الرئيسية » (19) التصوف إسلام تونس الشعبي

(19) التصوف إسلام تونس الشعبي

سيدي محرز

يكتبها فرحات عثمان

إننا في هذه اليوميات ننطلق من مبدإ ثابت، لا محيص عنه، ألا وهو أزلية الإسلام وعلميته وكونيته، مما يجعله خاتم الأديان.

فنحن لا نفتأ نذكّر بذلك من باب واجب المسلم على قول الحق ولو على نفسه في زمن أصبح فيه الدين تجارة تُشترى بها الذمم ويُهدر فيه دم الأبرياء؛ وديننا الحنيف براء من كل ذلك.

إننا نسعى للتذكير بما في الإسلام من سمو وعلو لا تطاله النوايا المغرضة لمن في نفوسهم مرض، هاجسنا الأوحد أن تكون مآذن جوامعنا منارات التسامح الذي أتى به ديننا والأنسية التي كان سبّاقا للتأسيس لها في حداثية غير مسبوقة هي حداثيته التراجعية.

نبيّن إذن اليوم أن الإسلام التونسي الصحيح، بل المغاربي عموما، هو إسلام الحقائق، كما سماه ابن تيمية، أي إسلام التصوف؛ فمنه الإسلام الزيتوني وليس كله منه للأسف. أما من يدّعي الحقيقة للسلفية الهوجاء، فليعلم أنها ليست إلا سلفية الأكاذيب أو إسلام الإسرائيليات، إذ السلفية الحقة بمعنى العودة للدين الصحيح لهي الصوفية.

في الإسلام الرسمي

الإسلام الصحيح التونسي، أي الإسلام الشعبي، ليس الإسلام  الرسمي، سواء كان ذلك الذي ينعت نفسه بالمتوسط أو ما تزّمت منه عند البعض ممن يخبط خبط عشواء في دين القيمة. فدين الإسلام لا يكون إلا ثوريا على كل ما تحنط ولا يفتأ يتحنط في البشر، بداية بذهنه عندما يهرم قبل أوانه.

للأسف، نجد مثل هذا الإسلام المحنّط عند العديد من الفقهاء، وليس هو إلا مطية لأغراض ساسة وذبان بلاطات يسعون لمصالحهم الذاتية، لا يمثلون الإسلام الحق الذي لا يتجلى إلا في ما تعيشه الشعوب الإسلامية وتحياه في حياتها اليومية وفي متخيلها الشعبي.

إن الإسلام الرسمي بتونس يأخذ بالحرف في الدين وينسى الروح الإلاهية التي فيه؛ بهذا يمرّ بأزلية الدين من روحه السنية كما نراها في مقاصد الشريعة إلى نص تاريخي بالضرورة لما في ملتنا من تناسب مع زمنها وما فيها من تدرج في أحكامها.

أما الإسلام الشعبي، وقد قدّمت له صوفية الحقائق أفضل صورة، فهو يأخذ بالإسلام في أزلية تعاليمه وسمو مقاصده لا بما في رسمه، فيتر ك جانبا ما ظهر فخالف ما يتغير ضرورة في طباع البشر، ويعود إلى الباطن منه مما تتجلى فيه روح الشريعة الحقة في تأقلمها مع التطور المستدام لحياة البشر.

لقد كانت الصوفية، وهي من خير ما استنبط الفكر الإسلامي الأصيل، أصدق من فهم الإسلام على حقيقته بعيدا عن كل تأويلات هؤلاء الذين يعتقدون الكلام في الإسلام بينما هو لا يرددون إلا مقولات دخيلة عنه.

فالعادات اليهودية والمسيحية سرعان ما تغلغلت في أذهان العديد من المسلمين لما هناك من وثيق الاتصال بين الإسلام وما سبقه من رسائل سماوية؛ أفليس الإسلام خاتم الأديان؟ إلا أنه جاء ليصحح ما سبقه مما لحقه من تحريف، فإذا بنا نرى من يدّعي الأخذ بما سبق من السلف من حسنى يسيء إلى دينه فيشينه.

نعم، تجليات الإسلام عديدة متنوعة اليوم، ولا شك أن الإسلام في نسخته الرسمية، أيا كان البلد المعني، يختلف تماما عن الإسلام الشعبي، وذلك بالسواء بين ما هو من هذه التجليات الغالبة، أي الإسلام السني، و ما اصطلح على تسميته بالإسلام المخالف وحتى بالهرطقة، وعلى رأسه الإسلام الشيعي.

رغم كل هذا، يبقى الإسلام واحدا أحدا، وهو التوحيد بالله وحرية الإنسان في عقيدته، لا يتوسط بينه وبين خالقه أحد، لأن تسليمه هو لله وحده كبشر حر، مجّد الإسلام حريته ورفع منها إلى حد قبوله بأن يتحمل أمانة إعمار الأرض وخلافة الله فيها.

ولكن، ماذا نرى في أنحاء المعمورة؟ البلاد التي تدّعي الإسلام تنتهك أخلاقيته والمباديء السامية التي فيه، حتى أننا لنراها أكثر احتراما في البلاد غير المسلمة والتي لا تأخذ بتعاليم الإسلام؛ فلكأنها هي المسلمة حقا وحقيقة، دون البلاد التي هي إسلامية بالرسم دون االفعل والنية.

فالإسلام مثلا يدعو للديمقراطية وقد بيّن ذلك في العديد من أحكامه ومنها حكم الشورى والمشورة؛ والإسلام جاء بالتسامح وبضرورة احترام الآخر المختلف، سواء كان ذلك في الملة أو المشارب أو الهوى؛ والإسلام جاء بالعفو والعدل والانصاف؛ فأين كل ذلك؟

كل هذه الأخلاقيات لا تعرفها أنظمتنا السياسية المقامة على مبدأ الرأي الواحد وحكم المنفرد ونبذ الرأي المخالف مع التسلط والقهر على كل مخالف، بل والتشفي منه. وبما أن كل هذا لا ينتمي بأي صفة للإسلام، فحكام البلاد الإسلامية لا يقومون إلا بتوظيف الدين لأغراضهم، فيصرفون آياته وأحكامه كما بدا لهم لما للدين من مكانة عتيدة في النفوس. بذلك هم يستحوذون على عقول البعض ويدعمون تسلطهم على الشعب باسم دين هو منهم براء. وفي تصرفهم ذلك، يأخذون بحرف الدين ونصه كما ثبت في فترة من فترات نزوله ويجهلون أو يتجاهلون روحه كما تبينها مقاصده، وهي كل الشريعة ولب لبابها.

إن الإسلام في حكمته جاء منجّما فكانت أحكامه متدرجة نظرا لما في الطبيعة البشرية من نقص. فمن نقصنا ننتقص من حكمة ديننا بأن نأخذ بحرف لنجعله أزليا بينما تاريخيته تفرض نفسها، كما هو الحال في مثالي قطع اليد و الرق.  فأزلية نص القرآن في مقاصده وفي روحه لا في نصه. وكما     الحرف من كلام الله، روحه هي أيضا من هذا الكلام، بل هي     فيه أعلى وأبلغ! وهذا ما سمّته الصوفية بالباطن، داعية بتغليبه على الرسم وعدم الحكم بمجرد ما ظهر من نص القرآن إذا خالف روحه ومقاصد الشريعة.

لا شك أن في العديد من مظاهر الإسلام الرسمي ما يمكن تسميته بالمسكوت عنه أو المضنون به على غير أهله، وهي تلك الأمور التي لا يجب الكلام فيها من باب عقلية نخبوية أو تخصيصٍ لصفوة. إلا أن مثل هذا التوجه ولّى وانقضى.

الإسلام الرسمي اليوم، ومنه خاصة ما عُرف بالإسلام السلفي أو المتزمت، لهو حقا نتاج ما رسب في عاداتنا وتقاليدنا من إسرائيليات، وقد أثّرت كثيرا على الآخذين بالعلم من المسلمين. ونحن نعلم، كما بيّن ذلك لنا ابن خلدون، أن حملة العلم في حضارة الإسلام كانوا من غير العرب.

ودون التقليل البتة من حماسة هؤلاء الموالي لدينهم، فقد جاؤوا بعقلية غريبة عن الإسلام، وهو الدين العربي أساسا؛ وكانت تلك العقلية متأثرة بالعادات اليهودية والمسيحية الشائعة آنذاك، الفاعلة في المتخيل الشعبي. من ذلك كل ما رسب في الإسلام من نظرة متزمته للجنس وللعري؛ أو من تقليص لحرية الاعتقاد وتوسيع لمعنى المقدس حتى فقد صبغته التي هي بالأساس معنوية عند العرب.

لهذا، نحن لا نستغرب هذه الردة الفعلية الشعبية المتمثلة في تنامي ظاهرة ما اختزله التزمت عند بعض الشباب، والذي مردّه أساسا إنكار هؤلاء للمؤسسات الرسمية أية صفة في تمثيل الإسلام الحقيقي. إلا أن ذلك لا يتم باسم هذا الإسلام كما عاشه ويعيشه المسلم البسيط، بل نراه ينحو منحى أهل الإسلام الرسمي، فيحاكيهم في تشويه صورة الدين ومسخها. ذلك لأن التشوية يأتي بتشويه معاكس.

لنأخذ على ذلك مثال العلاقات الجنسية بين الشباب المسلم وقد     حرّمها الدين الرسمي بينما قبلها في سماحته دين الإسلام الأصلي مع تقنينها بما كان يتلاءهم مع مقتضيات العصر، فكان زواج المتعة. ولا شك أن عصرنا الحالي يقتضي ألا نتجاهل مقصد الشريعة بما جاءت به في الموضوع، فنجتهد مجددا لنلائم بينه ومقتضيات العصر حتي لا نخالف طبيعة البشر وقد عمل ديننا على تبيين المنهج الأفضل.

لنا أيضا أن نأخذ مثال المولد النبوي الشريف الذي يرى أهل السلفية أنه من الدخيل على الإسلام، وهم في هذا على حق، بينما يرى أهل السنة والجماعة غير ذلك، وهو غلط، إذ ما كان الاحتفال بمولد الرسول من العادات الشعبية في الإسلام الأول، ولم تصبح كما هي اليوم إلا في نطاق الإسلام الرسمي.

أما حان الأوان إذن لأن تترك السلط السياسية الرسمية الدين لأهله، أي للشعب، فلا تتحامل عليه بأن تعطيه صبغة رسمية هي بعيدة كل البعد عن كنهه وروحه مما يحمل العديد على محاربتها بأن يتجنى أكثر على ديننا فيذهب أكثر بعدا في الغلو والتزمت؟

إن الإسلام في القلوب أولا وقبل كل شيء، وليس هو بما يُوظف للأغراض السياسية والمصالح الدنيوية؛ لذا وجب إعادته إلى مقامه السامي في أنفس الشعب وترك هذا الشعب يحيا دينه كما دأب عليه قرونا وقرونا، أي بكل حرية ومباشرة في علاقته بربه بدون وساطة أئمة ولا وعاظ ولا دعاة ولا فقهاء، إذ لا كنيسة ولا كهانة في دين القيّمة. فتلك هي الروح الديمقراطية، وذاك هو بحق الإسلام !

في الإسلام الشعبي

لقد عرف الإسلام الشعبي كيف يصل إلى هذه الروح إذ كانت مما استنبطه الفقهاء على مر الأزمنة، وبخاصة فقهاء الصوفية؛ ولعل أفضل من ثمّن اجتهادهم هو صاحب النظرية المقاصدية الإمام الجليل الشاطبي الذي نذكره في آخر هذه المقالة.

لا شك أن فقهاء الإسلام اجتهدوا فأصابوا في عصرهم بأن تأولوا نصوص القرآن حسب مقتضيات زمانهم. إلا أنهم    – عملا بتناغم الدين مع عصره، لأنه ليس بالدين فقط، إذ هو دنيا أيضا – صرفوا حكم بعض الآيات حسب ما تعارفوا عليه وأخذت به أمم البشرية. لذلك أيضا، حكّموا السنة في ما لم يكن فيه أي حكم أو قاسوا على بعض الأحكام حتى يكون الدين بحق دستور البلاد في ما يخص علاقة البشر ببعضهم.

كان الأمر كذلك في عدة مواضيع منها اللواط، وقد أفردنا له يومية، ومنها الردة وسنتعرض لها في يومية قادمة. ففي هذين الأمرين، ذهب الفقهاء إلى أبعد ما جاء به الدين في تأويلهم له حسب ما اعتقدوا أنه يمثّل روحه ومقاصده. فالمرء نتاج عصره، يفكّر حسب متخيل هو من إفرازات كل ما يحيط به من عوامل وتيارات. ومن هنا جاء القول الخاطيء بأن الإسلام يجرّم الردة ويحرّم اللواط، وليس ذلك بالصحيح كما بيناه ونبيّنه بوافر الأدلة الشرعية.

هذا، و إن     أخطأ     الإسلام الرسمي  بتجاهله روح الدين وأخذه بإيديولوجية الحاكم ونظرته للأشياء، فقد تنكّر أيضا لمعتقدات الشعب وموقفه الحقيقي من تلك المواضيع، حيث ما اعتقد العربي المسلم أبدا في انعدام حرية العقيدة في ملته والحرية الملازمة لذلك، أي حرية الارتداد؛ كما أنه ما اعتقد البتة في كون العلاقات الجنسية الشاذة مما يحرمه الدين، إذ كان يتعاطاها ولا يزال كصنف من أصناف الجنس هو من الفطرة البشرية ومما في الطبيعة، حتى وإن شذ أي قل. خاصة وأن الجنس العربي تمامي، لا يفرّق بين الجنسين.

بذلك كان الإسلام الشعبي دوما أصح إسلاما مما عرفناه ونعرفه عند الحكّام، إذ نجد فيه عفوية الدين وبساطته وطلاقته دون تزييف ولا تحريف لأسباب عقدية أو مصالح نخبوية أو أغراض شخصية. لهذا، رغم ما شابه من التحريفات في بعض التصرفات الغريبة، فقد بقي الإسلام في جوهره وأصوله سليما، مكينا في النفوس. بهذه الصفة    مكّن الدين من الدوام في الأفئدة شامخا في السرائر على مر الأزمن؛ حتى أصبح بذلك من ركائز الشخصية وعلامات التحرر للمسلم.

من ذلك أن المؤمن لا يعترف إلا بوحدانية الله في علوه وقداسته، فلا يتوسط بينه وبين خالقه. فالمسلم الشعبي لا يسمح لأحد بأن يتصدى ليبيّن له مراسم دينه، لأنه أولى بذلك وأقدر لفهمها بما أنه العبد الحر، لا حكم عليه في أمور الدين إلا من خالقه وهو الرحمان الرحيم، لا يعاقب إلا من يشاء ويرحم لمن شاء وأراد.

لقد ظهرت في التاريخ الإسلامي فرقة مثّلت خير تمثيل هذا الفكر الشعبي، هي فرقة المرجئة. ورغم أنها اندثرت كمكوّن من أهم التيارات الفكرية في المجتمع لتمكّن الكنيسة الإسلامية المستحدثة من فرض نفسها في شخص الأئمة والفقهاء والشيوخ، فقد بقيت معالم الفرقة في المتخيل الشعبي إلى اليوم، حيث لا نزال نقرأ فيه حقا أزلية الإسلام كما هي في روحه ومقاصده.

فالإسلام هو بلا منازع خاتم الأديان، وهو لا يكون كذلك إلا لأزلية أحكامه. ولكن لا أزلية لنص الأحكام التي جاءت تنظم الحياة البشرية. ذلك لأن الإسلام في جانبه الخاص بالمعاملات جاء متناغما مع الطبيعة البشرية، يتطور معها كما من المفروض أن تتطور هي حسب طبيعتها على ما أرادها لها الله. فالأزلية ليست في الحرف والنص في أمور الدنيا، بل هي في روح هذه النصوص الخاصة بالمعاملات وحياة العباد الدنياوية.

أما أمور الدين، فهي كما حددها الإسلام، لا رأي للمسلم فيها، يأخذ بها ويعمل بها كما هي وكما جاء بها النص الديني الذي هو في ذلك بدون أدنى شك متفقا تمام الاتفاق مع روحه. أما إن شاء المسلم أن لا يأخذ بتلك النصوص، فله الحرية في ذلك، إذ الإسلام يضمن حرية العبد في الإيمان وعدم الإيمان ، فلا إكراه في الدين القيّم. قس على ذلك حرية العبد التامة في أن يكون مؤمنا دون أن يكون مسلما؛ فلعل الله يهديه إلى الإسلام بعد ما آمن؛ ولكن لا يكون ذلك إلا بحرية تامة وعن قناعة وسلامة اعتقاد.

هذا هو الإسلام الحنيف أو الثقافي أو الشعبي، الذي يعلو على الإسلام الشعائري، لأن الإسلام كختام الرسالة السماوية صالح لكل البشرية، متفتح لكل الطباع لعلمية تعاليمه؛ وهذا االذي يُعلي من قيمة الإيمان في الحنيفية المسلمة.

ومن المعلوم أن فترة ما بعد الحداثة تمتاز بالعودة إلى الروحانيات والنهل من الأديان مجددا. فلا شك أن البعد الروحاني الكبير في الإسلام مما يرفع من شأنه لا محالة ليجعل منه بحق دين هذا الزمن. ولا شك أن    من أوكد طموحات الزمن الحالي السلامُ، والإسلام سلام قبل كل شيء؛ فهو سلام روحي أولا وآخرا، وهو سلامة العبد من يد المسلم ولسانه؛ كما هو سلامة النفس من كل ما يشوبها في نطاق الجهاد الأكبر.

وهذا الجهاد هو الوحيد الذي بقى في الإسلام، لأن الجهاد الأصغر ولّى وانقضى كما يبق أن بيّنا؛ فكما منع الرسول وصحابته الهجرة بعد استقرار الدين في دولته، انقرض عهد الجهاء الأصغر لتمام قيام الإسلام في أفضل دار له، ألا هي قلوب العباد.

فلا اعتناق اليوم للإسلام قهرا، ولا دخول في رحاب ديننا السمح عنوة أو البقاء به قسرا؛ ذلك لأنه دين الحرية التامة للإنسان، ودين مجاهدة النفس، وهي مما يشترك فيه العباد قاطبة. فلا رهبوت ولا نقموت في دين السلام، بل الجهاد النفسي على الدوام     لتمام تزكية السريرة !

كل هذا يميّز الإسلام عند المؤمن البسيط. فنجده في المخيال الشعبي حتى وإن بدا لنا يتقلص بعض الشيء لما للمؤسسات الرسمية لساسة البلاد الإسلامية من عمل دؤوب لاحتلال العقول وتوجيه الألباب لأجل نظرة معينة للدين. فهي متزمتة تارة، مدّعية التوسط طورا، بينما هي تضرب دوما عرض الحائط بأخلاقية التسامح في الإسلام، وهو ذلك التسامح الكبار، دون أي قيد أو شرط. فلا إسلام بدون سلام.

في دعدشة الإسلام السني 

إن التسامح في الإسلام تسامح دين بحق أزلي في تعاليمه العلمية وأحكامه الكونية التي تُختزل فيها كل الثوابت التي وصل ويصل إليها الذهن البشري في تطورة المستديم كما تأخذ بها كل المجتمعات المتقدمة حضاريا. وهذا ما أضعناه في ديننا؛ ولعل أفضل الدليل اللخبطة التي نعيشها.

إن ظاهرة داعش لا تتجلى فقط في ما يُدعى باطلا بالدولة الإسلامية في العراق والشام، إذ داعش متغلغلة في عقول العديد من المسلمين الذين لا يظهرون داعشيتهم تقية رغم أنهم يتدعشون كل يوم؛ زيد باسم قومية باطلة، وعمرو باسم إسلام متزمت ليس فيه إلا الإسرائيليات التي قتلت في دين القيمة الروح السمحة والمقاصد السنية.

هذا ما أسميه الدعدشة وهي التدعدش، أي الداعشية الزاحفة مقنّعة؛ وهو التدعّش، حسب قواعد اللغة، إلا أنه تعبير مستنبط باسم اتساع العربية، مأخوذ من الدردشة التي معناها، كما نعلم، اختلاط الكلام وكثرته؛ وهو في أحسن الحالات الحديث الخفيف في أمور شتى.

فمنه إذن الدعدشة والتدعدش، أي التدعش والداعشية، بمعنى اختلاط إسلام الناس وكثرة الكلام الباطل فيه. وهذا الاختلاط هو أيضا بالمعنى النفساني للكلمة، أي المرض العقلي المعروف.

إن دعدشة المسلمين وتدعدشهم يتمثل في خبطهم خبط عشواء في دينهم وحسب أهواء أعداء الإسلام السمح، لا يفرّقون فيه بين ما هو منه وما داخله نكاية به وبأهله ليبدو ملة المتخلفين، دين التزمت المقيت.

لقد بلغ هذا التدعدش اليوم حده الأقصى الذي يقتضي عودة الوعي وإلا ضاع ديننا مع هذه الداعشية المقيتة من جراء استفحال الدعدشة. فلا إسلام بعد اليوم إلا إسلام السماحة كما عرّفت به وعاشته الصوفية، إذ هي الجُنّة الوحيدة التي من شأنها الحفاظ على لب لبابه من الخطر الداهم في شخص هاته الفئة المارقة عن الإسلام، التي لا تريد له إلا الويل والثبور.

لم يعد بإمكان الإسلام السني اليوم التبرء من التزمت الذي تمكّن منه فدعدشه، إذ الوهابية والحنبلية وغيرها من التصنيفات التمامية المستوردة من ديانات سبقت الإسلام داخلته لهتك عرضه واستباحة كل ما فيه من نفاسة وتقانة مكناته من أن يكون حداثة قبل أوانها ومن ثورية لا تزال في روح تعاليمه ومقاصده.

لقد أصبح من المتحتم اليوم البيان والتبيين أنه لا إسلام إلا الإسلام الصوفي الآخذ حقا بالقرآن في صفائه دون تأويل حسب الإسرائيليات     ويتقيد بالسنة الصحيحة غيرالمشبوهة وقد تعددت الأحاديث المنحولة وتنوعت فغيرت وبدلت أحكام الفرقان وجعلتها تفقد صفتها الكبار وهي الرحموت لتغدو أمقت الرهبوت.

إن التصوف اليوم هو الوحيد القادر على حفظ الإسلام الحنيفي، دين القيمة من الفساد الداعشي، إذ في ذلك الخطر كل الخطر في انقراض الإسلام لا قدر الله؛ فلا يحميه الله من الخطر الداهم إلا التصوف الصحيح، تصوف الجنيد السالك.

في إسلام التصوف

إسلام التصّوف هو هذا الإسلام القائل إنما سمّي المسلم مسلما بخضوع جوارحه لطاعة الله؛ فمعنى الإسلام هو إسلام الوجه لله، أي التذلل لطاعته والإذعان لأمره. ذلك لأن أصل الإسلام هو الإستسلام، لأن من استسلمتَ لأمره هو من خضعتَ لأمره. فالإسلام هو إسلام الإنسان نفسه كلها إلى خالقه، وفي هذا الإسلام تسليم من العبد لمشيئة الله وإيمان بأن مصيره لا يحتمه إلا ماشاءت المقادير. وهذا لب التصوف إذ السالك الصوفي يسهر على ترك نفسه في قيادة المقادير وتوجيه ربّاني.

وهو يفعل ذلك لأنه يعتقد أن العبد، إذ هو هكذا في استسلامه لله وخضوعه لمشيئته، فلأنه حر في هذا الإستسلام، لا يقر به لغير الله، ولكن يقر به بكل حرية وتمام الإرادة وإلا لم يكن استسلاما لأنه كان عن كره أو تحت ضغط أو قوة. لذا، فالإسلام أولا وقبل كل شيء سلام روحي ومعنوي ومادي، فلا إسلام اليوم غير الإسلام الصوفي، إسلام الروحانيات.

ذلك لأن قوة الإسلام في هذا السلام الروحي الذي يؤتيه للمؤمن، فلا يهاب شيئا لمعرفته أنه على السبيل السوي. وهذا السلام الروحي يجده المؤمن في مناجاته لله وفي تصرفه مع أخيه المسلم وغير المسلم حسب الأخلاق الإسلامية السنية، فلا ترى منه إلا المثل الطيب والخلق الحسن.

وطبعا، لا مكان لأي سلام روحي لمن أخذ بالمظاهر فتظاهر في إيمانه وأظهره مرائيا لا محتسبا لله أعماله؛ أو لمن ساءته أخلاق غيره فصرفته عن أخلاقه ودفعت به، بدعوى الدفاع عن الأخلاق الحميدة، إلى تجاهل ما وجب منه من تصرف مثالي وحرص على عدم تجاوز دوره في تقديم المثل الطيب وابتغاء الحسنى. فالله يؤكد على المؤمن الحق أن يتجاهل ما يصدر من تصرفات خرقاء عمن ساء خلقه، سواء أكان ذلك منه لامتحان هؤلاء أو لامتحان المؤمن نفسه في مدى صبره على السيئة ومداراته لها بالحسنى، ولا شيء غير الحسنى.

والسلام الروحي في تونس اليوم وجب أن تضمنه قوانين البلاد  ليصير القدوة المثلى للأجيال المسلمة الحالية وكل الأجيال القادمة، تونسية كانت أو عربية مسلمة أو حتى غير عربية وغير مسلمة. ويكون بالتنصيص في تلك القوانين على كل ما من شأنه أن يضمن للمخلوق الطمأنينة في قدرته على الحصول على رحمة الله الواسعة أيا كان ذنبه ما دام يصدق في توبته ويعود إلى محجة الإسلام، وذلك عندما تحصل له القناعة بعلوية الأخلاق الإسلامية وصدق رسالة الإسلام السماوية.

هذا لا يكون بداية إلا بإبطال كل القوانين الحالية المخزية المخلة بالحقوق والحريات،  بداية بعقوبة الإعدام لما فيها من رمزية تدلّل على الجرأة اللازمة لرفع كل ما تراكم على الدين مما يشينه. وذلك لأن قبض الأرواح هو من خاصيات الله وحده؛ ثم لأن هذا يضمن للعبد إمكانية التوبة والتكفير عن ذنبه قبل موته الطبيعي، إذا قدر له الله ذلك؛ كما يضمن توفر الفرصة، في حالة خطأ حصل في الحكم على مظلوم، في إمكانية تفادي الخطأ أو إصلاحه. وكم يزخر التاريخ الإنساني بمثل تلك الأخطاء القضائية التي تودي أحيانا بأرواح الأبرياء!

إن السلام المعنوي في الإسلام الصوفي لهو الحرص في الحياة اليومية للمؤمن على حرية العبد التامة في اختيار معتقداته وحريته في الرأي والفكر، وفي التعبير عنهما بطلاقة، إضافة إلى ضمان حريته الكاملة في تعاطي جميع الحريات الشخصية بدون مس بحرية الأخذ بها، بما فيها حرية الجنس بالنسبة للبالغين؛ فلا دخل للإسلام في ضمائر الناس ولا حد منه لحرياتهم الذاتية !

وطالما كان كل ذلك بالنصوص القانونية مضمونا، يكون تعاطي هذه الحريات بكل حرية دون خوف أو وجل من تكفير أو تجريم لتدنيس قداسة أو لعدم احترام مفهوم معين للدين. فاحترام الدين في احترام مبادئه، وهذه هي حرية المعتقد وحرية الرأي والفكر والتصرف الشخصي الذاتي دون رقيب؛ فلا إسلام دون سلام عقائدي وفكري!

وإسلام التصوف أخيرا هو سلام مادي لكل مؤمن، فلا يخاف على نفسه وروحه وأمواله وأهله في مجتمع حريات يحترم كل أفراده حرية غيره، فلا تبتدأ حرية الواحد إلا عند نهاية حرية الآخر، ولا تمتد حرية الواحد إلى ما يضر بحرية الآخر.

فالإسلام سلام في إقرار مجتمع مسالم، لا يُفرض الإسلام فيه على أحد، إنما تفرضه بدون عنف أو تعنيف أخلاق المؤمنين به وقدوتهم الحسنة وأعمالهم الطيبة التي هي أولا وقبل كل شيء في احترام كل خلق الله بما فيها الظالمة نفسها، وذلك بالدعوة لها بالهداية، ولا شيء آخر سوى إعطاء المثل الحسن والقدوة المثلى.

هذا هو الإسلام الذي يميز السجية الشعبية التونسية وإن اندثرت معالمه ظاهريا، وهو الذي يتوجب إحياءه من جديد بتونس حتى تكون بلادنا محجة الطريق الصادق إلى الله، طريق السلام السمحاء. ولا شك أن الفرصة متاحة اليوم للساسة التونسيين، في خضم ما يقع بالبلاد، حتى يبرهنوا على مدى رهافة حسهم في الأخذ بروح الإسلام السنية والتدليل على سماحته ورحابة صدره وذلك بإبطال كل ما فسد في الدين  والأخذ بكل ما حصل من تطور في المجتمعات البشرية مع تطعيمه بكل ما أتى به ديننا من حسنات تجعل منه بحق خاتم الأديان لا في عدل تعاليمه فحسب، بل وأيضا في علميتها وكونيتها.

إحياء إسلام التصوف بتونس  

إن ضرورة إحياء التصوف الإسلامي التونسي لمتحتّمة للتصدي الفاعل والفعال للتغريب الذي يعاني منه  الشعب دون أن يكون ذلك مطية لأسلمة أو تعريب يكون تغريبا جديد ! فلا شك أن في تقيييم العديد من أهل الإسلام الرسمي لوضع التغريب بتونس تحامل فظيع، خاصة حول التوجهات الحداثية التي ميّزت عهد الإستقلال.

ذلك لأن ضرورة التعريب لا تنفي البتة الحتمية الانفتاحية بالبلاد التونسية. وقد تنبه بعضهم إلى ذلك واعترف به، ولكن كان ذلك في زوايا وحيثيات من تبسطهم في الصورة القاتمة التي يرسمونها للبلاد وتوسعهم في نقدها دون موضوعية كاملة، بلا استثناءات فيها.

نعم، لا مراء في أن التونسي اليوم غريب في لغته وفي دينه، ولكن لا يخص ذلك التونسي المتغرب وحده، المتناسي لمقومات ذاته، بل يشمل حتى التونسي المستعرب، الآخذ بمباديء شخصيته وحضارته العربية الإسلامية، إذ هو يأخذ بها اليوم مع نزعة استبداية في التعريف بحقيقتها ورفض لكل ما للحقيقة من روافد هامة.

فالحق يبقى هذا التمشي والسلوك نحو أفقه؛ فانتفاء الوصول إليه دائم؛ والخطأ، إن حصل وكان صادقا ونابعا من الرغبة الأمينة للوصول إلى أفق الحقيقة، يقرّب منه ولا يبعّد عنه، لأنه يمكّن من استكشاف الغلط والاقتراب من الصحة. ولا شك أن ذلك هو كالأفق تماما حين تغطّيه السحب ثم تنقشع؛ فليست الحقيقة تلك السحب العابرة، بل ما وراءها الذي هو دوما مقصد الساعي الحقيقي إليه، الراغب في البقاء على الاتجاه الصحيح.

لا مجال عندها إلى تكفير توجه أو تلبيس رأي، كما جرت العادة به عندما تداعى الفكر الإسلامي نحو الأسفل وانغلق كالمريض المنكمش على نفسه، يخاف أي جديد فينبذه كبدعة حتى وإن كان ذاك الجديد نفس المريض ذاتها التي تتوق إلى شيء حديث في حناياها لتصحّ وتحيا مجدّدا، لأن ذلك من سنة الله في خلقه، برأه خالقه لكي يموت فيحيا ويموت ليحيا!

نعم، قد ضحى العهد البورقيبي بشيء عزيز على التونسي ألا وهو ذاتيته العربية الإسلامية، لكن كان ذلك لأجل شيء عزيز آخر رآه أعز، ألا وهو الانفتاح على الغير؛ هذا، وقد فعل ذلك غيره قبله، إذ فعل الرئيس التونسي الأول ما فعل احتذاء بالمثل التركي. فالخطأ كل الخطأ اليوم يكون في الردة إلى الوراء النابع من التمشي الضروري والمنطقي لاستعادة الذات بالتضحية بما هو امتداد طبيعي ومصيري لهذه الذات التونسية، أعني انفتاحها على الآخر.

لذا، أرى لزاما على الحزب الإسلامي – وقد رفعه القدر إلى المستوى الفاعل في الحكم –  وعلى زعيمه المتميز بقدر كبير من الذكاء والفطنة، التفطن إلى التحديات الكبّار التي تجابه الإسلام بتونس، والانتباه إلى مثل هذا الخطر المحدق ببلدنا وعقليته الموغلة في القدم والعمل على تفادي هذا الذي أراه في صفوف حركة النهضة النابع من الغلوّ في ذاك الحق الذي ليس هو إلا مما يراد به باطلا.

فلا شك أن أهم عقبة اليوم تكمن في تحصين المسار الإسلامي بتونس من مثل هذا الانزلاق وتمنيعه من آفاتها. فكيف يكون ذلك؟ أية حصانة يمكن لها أن تحمي التوجه العادل لتعريب ذهنية التونسي دون المساس بأس ّهام فيها وذلك بتغريبها عن الواقع المحيط بها؟ أي مناعة تمكّن من العودة إلى معرفة القرآن ودراسته كركن لا محيد عنه لاسترجاع مقومات ذاتيتنا دون أن تكون نبذا لركن آخر أساسي من هذه الذاتية؟ وهي بدون أدنى شك في امتداد جذورها إلى ما قبل الإسلام وقبل بزوغ فجر العربية بربوعها وانفتاحها على كل الحضارات والتيارات الفكرية دون استثناء.

رأيي أن الفقه الصوفي هو خير البديل للسلفية، والعالم الصوفي في صفائه الأول أقرب للإسلام الحق من الفقيه السلفي؟ قناعتي هي أنه لا مناص للإسلام المابعد الحداثي من الأخذ من منبع إسلامي بحت، ثري وغزير، كالمنبع الصوفي لاستعادة روح الإسلام الزكية التي قضت عليها أو كادت عقلية التحجر السلفية.

ولعله مما يؤكد القابلية بتونس لهذا التوجه مركزية التصوف في التدين الشعبي التونسي؛ أفلم يؤكد على ذلك عبد الواحد ابن عاشر الأندلسي الفاسي، أبرز علماء الفقه المالكي، في « المرشد المعين على الضروري من علوم الدين »، منظومته التي تعتبر درة من درر مذهب إمام دار الهجرة إذ جمعت الفقه المالكي ورتبته أحسن ترتيب وقربته إلى المبتدئين أبدع تقريب.

ففي هذا المتن القيّم والمرجع الهام في الفقه المالكي، يذكّر ابن عاشر بمركزية السلوك الصوفي بالإضافة إلى الفقه المالكي والخصوصية الأشعرية، ويؤكد ذلك بمقطع شهير، إذ يقول في مقدمته :

يقول عبد الواحد ابن عاشر | مبتدأ باسم الإله القادر

الحمد لله الذي علّمنا | من العلوم ما به كلفنا

صلى الله وسلم على محمد | وآله وصحبه والمقتدي

وبعد فالعون من الله المجيد | في نظم أبيات للأمي تفيد

في عقد الأشعري وفقه مالك | وفي طريقة الجنيد السالك

ومن المهم الإشارة هنا لورود باب كامل في هذا المتن عنوانه : كتاب مباديء التصوّف وهوادي التعرّف، إضافة للأبواب الفقهية المعهودة ككتاب أم القواعد وما انطوت عليه من العقائد، وفصل في قواعد الإسلام، ومقدمة من الأصول معينة في فروعها على الوصول.

ولعله من المفيد التذكير ببعض من أبيات هذا الباب المخصص للمباديء الصوفية التي يختم الإمام متنه بها، فيقول مثلا:

وحاصل التقوى اجتناب وامتثال | في ظاهر وباطن بذا تنال

فجاءت الأقسام حقا أربعة | وهي للسالك سبل المنفعة

يغض عينيه عن المحارم | يكف سمعه عن المآثم

كغيبة نميمة زور كذب | لسانه أحرى بترك ما جُلب

يحفـظ بطنه من الحرام | يترك ما شبّه باهتمام

يحفظ فرجه ويتقي الشهيد | في البطش والسعي لممنوع يريد

ويوقف الأمور حتي يعلما | مالله فيهن به قد حكما

يطهر القلب من الرياء | وحسد عُجب وكل داء

واعلم بأن أصل ذي الآفات | حب الرياسة وطرح الآتي

رأس الخطايا هو حب العاجلة | ليس الدواء إلا في الإضطرار له

لعل للنهضة ولزعيمها، نظرا لما يكنّهم الدعم الغربي اليوم، من الصلف والاعتداد بالنفس الكثير، مما يجعلهم يردّون على الدعوة لإحياء علوم الدين بتونس بإثارة مسألة العقبة الكأداء التي تبقى قائمة في نظرهم والمتمثلة في العلاقة المشكلة بين الرسم والمقصد أو كيفية التوفيق بين المقصد والنص أو علاقة العقل بالوحي. فهي التي كرّست إلى اليوم إجهاض كل عملية تحديث للإسلام باسم الاحترام لقدسية النص القرآني ومرجعية السنة!

إنهم يعرضون لهذه المسألة، ولكن حديثهم دوما ليس فيه شفاء للغليل إذ يترك الموضوع في حلقة مفرغة كأن التفكير فيه أساسا عقيم والحل فيه من رابع المستحيلات. فنحن إن سلمنا بذلك، أي صرف مفهوم قدسية الوحي بالمعنى المتعارف عليه، والذي لا صحة علمية له، إلى جمود النص في حرفه وانتفاء كل روح فيه، كأن الروح في الإسلام غير أزلية، فأين تكمن عندها علوية العقل البشري كما أشاد بها القرآن، وأين قيمة هذا العقل البشري الذي إذا تعلقت به همة قوية ذهبت به حتما إلى ماوراء العرش؟

من ينكر أن التفكير بهذا الشيء ليس بمستغرب وليس ببدعة إذ رأينا المتصوفة الأوائل قد عملوا به فحصلوا على الكشف وتحرروا من باطل الظاهر لصادق الباطن وقد كانوا من أفقه الناس وأحسن الفقهاء دينا وعلما وعملا بالدين الإسلامي على أفضل وجه وخير سنة.

فمنهم من كبار الفقهاء من مختلف المذاهب ما لا يعد ولا يستهان به أمثال الجنيد الذي كان يدرس الفقه على مذهب الإمام أبي ثور، وعبد القادر الجيلاني الذي درس الفقه على المذهب الحنبلي، والغزالي الذي درس الفقه على مذهب الإمام الشافعي.

نعم، لئن مدح ابن تيمية صوفية الحقائق، فقد كان رأيه أكثر تحفظا في بقية المتصوفة، صوفية الأرزاق وصوفية الرسم، كما يقول، فعد البعض من الصنف الأخير من المتفلسفة الذين يصوغون مباديء ومذاهب فلسفية غريبة عن الإسلام سبق وجودها في أديان ومذاهب قديمة يونانية وبراهمية فاعتبرهم من الخارجين بالتصوف إلى مزالق الكفر والإلحاد.

لكن هذا هو رأيه واجتهاده، وهناك من يجتهد ولا يصيب؛ فقد رأينا غيره من الفقهاء الأجلاء لا ينحون منحاه فلا يكفّرون مثلا ابن عربي ونظرته التجديدية للإسلام التي تجعل منه بحق دين كوني علمي. ومن هؤلاء العالم الفقيه السيوطي والفقيه ابن حجر الهيثمي، وطبعا الشاطبي،

التصوف هو الإسلام الأصيل

إن تجذر التصوف في الروح الإسلامية الأصيلة لا شك منه؛ أما ما نراه من مظاهر شعبية مزرية آلت إليها الصوفية عند البعض، فليست هي ميزة التصوف، بل ما يجابه الشعب به الدجل الحاصل عند أهل التزمت؛ وطبعا يأتي الغلو بالغلو، لا محالة. لذا، فإن حالة الرفض التي نراها عند البعض تجاه الزوايا الصوفية غير منصفة البتة للتصوف وأهله، إذ هي تنكر كل ما أتى به من خير للإسلام وما له من أيادي بيضاء على دين القيمة.

فلئن غالى البعض من متصوفة هذا الزمن في عديد من المظاهر التي لا تشرّفهم بل تسيء إلى ماضيهم، إذ هي إلى الدجل أقرب، فذلك لا يعني أن هذه حال التصوف عموما؛ أليست الشعوذة والتطرف والفساد عند السلفية أيضا رغم أنها تدّعي صحة الإسلام؟

الحقيقة أن كل ذلك يتنزّل في خانة ما يميّز العصر الحالي ومجتمعاتنا اليوم، متخلّفة كانت أو متقدّمة، أي شيوع التدجيل والكذب والمخاتلة. فكيف يسلم عندها الصوفي من صفات عامة ونحن نعلم القاعدة المعروفة بعلم الاجتماع القائلة بقوة قانون المحاكاة؛ وليس ذلك إلا ما يُعبّر عنه مثلنا الشعبي بمقولة : اعمل كجارك أو نقّل دارك !

أما الثابت التاريخي فهو في أن الإسلام الصوفي من إسلام أهل الصفة؛ فمن هؤلاء جاء المصطلح الأصح رغم أن البعض يعزوه للصوف، وليس هذا إلا بسبب كثرة ذلك اللباس عند أهل الصفة الذين كانوا كلهم من الفقراء.

وطبعا لا علاقة للتصوف بما يراه البعض، ممن يريد له أصولا غريبة عن الإسلام،  بتعبير الحكمة الإغريقي، إذ هو يسعى جزافا لابتداع منبت خارج عن الإسلام للصوفية، بينما صحة تجذرها في الحضارة العربية الأمازيغية الإسلامية لا ينتطح فيها عنزان؛ فهي الثابت ثبوت الشمس في ربيعة النهار.

كما نعلم، أهل الصفة هم أوائل المسلمين من أهل الفاقة الذين هاجروا إلى المدينة، فكانوا يعيشون تحت صفة مسجد النبي؛ من هنا أصل التصوف، أي أنه الإسلام الأصيل، قبل الإسلام السلفي الذي ظهر كردة فعل على الهجمات الإمبريالة التي عرفها ديننا لاحقا عندما أهمل أصوله وأفل نجم عزه.

الإسلام الصحيح إذن هو الإسلام الصوفي، وهو  أيضا إسلام الحضارة، بينما السلفية ليست إلا إسلام بداية الانحطاط ثم فحشه. هذا هو الذي يفسّر كيف كان فهم التصوف للإسلام فهما عقلانيا متفتحا حضاريا، بينما لم يميّز السلفية إلا التعلّق بحرفية النص وظاهره في رسمه، لا لشيء إلا لأن الخطر المحدق بمصير الإسلام كان يفرض مثل ذلك التعلق ويحتّم ردة الفعل تلك بالتمسّك، ولو شكليا، بحرف الدين لا باطنه ومقاصده الذي أصبح من الثانويات في حالة الخطر.

لذا، إن كان تاريخيا للسلفية الدور الهام في المحافظة على الإسلام زمن انحطاطه، فذلك لا ينفعه اليوم بتاتا إذ توطد الدين في قلوب المؤمنين الطامحين لبناء حضارته من جديد؛ ولا يكون هذا اليوم بدون اجتهاد متجدد، أي بإسلام التصوّف.

لقد سهر على ذلك أفاضل من أهل الإسلام، حرصوا على الأخذ بالتصوف أو الاغتراف من ينبوعه السخي، كما فعل الإمام الشاطبي في الجهاد الفكري والأمير عبد القادر في الجهاد الأكبر. وبما أننا ذكرنا الصوفي الأمير في اليومية السابقة، لنقل كلمات في الإمام الشاطبي الذي ساهم بقسط وفير في إحياء الفقه السني بفقه التصوّف.

هناك من لا يزال يعتقد في دوام التناقض بين الفقه الصوفي والفقه السنّي إذ كانت العلاقة بينهما لمدة طويلة متنافرة. إلا أن هذا أصبح اليوم خرافة، إذ حصل الاتفاق، وهو اليوم من المسلّمات. فقد رفع الاختلاف من العقول فقهاء أجلاء صالحوا بين الفقهين، كالقشيري أولا برسالته(توفي في 465 هجرية|1073 مسيحية)،  ثم الغزالي خاصة بإحيائه(توفي في 505 هجرية|1111 مسيحية)، وهو المصنّف الذي أكسب التصوّف شرعية سنّية كما جسّدها الشاطبي بعد ذلك  في كتابيه الجليلين الاعتصام والموافقات (توفي في 790 هجرية|1388 مسيحية).

لا شك أن أهل السنة النزهاء لا يقولون اليوم إلا بنبوغ الفقه الصوفي خاصة بعد أعمال هذا الإمام الجليل الذي أحدث ثورة في القرن الثامن هجري في ميدان الفقه الإسلامي بمقولة مقاصد الشريعة. لنسق هنا فيه ما يقوله أحد أبرز المفكرين المغاربة، محمد الفاضل ابن عاشور، متحدّثا عن كتابه الاعتصام إذ يعدّه : «باعثا من أقوى بواعث النهضة الإسلامية الحاضرة استندت إليه الحركة السلفية في المشرق والمغرب منذ أخرجه للناس العلاّمة المرحوم السيد محمد رشيد رضا من مطبعة المنار سنة 1332 هجرية » .

ويقول أيضا الشيخ التونسي عن كتاب الشاطبي الثاني المهم، أي الموافقات : «وظهرت مزيّة كاتبه ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله لمّا أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدّات الحياة العصرية، فكان كتاب الموافقات هو المفزع وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة وصورة الحياة المختلفة المتعاقبة».

الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنه لا أحد ينكر اليوم تأثير الشاطبي في روّاد الحركة الإصلاحية الإسلامية الحديثة، وقد تحدّث في ذلك بإطناب العديد ممن يريد الخير للإسلام، نكتفي هنا بالإحالة على أحدهم، حمادي العبيدي في مؤلفه : الشاطبي ومقاصد الشريعة. فليس من الضروري الكلام باستفاضة في تصوف فقه الإمام الشاطبي وتأثره لا بروح الصوفية فقط بل وأيضا وخاصة بنص فقههم.

لقد اعتبر الشاطبي الصوفية في الموافقات، «صفوة الله من الخليقة»، وهي كذلك لما تميّز به ويتميّز أهل التصوّف من تمسّك بالدين الصحيح والتزامهم بالسنة واجتنابهم البدعة وعملهم بمقتضى الأصول؛ فهم بالسلف الصالحون مقتدون، وبمكارم الأخلاق ومحاسن الشيّم متحلّون. لذلك فهم يمثّلون السلوك الإسلامي المثالي الذي ينبغي أن يُعمّم، حتى يُستعاد ذلك العصر الذهبي الذي كان وازع الفرد فيه من ذاته لا من خارج؛ ولذلك استحب االشاطبي العمل بمقتضى الأصول المكية وامتدح المتصوّفة لعملهم بها.

ولعل من أبلغ الأمثلة لهذه المزايا مثال الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان مناضلا ضد الاحتلال الغاشم لبلاده، مجاهدا أكبر للنفس الأمّارة بالسوء كما سبق أن قلنا في طرحنا حول الجهاد،؛ ولعله أفضل الممثل لضرورة المرور من اهاد الأصغر المنتهي صلوحيته إلى الجهاد الأكبر المستدام.

إن الزوايا الصوفية تبقى اليوم منارات مضيئة في سماء الإسلام النيّر، وهي كذلك خاصة وقد ادلهّمت بأفاعيل المتزمّتين من أهله ممن ينحو باللائّمة على الصوفية بينما هي الفهم الإناسي الوحيد لرسالة التوحيد، والذي من شأنه إنقاذ هذا الدين من الزوال الذي تسعى إليه هرطقات مثل الوهابية والداعشية.

إن الزاوية الصوفية اليوم بتواجدها بكل مكان من شأنها أن تكون الضابط والحارس على ألا يحيد المسجد الجامع    عن واجبه في خدمة الدين، فلا ينزلق إلى بتصرفات هوجاء ودعوات مقيتة لا تمت بصلة للإسلام.    فالزواية لها أن تكون الرقيب الحريص على العناية بواجب المسجد في رعاية حقوق الله. لذا، من الضروري ضمان استقلالها وحمايته حتى تكون السد المنيع ضد من يتاجر بالدين مستغلا المساجد لفعله الشنيع، فتكون الزاوية عندها كما كانت دوما، الرباط المنافح عن الدين والبديل الرادع لمثل ذلك الانحراف بمساجد الإسلام عن مقاصدها.

الصوفية إسلام زمن الثورة           

كما بيناه أعلاه،  ليس لأحد أن ينكر اليوم ما في الإسلام التونسي من ثوابت صوفية، بما أن المالكية والأشعرية لا يستقيمان في إسلام ربوعنا التونسية بدون فكر الجنيد السالك وعمله الصوفي.

إلا أن المؤسف حقا هو أن ما رسب من الفكر البورقيبي في التجديف على الصوفية ما زال قائما في النفوس، بل وزاد الطين بلة ما تقوم به من هجمة شرسة السلفية لطمس ما ثبت زمنا طويلا كقلعة من قلاع الإسلام النير بالبلاد التونسية التي أرضها إمتاع ومؤانسة كما دعا إليه أهل التصوف ومثلوه خير تمثيل.

لقد عمل بورقيبة بدعواه تطوير    الإسلام من الداخل باعتماد الصدمة النفسية والاستفزاز مع رمي أهل التصوف بالشعوذة والتهريج، عمل موضوعيا لصالح ردة الإسلام المتزمت التي نراها اليوم في بلادنا. فبورقيبة بفعله اللامنهجي، رغم ادعائه المنهجية، حفر بنفسه قبر مشروعه التنويري وهو يظن أنه يدق مسامير نعش الإسلام الظلامي.

فها نحن نكابد اليوم بشاعة ما تقوّل به المجاهد الأكبر عن الصوفية، فنعاني من هجمة أعراب الإسلام على تونس وكأنها لم تقاسي منها سابقا إذ أتلفت حضارتها وأدخلت بالبلاد نعرات الجاهلية التي كان لها االتصوف أمنع الحصون.

ولعله من الضروري أن نبين هنا أنه لا استهجان من طرفنا في استعمال لفظة الأعراب، بل مجرد إشارة قرآنية، لا تلميح لخاصية أو تمييز إجتماعي أيا كان، إذ هو مجرد إلماع لما يقول الإسلام في الموضوع، بما أنه يندد بإيمان الأعرابي الذي ليس فيه أي شيء من الدين القيم، الإسلام العربي القح.

إن إسلام الأعراب اليوم لهو الإسلام السلفي كما نراه في شوارعنا، إسلام البغض والكراهية والحنق والعنف؛ ولا عجب في ذلك بما أنه إسلام ظهر في زمن الانحطاط فتميز بما تتميز به كل فترة منحطة في تاريخ الشعوب من انزواء وانغلاق ورفض للآخر، لا من باب المعاداة ضرورة، بل من باب ما هو أهم، أي الخوف منه وعلى النفس وحفظ الذات من خطر الزوال والذوبان.

فهذا هو الإسلام السلفي، وقد كان فعالا وضروريا في مدة انحطاط الإسلام. لذا، لم نره في فترات عزة الإسلام ومناعته، أي في فجر وضحى وصدر الإسلام، وقد مثلها خير تمثيل أهل التصوف، أبناء وحفدة وسلالة أهل الصفة، أي أفضل ما كان من أسد الغابة، صحابة الرسول الأكرم.

إن انبعاث الثورة في تونس له من العروق الصوفية الكثير؛ ولا فائدة هنا من التذكير بما ثبت عن المقربين للرئيس المخلوع اعتقاده الراسخ بأن عهده ما ولى وانقضى إلا نتيجة لما اقترف في حق ولي سيدي الظريف الذي دعا ربه للانتقام له بمحو حكم المخلوع.

فالتاريخ يثبت لنا على مر الأزمن أن إسلام البداية، الإسلام الثوري الأصيل، كان دوما إسلام الصوفية الذي نجده في كل الفترات الثورية الإسلامية. فأهل التصوف كانوا من أبرز وأعظم الصحابة قدرا ومن أجل أتباعهم، فخلدوا نظرتهم الصحيحة والحصيفة للإسلام السرمدي.

إسلام الصوفية الحقيقي، إسلام الجنيد مثلا، كان متزامنا مع انبعاث ديننا الحنيف الذي جاء كثورة عقلية، فهو إسلام الثورة. لذا، ففي تونس الثورة، لا إسلام إلا إسلام الصوفية، صوفية الحقائق كما أقر بذلك منظر السلفية وزعيمها الأول ابن تيمية بنفسه.

وإن الإسلام في تونس اليوم، تماما كثورتها، أمام هذا التحدي الكبار الذي يقتضي العمل على إعلاء مباديء المحبة والتآخي والتسامح، فهي الرعاية الحقيقة لحقوق الله في الإسلام وفي هذه الربوع المسالمة. فلا مكان للخنوع السلفي والتقديس لأصنام مادية ومعنوية لم يعد لها مكان في عقلية شعب تونس الثائر.

إن الصوفية اليوم هي جهاد أكبر ضد كل معالم الخضوع للفكر الأجنبي عن هذه البلاد، أيا كان مأتاه؛ وهي أيضا التأكيد الأبلغ لمطمح الشعب التونسي المسلم، ألا وهو التحرر من ربقة كل تسليم لغير الله والكرامة بمباديء دين شديد التسامح في إنسانيته. ولا يكون ذلك إلا بإسلام هو أولا وقبل كل شيء سلام مع النفس ومع الآخر، كل آخر. وهذا يأتي بالجهاد الوحيد الممكن اليوم في الإسلام، ألا وهو الجهاد الأكبر، جهاد النفس لشوائبها.

لذا، أحسن من مثّل ويمثّل هذا الجهاد الأكبر وطبّقه ويطبّقه لهو الفكر الصوفي وسلوك أهل التصوف الذين لا يعتقدون في صحة     الإصلاح إلا بالصلاح، والصلاح لا يكون إلا بإعطاء المثل الأعلى وتقمص مكارم الأخلاق التي جاء الرسول لإتمامها. وهذا هو الإحسان الصوفي.

إن الثابت اليوم لهو حاجة البلاد الإسلامية لأن تتعاطى مع ثوابتها ومعتقداتها بكل موضوعية وعلمية، ولا يكون ذلك كما فعله الرئيس بورقيبة بهلوسة نرجسية حتى وإن كانت باسم العقل. فلا عقل اليوم يكون علمويا، إذ العقل الحق هو هذا العقل الحسي الذي يأخذ بأهم مقومات الذاتية البشرية، وهي في يومنا هذا شديدة التعلق لا محالة بما يميز الحداثة الغربية من تكنولوجيا، ولكن أيضا شديدة الأخذ بالروحانيات وهي أخص خاصيات ما يُعتبر من التقاليد مما رفضه العلم كما عهدناه سالفا.

ولا شك أن تونس، كما هو الحال في العالم أجمع، تعيش فترة ما بعد الحداثة، فلا مناص من التنبه إلى ذلك والعمل عل تغيير أسس تفكيرنا ومرجعياتنا النظرية بما يتناسب مع مقتضيات الزمن الراهن. وهذا يكون، على المستوى الديني، باعتماد قراءة جديدة للإسلام، خاصة وأننا لا نعدم من تجربة رائدة مثّلها التصوف الذي أعطى ولا زال يُعطي للإسلام أشرق صورة وأفضل قراءة على الإطلاق تؤكد نزعته العلمية والعالمية في نفس الآن مع رسوخها في روحه ومقاصده السنية التي هي أساسا أنسانية وروحانية.

إن القراءة الصوفية للإسلام هي التي جعلته في الواقع الدين القيم الكوني، خاتم الأديان، فلا غناء للبشر عن الدين في هذا الزمن، زمن ما بعد الحداثة. وما من شك أن دين الإسلام بروحانياته وأخلاقيته الإنسانة لأحسن من يمثل هذا الدين ما بعد الحداثي لاعترافه بكل الأديان التي سبقته بما أنه خاتمها.

خاتمة القول أن السلفية الحقة، أي تلك التي تأخذ بأفضل ما أتى به السلف الصلاح، لهي الصوفية، تلك التي صرّح أحد أعلام السلفية، تقي الدين ابن تيمية في فتاواه، بشديد احترامه لها، ناعتا إياها بصوفية الحقاق، كما سبق أن قلنا. لا جرم، إن التصوف هو بلا كذب سلفية الحقائق مع تفشي سلفية الأكاذيب اليوم الآخذة بالإسرائيليات، ناقضة ما جاء به الإسلام من إصلاحات للإبراهيمية. هذا ما نبيّنه في اليومية الموالية.

………………………………………………………………

للمزيد

  • الدكتور محمد بن الطيّب : فقه التصوف، بحث في المقاربة بين الأصولية الفقهية عند أبي إسحاق الشاطبي، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 2010
  • حمادي العبيدي: الشاطبي ومقاصد الشريعة (دار قتيبة، بيروت، ط 1، 1992
  • محمد الفاضل ابن عاشور : أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، مكتبة النجاح، تونس، د. ت.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.