليا، وأن كل قبيلة كانت لا تعرف للدفاع عن مصالحها أو فرضها إلا منطق القوة. كل هذا يختلف طبعا عن معنى الردة كما نعرفه اليوم، أي الخروج الفردي من دين إلى دين آخر أو حتى إلى لا دين.

واقع الردة اليوم

إن الردة في يومنا هذا هي من باب التعبير الفردي عن القناعة الشخصية، وليس في ذلك أي موقفٍ سياسي ولا رفضٍ لمنظومة اجتماعية أو تهديدٍ للأمن وتماسك المجتمع. فهل نخاف اليوم على ديننا من أن يصيبه أي أذًى لأجل أن البعض منا أراد هجره ؟ إنه من الخور أن نقول ذلك لمجرد التمسك الأعمي بما وصل إليه اجتهاد الفقهاء في عصرهم.

لذا، فكما فعل الفاروق عمر، الذي كان سبّاقا في رأيه إزاء أهل الردة لما رآه يصلح لديننا، علينا أن نفهم اليوم حديث الرسول الأكرم في قتل من بدّل دينه على حقيقته، أي أنه كلام إمام الأمة ورئيس دولتها لحفظ أمنها وسلامتها في فترة عصيبة من تاريخها والدولة بصدد التأسيس.

إن الحديث النبوي في رأينا لا ينسخ بتاتا ما ورد بالقرآن الكريم في الغرض، رغم أن الفقهاء يقولون بعكس ذلك، أي أن الحديث ينسخ القرآن. وهم يعتدّون بمقولة أن ما أُوتيه الني إنما هو وحْي يُوحَى، ويدلون كدليل على ذلك نسخ الحديث للعقاب الوارد بالآية 15 من سورة النساء. إلا أن هذا مما توصل له اجتهاد الفقهاء في زمن خلا، وليس هو بالتنزبل العزيز حتى نلتزم به على الدوام؛ ورأينا مع قول بعض أهل الحديث، أي أن « كتاب الله مقدّم على كل قول »، حسب عبارة مسعود بن عمر التفتزاني في التلويح على شرح حقائق التنقيح.

إن ذلك القرار كان صائبا لاختلاف سياسي مسلح، في نطاق الصلاحيات السياسية لأولي الأمر، وليس فيه أي تعميم لكل المسلمين ولا لكل زمان ومكان خاصة وأن الإسلام تمكن بعد من القلوب واستقرّ بها. فاليوم لهو زمن الجهاد الأكبر لأجل الإسلام، لأن الجهاد الأصغر ولى وانقضي.

لذلك، لا يجب منع الارتداد عن الاسلام بل العمل بالمثل الأفضل ومكارم الأخلاق على أن يكون الدخول للإسلام بحق نهائيا لأجل القناعة والاقتناع بمبادئه لا للخوف من عاقبة الخروج منه، وقد انعدم الخطر لمثل ذلك الخروج ما دام لم يكن من باب التبديل والفساد والإفساد الجماعي الذي به تتكون المؤامرات على أمن ودعة المسلمين.

واقع الردة في القرآن

لتمام توضيح الأمور، نبين الآن الوضع الحالي للردة في القرآن، مع التذكير أن معناها الحقيقي يختلف حسب المصدر؛ فبينما هو في القرآن المعنى المعهود في مفارقة الدين على المستوى الفردي، فهو في السنة وعند الفقهاء بمعنى التبديل للدين على مستوى الحراك الجماعي بما في ذلك من عواقب عسكرية وإسقاطات سياسية.

قرآنا، حرية الاعتقاد بما فيها اعتناق الإسلام مضمونة، وقد وقع التعرض للارتداد عن الإسلام في الآيات التالية والتي ذكرنا بعد بعضها أعلاه في معرض حديثنا عن حرية الاعتقاد في الإسلام :

– الآية 217 من سورة البقرة : « وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ».

– الآية 54 من سورة المائدة : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ».

– سورة محمد، الآية 25 : « إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ».

– الآية 106 من سورة النحل : « مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ».

– الآيتان 87/86 من سورة آل عمران : « كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ».

– الآية 115 من سورة النساء : « وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ».

– الآية 137 من سورة النساء : « إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ».

كل هذه الآيات تبيّن بما ليس فيه أدنى شك أن مسألة الارتداد عن الدين هي مسألة بين الله وعبده؛ فإن أعظمها الله، فهو لم يخصها بأي عقاب دنيوي، تاركا الأمر للآخرة. لذلك، ليس لأحد الحق في إكراه المسلم على ما يعتقده بأية وسيلة من وسائل الإكراه. والله يعطي بنفسه المثل في ذلك بضرورة الدعوة بالإقناع وبدليل العقل أو بالترغيب في ثواب الآخرة والتخويف من عقابها؛ كل ذلك حتى يكون الإيمان صادقا لا إكراه فيه، لا تشوبه شائبة.

نعم، إن الله يلعن المرتد من خلقه ويتوعده غضبه والقرار بجهنم، لكنه لا يقضي عليه بتاتا بالقتل؛ إذ هو يُبقي باب التوبة دوما مفتوحا على مصراعيه. وهذا مما يؤكد أن الإسلام يحث ويسهر على أن يكون الإيمان حرا وعلى أن يبقى حرا، فلا مانع للارتداد إلا الضمير والوازع الشخصي، وإلا فسدت حرية الإنسان في تقديسه لخالقه. ولعل ما يؤكد هذا التوجه ويلخصه خير تلخيص قوله تعالى : « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن » (الآية 125 من سورة النحل).

إضافة للآيات المذكورة التي استعملت عبارة الردة صراحة دون أن تتحدث البتة عن حدّ يوقع على المرتد ولا حتى عذاب دنيوي يطاله، مكتفية بالإشارة إلى عذاب الآخرة وإلى عقاب الله وغضبه، هناك آيات أخرى في نفس المعنى لم تُذكر الردة فيها إلا بالمعنى، ومنها ما يلي :

– سورة النحل الآية 109 : « مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ».

– سورة النور، الآية 55 : « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ».

– سورة النساء، الآية 137 : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ».

إن هذه الآيات كسابقاتها، أي ليست إلا تقريرا من الله وتأكيدا لحرية الإنسان في الاعتقاد، فهو حر في أن يعتنق الإسلام، كما أنه حر في الإعراض عنه، سواء أكان ذلك عند الاعتناق أو بعد بالارتداد. وليس من حق أحد – وقد مُنع الرسول نفسه من ذلك مثلا – أن يعترض على الحرية الشخصية في الخروج من الدين، إلا إذا كان ذلك الخروج بالمعنى السياسي الذي بينّا، وهو التبديل للدين كنظام دولة، وهي الردة كما عرفها التاريخ العربي الإسلامي، أي العمل الذي يُعد تحديا للدولة ونظامها و خروجا على دستورها وعلى حكّامها الشرعيين.

تأكيدا على ذلك، لنقرأ ما يقول ابن قيّم الجوزية في إعلام الموقعين: « فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات كالجناية علي الأنفس فكانت عقوبته من جنسه و كالجناية علي الدين بالطعن فيه والارتداد عنه و هذه الجناية أولى بالقتل و كف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم و لاخير يرجي في بقائه ولا مصلحة فإذا حبس شره و أمسك لسانه و كف أذاه و التزم الذل و الصغار وجريان أحكام الله و رسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضرر عليهم و الدنيا بلاغ و متاع إلي حين».

هذا لا يُستغرب من دين هو بحق خاتم الأديان؛ إذ كيف يكون الإسلام خاتما للأديان إذا منع مثل هذا الحرية الإنسانية في إمكانية الدخول والخروج من الدين بكل حرية وسلامة؟

واقع الردة في السنة والفقه

لا مجال للشك أن حكم الردةو لمن بمعنى التبديل كما يبيناه، ثابت في السنة الصحيحة؛ وهو يستند خاصة على الحديثين التاليين :

– « من بدل دينه فاقتلوه »؛

نشير هنا إلى هناك من طعن في صحة الحديث، رغم ذكره في صحيح البخاري، بدعوى وجود عكرمة مولى ابن عباس في سنده، وهو ضعيف؛ وأيضا لأنه يتعارض مع ما ثبت من نهي الرسول عن القتل. ما يهمنا هنا أن الحديث ذُكر عند البخاري ومسلم، وهذا يكفينا لاعتباره صحيحا. مع العلم أن هناك من يعتبر عكرمة ثبتا لم يضعفه أحد، إضافة إلى أن الحديث لم يروه عكرمة فقط؛ فقد رواه أيضا مالك عن زيد بن أسلم، بسند صحيح، والطبراني عن أبي هريرة (ولو أن المشككين في أحاديث أبي هريرة كثر). هذا، مع الملاحظة أن هناك أيضا من يرى أن الحديث يعارض القرآن وخاصة الآية «لا إكراه في الدين» عقلا وشرعا. من هذه الناحية الأخيرة، يقولون إن هذا الحديث من الآحاد، بينما لا تثبت الحدود بمثل هذه الأحاديث ولا يُعمل بها في العقائد. ثم يشيرورن إلى أن الأصول الفقهية، كما هي عند الشافعي، تقر أنه لا ينسخ القرآن إلا القرآن كما لا تنسخ السنة إلا السنة. إضافة إلى ذلك، يؤكدون على أنه، عند من يرى جواز نسخ القرآن بالسنة، يتوجب أن تكون السنة متواترة، فلا ينسخ حديث الآحاد القرآن. ولعل رأيهم لا يبعد عن الحقيقة، ولكنه غير ذي بال هنا.

– « لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ».

هذا الحكم الثابت في الردة وقع تطبقيه من طرف النبي في حياته كما طبقه الصحابة من بعده. إلا أن المعنى للردة هنا غير ما سبق أن رأيناه بالقرآن، إذ هو في السنة بمعنى التبديل، أي أن المساس بالدين كان صريحا والإخلال بالأمن العام جهرا ومقصودا.

فالمرتد في كلام رسول الإسلام هو المبدّل لدينه، أي أنه ليس ذاك الشخص المنفرد المعني بالقرآن الذي يغيّر عقيدته لأسباب شخصية وقناعات لا تخص غيره. إن المعني في الحديث النبوي هو مجموعة الناس التي تعلن التمرد على دولة الإسلام، ممتنعة من الامتثال لأوامرها كدفع الزكاة مثلا، ثم هي تهاجم السلطة السياسية محاولة إسقاطها. فما يكون الحال اليوم أمام عصيان مدني أو امتناع عن دفع الضرائب وإفساد الأمن العام؟

إن الردة هنا هي بمثابة الخيانة العظمي التي تستوجب الإعدام؛ لذلك كان حكم المرتد في السنة القتل، كما يُقتل من خان بلاده إلى اليوم حتى في الدول الديمقراطية، إلا إذا منعت عقوبة الإعدام. هذا ورأينا أن الإسلام لا يعارض بتاتا منع عقوبة الإعدام، لأنه لا يقبض الأرواح في الإسلام إلا الله. وإن شاء الله تكون لنا للموضوع عودة في إحدى اليوميات القادمة.

معنى الردة في السنة إذن هو التبديل وابتغاء التبديل، أي الخروج على الدولة، والتآمر على أمنها، ومحاربة سلطاتها. أما في القرآن، كما رأينا، فمعنى الردة هو ذلك الذي لا يُقصد به إلا تغيير الشخص لدينه لمجرد اقتناعه الشخصي ورأيه في الدين وحكمه عليه، فلا عقاب عليه إلا أخرويا، كما جاء بصريح عبارة القرآن الكريم.

أما فقها، وتطبيقا للسنة الصحيحة، فقد أجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وكذلك قتل المرأة المرتدة عند جمهور العلماء، غير الحنفية. وكل ذلك بمعنى المبدّل، أي ما يمكن تسميته اليوم المنقلب عسكريا على النظام القائم أو الآتي بخيانة عظمى لشعبه.

وللتأكد من صحة النية في الإنقلاب على النظام أو خيانة الوطن، باسم العدل والابتعاد عن الحكم بالظنة، رأى الفقهاء وجوب استتابة المرتد، أي الثائر على النظام، قبل قتله. هناك من جعل ذلك على الاستحباب، ومنهم من جعل مدتها ثلاثة أيام؛ وبعضهم ذهب إلى أنه يستتاب، ويؤجل ما رُجيت توبته. كل هذا يبين قيمة الحرية في الإسلام، إذ هي الأساس، حتى في حالة خطيرة كالانقلاب على النظام؛ فالتوبة تبقي منشودة إلى آخر المطاف.

يقول الإمام ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول: « فإن الذي عليه جماهير أهل العلم أن المرتد يستتاب ومذهب مالك وأحمد أنه يستتاب، ويؤجل بعد الاستتابة ثلاثة أيام وهل ذلك واجب أو مستحب؟ على روايتين عنهما، أشهرهما عنهما: أن الاستتابة واجبة، وهذا قول إسحاق بن راهويه. وكذلك مذهب الشافعي، هل الاستتابة واجبة أو مستحبة على قولين، لكن عنده في أحد القولين يستتاب، فإن تاب في الحال. وإلا قتل وهو قول ابن المنذر والمزني. وفي القول الآخر يستتاب كمذهب مالك وأحمد. وقال الزهري وابن القاسم في رواية: يستتاب ثلاث مرات ومذهب أبي حنيفة أنه يستتاب – أيضا – فإن تاب وإلا قتل، والمشهور عندهم أن الاستتابة مستحبة… وقال الثوري: يؤجل ما رجيت توبته، وكذلك معنى قول النخعي ».

الردة في الإسلام الأصيل

خلاصة القول أنه لا مانع للارتداد عن الدين الإسلامي ما دام ذلك من باب تعاطي الحرية الشخصية في الاعتقاد كما يضمنها الدين؛ هذه هي الردة الفكرية أو السلمية التي جاء بها القرآن. فهي تحوّل من من حالة إلى حالة على المستوى الفكري، من حالة الإيمان بالإسلام إلى حالة الإيمان بديانة أخرى أو الإلحاد. وهي مقبولة حسب نص وروح الإسلام بالمعنى الذي بيناه؛ ولا يمكن أن يكون الحال مختلفا في دين يحمي حرية العقيدة كحمايته لأهل الذمة في عصر لم يكن للمختلف دينا أي حق في الحياة.

أما إذا وصل ذلك الارتداد/التبديل إلى حد خيانة الوطن أو إعلان العصيان المدني أو إشعال الحرب في البلاد، فذلك هو المحرم شرعا. فالارتداد إذا كان من حرية الفكر، فهو أيضا في حرية الكفر؛ أما إذا أمسى الارتداد ذاك التبديل للدين كأساس مكون للنظام السياسي والاجتماعي ما من شأنه الاضرار بالأمن العام، فذاك هو الممنوع شرعا.

لذا وجب التفريق بين المعنيين. في الحالة الأولي، هناك خروج من الإسلام، لا تعكير فيه للأمن العام، فلا منع ولا تحديد له، إذ ليس في القرآن إلا التقريع للثواب إلى الرشد؛ وأشد ما فيه الوعد والوعيد، لا أكثر. أما في الثانية، فهناك خروج على الإسلام، بما في ذلك من عنف سياسي وانقلاب على السلطة الشرعية. وهذا الذي منعته السنة والفقهاء. الحالة الأولى، هي الردة كما جاءت في القرآن وكما نفهما اليوم، وهي من الحرية الشخصية؛ أما الحالة الثانية فهي التبديل كما لخصته السنة وفهمه الفقه الإسلامي، إذ هو من الاعتداء على الحرية العامة.

فالردة من الزاوية الدينية هي إما شخصية، متعلقة بحرية الاعتقاد، وهي موازية عندها لحرية اعتناق الإسلام، فلا موانع فيها ولا عقوبة إلا أخروية إذا شاء الله وأراد. وإما هي عمومية، متمثلة في عصيان مدني أو خيانة عظمى أو انقلاب سياسي؛ فهي عندها ما سميناه بالتبديل، وهي طبعا ممنوعة وتستوجب الردع بما فيه القتل، إذا لم يكن ممنوعا، لأن حياة المجتمع ودوامه تقتضي ذلك.

فلا ردة ممنوعة في الإسلام دينيا، بل هي ممكنة كاعتناقه في جو تام من الحرية لا ينقضها وعيد الله بالويل والثبور في الآخرة، لأن ذلك من باب الحث على التمعن في محاسن الدين ومجاهدة النفس لتتفتح على ما جهلته من حكمته فعمت عنه. ولعل أفضل وأروع ما يلخص المسألة العقدية في الإسلام والحرية اللامتناهية التي تميزها سورة الكافرون التي هي بمثابة الإعلان الرسمي للحرية العقائدية في الإسلام، فالحرية فيه أساس الإسلام : « لكم دينكم ولي دين ». سورة الكافرون، الآية 6. ولعل من أكبر الدلالات على هذه الحرية دستور المدينة الذي آعترف الرسول فيه ليهودها بحرية العقيدة وبأنهم مع المسلمين المهاجرين أمة واحدة.

أما الردة كما عرفها العرب فهي التبديل للدين ومحاولة قلب النظام الذي أسسه، وهي بذلك ردة سياسية. وما يؤكد هذا، ذلك الربط الذي قام به الفقهاء بين قاطع الطريق أو المحارب والمرتد، إذ جعلوا المحارب مرتدا؛ لأن المحارب يقوم بما يقول به المرتد في الاعتداء على الأمن العام وبلبلة النظام الإجتماعي وتقويض صرح الدولة الإسلامية. حكم المرتد يختلف من فقيه إلى آخر حسب ما يكون المرتد محاربا بالفعل أو لا. فالمرتد المحارب يقتل باتفاق الفقهاء؛ أما قبل أن يحارب، فقد اختلفوا هل يستتاب أولا، أم يقتل من دون استتابة.

فصل الردة عن السياسة

لا شك أنه من الضروري الإشارة إلى ما تقتضيه جدلية الدين والسياسة في الإسلام من حتمية التفريق دوما بين ما هو سياسي وما هو ديني؛ فلا شك أن الدين أعلى من السياسة لأنه يخص العلاقة المباشرة بين العبد وربه، ولا دخل فيها لأحد.

لكن ذلك لا يعنى أن السياسة تخضع للدين، إذ لا علاقة لها البتة به، ما دامت تخص البشر وتختص بما يلائم دنياهم؛ ودنيا البشر تتطور وتتغير فلا تبقى على حال. وطبعا، للسياسة أن تستلهم مبادئها من الدين، ولكنها لا تأخذ ضرورة بالحرف منه، بل بروح الشريعة ومقاصدها لأنها هي التي تمثل الأزلية في تعاليم الدين..

هذا، وواضح أن إشكالية المعارضة في الإسلام لهي من التعقد بمكان، إذ أن الخلط وارد بين ما هو ديني وما هو سياسي؛ فطبيعة الإسلام المزدوجة لكونه الدين القيم ودنيا المعاملات أدت لبعض الخلط والعديد من التجاوزات التي وجب الإشارة إليها للحد منها.

فلا بد من التذكير أن الإسلام كدين يبقى دين الحرية المطلقة. لذا رأيناه يتزعم حروب التحرير ويساند تطلعات الشعوب للانعتاق من ربقة كل استعمار. أما حين يتم استغلال الدين سياسيا، فتوظفه الدولة لأغراضها، أو حين تجعل سياستها من تعاليمه، فهو يحافظ رغم ذلك – وعلى الأقل مبدئيا – على تلك الحرية لما تتميز به من خلق علاقة مباشرة بين الله ومخلوقاته؛ فلا مرجعية دينية مطلقة في الإسلام لا للدولة و لا لممثليها، بل مرجعية كل مسلم كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة. وبالطبع الحديث هنا عن الإسلام السني، لا ما نرى عند الشيعة مثلا وقد أولوا الدين حسب مذهبهم.

لذا، لا دخل للسياسة في الدين الذي هو أمر الله مع عباده؛ فليست هي إلا من أمور العباد مع بعضهم، لهم فيها أن يستنيروا بكتاب الله وسنة رسوله، سواء كما جاء في النص إذا وافق المصالح العامة، أو كما تقتضيه مقاصد الشريعة وتفرضه حالة المجتمع في تقلباته، أو كما تراه الأغلبية.

في هذا الميدان السياسي، لا ردة محضورة ولا تدخل في الضمير البشري، إلا إذا كانت انقلابا حقيقيا على الوضع القائم برمته، تماما كتبديل نظام جمهوري إلى نظام ملكي أو دكتاتوي جراء انقلاب عسكري. والتاريخ الإسلامي يزخر بالأمثلة على الاستغلال الديني من قبل السلطة الحاكمة، والتي طالت حتى العلماء، لا لشيء إلا لأجل مناهضتهم للحكم القائم.

هذا، وقد أحصى بعضهم ما لا يقل عن المائة والخمسين من العلماء الذين ذهبوا ضحية تهمة الردة وذلك لمجرد أسباب سياسية، ومنهم الإمام الآمدي صاحب كتاب إحكام الأحكام في أصول الأحكام، وهو إمام من أئمة الشافعية الكبار، والإمام البلقيني. ولقد كان الحجاج بن يوسف سباقا إلى ذلك عندما اتهم بالردة سعيد بن جبير أحد كبار التابعين لخروجة على عبد الملك بن مروان.

الردة من المنظور الحضاري

لنقل أخيرا كلمة عن الردة من الزاوية الحضارية؛ فالمجتمعات البشرية مبنية على الاختلاف، وركيزة العيش الآمن بعضا مع بعض هي الحريات، خاصة منها حرّية الإيمان وحرّية الاختيار وحرّية الفكر وحرية القناعات الشّخصية.

الردة في مفهومها السليم، أي حرية الارتداد عن دين تم اعتناقه بكل حرية، لهي مطابقة تماما للتوجه الحضاري الذي يقتضي حرية البشر الكاملة في كل ما يخص أمور العقيدة والفكر والرأي. هذا ما فهمه الإسلام منذ البداية وهو، كما رأينا، دين حضارة، إذ أكد مرارا أن لا إكراه في الدين؛ وغير معقول أن نقبل بهذه الحرية في الدخول للإسلام ثم نرفضها عند ابتغاء الخروج منه وإلا نخالف، لا روح الدين ومقاصده فقط، بل وحتى تعاليمه الصريحة بنصوص لا غبار عليها.

الإكراه في الدين باطل، وهو مطية النفاق. فلا إسلام بإكراه لأن الإيمان ليس بالسجن الذي يُحبس فيه المؤمن ولا يمكن له مغادرته. فلا مكره على الإسلام وإلا فليس هو بالمسلم؛ لذا، فلا ردة تُمنع ما دامت على مستوى العقيدة الشخصية.

إن الإكراه يبطل التصرفات والمعاملات والحقوق المادية والدنيوية؛ فمثلا لا زواج بإكراه أو بلا طلاق وإمكانية الخروج من عصمته؛ فكيف نقبل به في أهم شيء في الدين والحياة، ألا وهو العقيدة؟

لقد بادر الإسلام إقرار الحقوق والحريات في زمن لم يعرف مثل ذلك، إذ لم تدخل في المنظومة القانونية للبشرية إلا بعد وقت طويل. لذا، من الغريب أن ندّعي اليوم على هذا الدين التأخر في مثل هذا الميدان بتأويلات غير صائبة تهضم حقه وتشوه روحه.

إننا إذا منعنا من يدخل الإسلام من الخروج منه حكمنا عليه بأن يسجن نفسه داخل دين دون رغبتة، فهو يبقى به لا لأنه الدين القيم الأوحد، بل لأنه الحبس الذي لا يمكن له مغادرته إلا إلى القبر. وحاشى أن يكون هذا من دين محمد، دين الرحمة والمحبة، ودين الله، دين المغفرة المستدامة لكل من حسنت نيته، وذلك لآخر رمق في حياته.

ليس إذن من يدّعي على الإسلام ما ليس منه، بتجاهل ما كان من تأويل حسب نصه أو أخذا بروحه، إلا من نوع ما عرفه تاريخنا من ساسة فقهاء أو فقهاء البلاطات الذين لا يخدمون الإسلام في شيء، وإنما يسعون لمصالحهم بتأويل هذا الدين السمح حسب أهوائهم أو أهواء الساسة أرباب نعمتهم. وليس هذا بالجديد في الإسلام، وقد اشتهر منذ قيام الدولة الأموية؛ وقد عُرف العديد من الفقهاء بتطويعهم الدين للأغراض السياسية.

إن الرضا الحقيقي الحر أساس العقيدة في الإسلام، لأنه أساس كل شيء فيه؛ وذلك ما يؤكده في الحديث النبوي : « رضيتُ بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا ».

 

 

 

 

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.