الرئيسية » (18) الجهاد اليوم هو الأكبر، أما الأصغر فهو إرهاب

(18) الجهاد اليوم هو الأكبر، أما الأصغر فهو إرهاب

 

الزيتونة مأذنة

يكتبها فرحات عثمان

 صدق أمير الشعراء أحمد شوقي حين قال :

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همُ ذهبت أخلقهم ذهبوا

إذا رشد المعلم كان موسى *** وإن هو ضل كان السامريا

إننا اليوم في العديد من مسائل الحياة نرفع الدين والأخلاق كما يضع البقال المنافق عندنا أفضل السلعة أعلى ما يتحيل من بعد لبيعه للمستهلك من سقط الخضر والغلال، مع منع المساس بها.

هذه حالنا مع العديد من مسائل الدين، ومنها قضية الجهاد التي أصبحت صناعة للموت عند من يتاجر بالإسلام اليوم، بينما لا جهاد اليوم إلا الجهاد الأكبر، أي مجاهدة النفس. أما ما كان من جهاد مسلح، وهو الجهاد الأصغر، فقد انتهى ضرورة مع قيام الدولة الإسلامية، تماما كما انتهت الهجرة بعد الفتح؛ لهذا، ليس الجهاد الأصيغر اليوم إلا عنفا غير مشروع، أي إرهابا !

فهلا صرّح بذلك فقهاؤنا وكفّوا عن المراوغة والتنصل من مسؤولياتهم إزاء الدين وتجاه الشباب المغرّر به الذي يثق بقولهم، فيرمي نفسه وغيره للتهلكة واثقا في كلام من لا يجرؤ على بيان أن الجهاد الأصغر انتهى، مما يجعل قيم ديننا تُدنّس كنجوم في التراب تغور !

إن مَثَل المسلم اليوم كمثل الساعي لغاية، فهو على محجة الطريق لا يفتأ عن السير؛ إلا أنه لا ينتبه إلى سهيه عن القصد السوي، فعوض أن يُيمم الشمال، تراه يسير في الاتجاه المعاكس ولا يدري، همّه السير ومواصلة السير لا غير، حتى وإن كان فيه ضياع القصد؛ وهذا عين النوك !

فإن كان يسير على السبيل السوية، أي سبيل الدين، آخذا بحرف الشريعة، فإنه لا يسير حسب مقاصدها، تماما كمن لا يسير في الإتجاه المطلوب؛ فهو يمشي القهقرى عوض التقدّم إلى الأمام نحو هدفه المنشود. هذا ما يحدث مع فهمنا للجهاد في الإسلام بما أنه أصبح مطية للإرهاب لا لتزكية النفس.

اللخبطة القيمية والدينية  

ما يميّز الإسلام اليوم هو هذه اللخبطة القيمية التي يعيشها أهله مما جعله ظلاميا بعد أن كان تنويريا. ومن معالمها، في نطاق الجهاد المسلّح، المفهوم الخاطيء للشهادة والشهيد كما نبيّنه في ما يأتي.

نحن نرى شبابنا تهزهم غيرتهم على عقيدتهم وحميتهم الوطنية للتضحية بأنفسهم ابتغاء الشهادة ولأجل أن يصبحوا شهداء؛ وهم في هذا ينصتون إلى دعاة حازوا ثقتهم؛ فإذا هم يخفونهم حقيقتما .

مفهوم الشهادة والشهيد عند هؤلاء الشباب المغرور خاطـيء تمام الخطأ؛ فهو يحملهم على الموت في سبيل الله بينما حقيقة الشهادة في الإسلام الصحيح هي العكس تماما، إذ هي البقاء على الحياة؛ فلا شهيد إن مات لأن الميت لا يشهد ولا يأتي بالخبر والشهادة !

ثم هؤلاء الدعاة يشجعون الشبيبة على جهاد صغير مغالطة أيضا إذ، كما نبيّنه أيضا لاحقا، لم يبق إلا الجهاد الأكبر، جهاد النفس الذي تصرف شبابنا عنه مغالطة المغالطين. بهذا أصبحنا اليوم في قعر الانحلال الأخلاقي، يتمعش منه دعاة التزمت، هذه النظرة الفاحشة للأمور التي تجعل من الحرية الشخصية دعارة ومن أحاسيس الحب رذيلة ومن نقاء السريرة وحسن النية عهرا وفسادا.

متى كان مثلا عدم احترام تعاليم الدين سببا في فسادٍ أعظم وقد أكد الإسلام على حرية العبد وتمام حقه حتى في الخطأ بأن مكنه من ذلك بإيجاد الكفارات والذرائع الشرعية؟ ومتى كان لمؤمن الحلول محل الله لمحاسبة غيره ومعاقبته، وليس ذلك إلا لربّه وحده؛ فهل في الإسلام كهنة وأحباركنيسة؟ فما هذه الأصنام المعنوية التي نقيمها في الدين القيم مما يجعل حمل رشاش لقتل أبرياء أهون من لبس تبان قصير أو حب مثلي أو جنس آمن بين بالغين؟

إن تفشي التزمت هو أساس تفشي الإرهاب، إذ هو اليوم أولا في الأذهان؛ فلا مجال لمقاومة العنف المادي إلا بالقضاء على منابعه الذهنية، فهي المسؤولة على الضحايا الفكرية التي هي مسؤولة على ضحايا الإرهاب المادية.

لنذكّر هنا ما كتب على صفحته الخاصة بالفايسبوك سيف الدين الرزقي، الإرهابي مرتكب جريمة سوسة؛ كتب ما يلي: « إذا كان حب الجهاد جريمة، فليشهد العالم إني مجرم ! » مثل هذه من المقولات نجدها عند العديد ممن يدّعى انتماءه للعقلاء في هذه البلاد من الساسة والفلاسفة والفقهاء.

لذا يتعيّن التصدي في أقرب وقت لهذا الإرهاب الذهني وهذه اللخبطة القيمة لوضح حد لتهافت قراءتنا لدين الحب والسلام التي جعلت منه دين الحقد والحرب !

الإرهاب الذهني في كراهة الآخر المختلف

الإرهاب ليس ما نراه فقط من ضحايا أبرياء ودماء أُهدرت باسم الإسلام، بل هو أساسا ما لا نراه؛ إذ تسبق كل عملية إرهابية عمليات غسل دماغ. لقد أصبح الإرهاب عندنا أولا وقبل كل شيء في الذهن؛ فهو هذا الفكر الفاسد والمفهوم الخاطيء للدين الذي لا نعيره اهتماما كبيرا، بينما لا مناص للتعرض له ومقاومته إذا أردنا حقا مقاومة الإرهاب والتوصل للحد منه ثم القضاء عليه.

مثلا، لو عدنا مجددا إلى عملية سوسة، لنا أن نتساءل : ما الذي دفع بفتى متعلّم إلى كراهة غيره إلى حد قتله إذا لم يكن ذهنه الفاسد، وقد أُعد لذلك من طرف زبانية موت في هيأة شيوخ علم، وليسوا إلا شياطين الجهالة الجهلاء والفساد الأعظم؟

إن الإرهابي التونسي ما كان ليقدم على فعلته الشنيعة تلك إذا لم تكن يشجعه في ذلك فكر متزمت متغلغل لا في النفوس والأدمغة فقط، بل وأيضا في التصرفات اليومية التي تشين فهم ديننا بالانحراف به عن سماحته وقبوله بالغيرية والحرية البشرية تامة لا منقوصة.

ففي بلادنا، رغم ما أتى به الدستور الجديد من حقوق، ورغم أن البلاد في حالة استنفار قصوى ضد الإهاب، نرى الشرط تتعقب الشباب لتمنعهم من حقهم في حرياتهم، كتتبع المفطرين علنا في هذا الشهر أو من يشرب خمرة  أو حتى من يلبس تبانا قصيرا، بينما كلهم سلم لغيرهم، لا يمدّون أيدهيم للإساءة؛ فهلا تتبّعت الشرط من يحمل الرشاش ويمد يده على غيره!

كل هذا باسم القانون لأنه لم يتم بعد تنقيح كل النصوص المشينة الني تعتدي على الحريات فتخلق في الأذهان الإرهاب المعنوي الذي هو رفض الآخر المختلف وحقه في الاختلاف، مما يغذي حتما الإرهاب المادي.

إن العمليات الإرهابية ببلدنا وخارجه ليست إلا تبعات منطقية لكراهة الآخر المختلف، وهو التربة الخصبة للإرهاب الذهني واللخبطة القيمية التي نعيشها بتونس وسائر البلاد العربية المسلمة، والمتأتية من فهمنا المتزمت لديننا الذي نجعل منه دين النقمة بينما ليس هو إلا دين الرحمة.

حتى نخرج من وضعنا المخزي الحالي، من المتحتّم أن ننقّي بجدية، في نطاق غربلة قاسية، تصرفاتنا اليومية الرافضة للآخر المختلف، القامعة لحرياته. هذا يقتضي بالإساس القبول بالغيرية، أيا كانت، بداية بإبطال كل ما رسب في ديننا وثبت في قوانينينا، ومرورا بتصرّفاتنا اليومية وما فيها من تحديد لحريات الناس الشخصية ونبذ للآخر وكراهة للمختلف. فكل ذلك يزرع الإرهاب المعنوي في العقول وينمي الإرهاب المادي بأن يجعل من حقوق المؤمن الثابتة في حرية حياته الشخصية خبثا وعهرا ورذيلة وكفرا.

وطبعا، لا بد من أن يعطي أهل الحل والعقد في المجتمع المثل الأسنى بالتدليل أن الجهاد المسلّح انقضي عهده، وقد كان بعد أضعف الإيمان. أما اليوم، فهو غير الإسلام، أو هو الإسلام الإسرائيلي، إذ الحرب المقدسة ليست من ديننا الحنيف. هلا يتكلّم إذن فقهاؤنا وساستنا في الجهاد الأكبر، ومنه الاجتهاد بالفكر، للتصدى بمسوؤلية لداعش وللدعدشة المتغلغلة في العقول، وهو الكفر الحقيقي بالله؟ وهلا ذكروا أن الجهاد الأصغر انتهى؟

نهاية الجهاد الأصغر 

إنه لمن أوكد المساعي اليوم على ساستنا، وخاصة من مرجعيته إسلامية، التنبيه على انتهاء الجهاد الأصغر؛ فليس هو اليوم إلا من الاعتداء على الغير الذي يحرّمه الإسلام ويجرّمه. إن المسلم الحقيقي لا يعتدي بل يدافع عن نفسه عند الاعتداء، ويكون ذلك بأفضل الوسائل، أي بإعطاء المثل الأسنى ومكارم الأخلاق التي جاء الرسول لإتمامها.

واجب من يتبجح بالتمسك بالإسلام بعد العمليات الإرهابية الأخيرة ليس في الدعوة للتظاهر ورفع الشعارات الفارغة، بل في التذكير بأن الإسلام دين العدل، وهذا يقتضي ترك إقامة العدل لأهله في القضاء والقانون والسياسة. فلا جهاد للفرد قي دولة القانون إلا بالنضال المسالم لأجل الحقوق والحريات والدعوة بدون هوادة إلى العدل وكلمة السواء، خاصة عند فقدانهما وتجاهلهما. وطبعا، لا يكون ذلك أبدا بالعنف وإلا سقط الحق، إذ نمر عندها من دور صاحب الحق المظلوم المعتدى عليه إلى دور المعتدي الظالم لنفسه ولغيره ولدينه.

إن الثابت الذي لا مجال للنقاش فيه هو أنه لا أمل في القضاء نهائيا على البعوض الداعشي إذ لم نجفف المستنقعات. ولا شك أن المستنقع الذي يعشعش الإرهاب فيه ويفرّخ هو اللخبطة الدينية التي تميّز قراءة البعض من نخبنا للإسلام فتحملهم على فهمه غلطا والإساءة له بتقديم الجهاد الصغير الخسيس على الجهاد الكبير السامي الذي فيه مكارم الأخلاق.

فالتمسك بحلية ما انتهت صلوحيته من جهاد أصيغر هو الذي يعتمد عليه أهل الجهاد الإرهابي لادّعاء خدمة دين لا يمتون إليه بصلة، بما أنهم يهدمون صرحه. ذلك لأن الجهاد المسلح انتهى كما انتهى واجب الهجرة؛ فلم يعد في الدين القيم منذ قيام دولة الإسلام، وهي دول عدّة اليوم، إلا الجهاد الأوحد الصحيح، أي الجهاد الأكبر.

هذا ما يجب على أهل الإسلام النزهاء – إذا لم يكونوا ممن يتاجر بالدين – قوله والتذكير به حتى نضع الحد الضروري لتخريب الملة والعبث بها من طرف من يدّعي المنافحة عنه وهو من أعدائها؛ هذا ما يفرضه الشرع والأخلاق والقانون.

فكيف لا يغتر الشباب بدعوى حلية الجهاد ما دام أهل الذكر والحل والعقد من الكبار، وفيهم الفقهاء والفلاسفة والساسة، يشجعونهم على عنجهيتهم وهمجيتهم برفض قول كلمة السواء، أي أن الجهاد الصغير ولّى وانقضى نهائيا وأصبح اليوم من اختصاص الدولة القائمة التي لها حصريا حق القائم بحق وواجب رعاية العدل والحرص عليه كما جاء به ديننا الحنيف.

متى نتمادى في هذا الخور المتمثل في السعي ضد الإسلام بتنمية إرهاب ذهني يغذّي الإرهاب المادي حاملا الشبيبة إلى مزالق الهاوية؟ متى نتحمّل مسؤولياتنا كاملة فنصدر الفتوى الرسمية المتحتمة لتوضيح الأمور ونرفع الحجاب عن الأعين وقد اختلط الحابل بالنابل إلى حد تشجيع النشء على حمل السلاح والبغض والكراهة للآخر، أيا كان فعله. فذلك كله مأتاه تزيين الجهاد الأصيغر عوض التنديد به وتمجيد السلام بالدعوى إلى إعطاء المثل والجهاد الأكبر.

لذا، من أوكد الواجبات اليوم الفقهاء أن يعلنوها صراحة في موقف جريء تقتضيه خدمة الإسلام الحق، وهو أن الجهاد الوحيد في الإسلام، بعد أن قامت دولته وتمتّن في القلوب، هو الجهاد الأكبر، أي جهاد النفس في كل نزواتها وخاصة تلك التي تعتدي على الآخر، أيا كان وأي تصرف أتى، وليس الجهاد الأصغر، أي مد اليد على ذلك الآخر المختلف، إلا من الإفساد في الأرض.

ذلك لأن الإسلام اجتهاد مستمر ولا مناص لتجديد فهمنا له وإلا تحجر وغدا ظلاميا كما هو الحال اليوم. فالإسلام ثورة عقلية مستدامة وإلا ليس هو بدين القيمة، خاتم الأديان. لهذا من الواجب فتح باب الاجتهاد من جديد، على الأقل لإصلاح بعض المفاهيم الخاطئة مثل مفهوم الشهادة، إذ لا شهادة في الإسلام بالموت، وهي أمنية الجهاديين، بل الشهادة الحقة الإسلامية تقتضي الحياة والبقاء حيا، كما نبينه الآن.

حقيقة الشهادة والشهيد في الإسلام

الشهادة، لغة، هي الإعلام والحضور، وهي الخبر القاطع، كما يقول الجوهوي، أي الذي يأتي من المشاهدة والمعاينة. نقول : شهد الرجل على كذا بمعنى حضره، فهو شاهد أي حاضر.  وهي أيضا، فقها، الإخبار عن أمر حضره الشاهد وشاهده. والشاهد هو الشهيد، أي المخبر ، أي العالم الذي يبيّن ما علمه، وهو فعيل من أبنية المبالغة في فاعل.

هذا، والشاهد أيضا من أسماء الله الحسنى أي الذي لا يغيب عن علمه شيء. وكذلك الشهيد.     علاوة على هذا المعنى الفقهي، للشهيد أيضا عند الفقهاء معنى القتيل في سبيل الله. إلا أن هذا بمعنى ليس كالذي يروّج له دعاة الشبيبة للموت. نعم، فهو عموما، يبقى يحافظ على المعنى الأصلي المذكور أعلاه، أي الإتيان بالخبر القاطع.

وقد وقع الاختلاف في سبب تسمية الشهيد، فقيل لأن الملائكة تشهده أو لأن الله وملائكته شهود له أو لأنه ممن يُستشهد يوم القيامة على الأمم الخالية. وقيل أيضا لسقوطه على الأرض وهي الشاهدة، أو لأنه حي لم يمت كأنه عند ربه شاهد أي حاضر.

هكذ إذن، نرى أن الشهادة تقتضي الحياة والحضور لا الموت والتغيب، إذ لا معنى لأن يشهد العبد إذا مات، عدا يوم القيامة. وليس هذا ما يطلبه الشهيد الذي يضحّي بنفسه لأجل قضية آنية وحالية لا يريد انتظار قضاء الله فيها في الدار الآخرة وإلا لما ضحّى بنفسه.

لا شيء في القرآن يدل على أن الشهيد هو الذي يموت لأجل الدين أو أن الشهادة تقتضي القتال. فمن يتمعن في آي القرآن ويثوّر معانيه، يعاين حق المعاينة أن الشهادة تحافظ على معناها اللغوي أي الإعلام والحضور والعلم والإخبار. فلا علاقة في ديننا، من خلال ما ليس لنا غنى عنه كمرجع، أي القرآن والسنة الصحيحة،  لا علاقة فيهما بين الشهادة والقتل كما ذهب إلى ذلك الفقهاء.

لقد اجتهد هؤلاء لدنياهم، فقالوا مثلا أن الشهيد على ثلاثة أقسام : شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الدنيا وشهيد الآخرة على أن يكون الأول هو الذي يقتل قي قتال لتكون كلمة الله هي العليا دون غرض من أغراض الدنيا. مثل هذا الاجتهاد ليس ضرورة بالاجتهاد الصحيح، ولو أنه المعنى الحالي المغلوط عند شبيبتنا التي تضحي بحياتها من أجل دينها. ذلك أنه لا توجد آية      واحدة في القرآن بالمعنى الذي ذهب إليه السلف؛ إنما كل آيات القرآن في      المعنى الذي يقتضي الحضور والحياة للشهادة أي الحياة لا الموت.

كما أنه لا حديث بتاتا في مسلم يخص الموضوع؛ أما البخاري فالحديث الوحيد الذي يورده هو الآتي : «الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله». وهذا الحديث يبيّن أنه لا فرق بين من يموت في سبيل الله ومن يموت لإصابته بالطاعون أو لغرق مثلا؛ فأي امتياز لمن يموت في سبيل الله فلا يقوم بواجب أعلى وأسمى هو الشهادة للإسلام بالكلمة والحجة الدامغتين؟ فنحن نعلم أن للكلم السحر الذي يأتي بالعجائب والقوة التي تفوق فاعلية السلاح الفتاك؛ أليس في البيان سحرا؟

إننا اليوم، وقد وصل أعداء الإسلام بديننا إلى الدرك الأسفل من المهانة وقلة الحيلة، فقدنا قوة الحجة والدليل القاطع للتبيين على علو كعب مباديء ديننا وسمو مقاصده، رغم أن الإسلام أولا وآخرا حجة قاطعة ورسالة مبينة. كيف نعيد إذن للدين رونقه وهو الذي تمثلت معجزتة في قرآن مبين      بدون ترك مسالك الموت والهروب من الواقع المرير لمجابهة الأعداء بخير سلاح وأقهر لهم، أي مبادىء إيمان روحاني كوني كان ثورة عقلية عارمة وإناسة قبل أوانها وحداثة سبقت الحداثة الغربية؟

لا يكون هذا إلا بالحرص على الشهادة الصحيحة التي هي الإخبار عن إعجاز القرآن وروائع تعاليم الإسلام في عالم انطفأت أنواره لسقوطه في مادية لغلوها أضاعت القيم البشرية. فقد تهافتت في هذه المادية المفرطة فتوحات العقل البشري فصارت مطية لكل من يدوس كل ما جاءت به الديانات، وخاصة الإسلام، من علو أخلاقي لا يمكن استعادته إلا بإقامة الدليل ومقارعة عناد العدو بالحضور لا الغياب على أرض الصراع بالحجة لا بالقتل والتقاتل، فالإسلام إحياء في الأرض لا إفساد فيها.

إن الموت لأجل الشهادة لهو من الخور إذ لا شهادة عندها، فلأجل إعلاء الحق، الشهادة كل الشهادة في البقاء على قيد الحياة للإدلاء بالشهادة والإتيان بالخبر القاطع اليقين. إن الشهيد الحقيقي في الإسلام لهو الشاهد، أي هذا الذي يقول الحق ويخبر به دون لومة لائم، فهو الضمير الحي والفكر العامل جاهدا على إعلاء كلمة الحق.

فهو بهذا أفضل من يخدم دينه ويرعى قيمه إذ لا يفتأ عن العمل على إعلاء كلمة الدين بالكلمة الطيبة والمثل السني ومكارم الأخلاق حتى تعلو الغوغاء والباطل وقد طغيا على الأذهان في دنيا غوت لغلوها في المادية وابتعادها عن الروحانيات، وهي لب لباب الإسلام.

هذا هو الشهيد في الإسلام وهذه هي الشهادة لأجل إعلاء كلمة الله ورعاية حقوقه بين البشر لا الموت والهرب من الجهاد الحقيقي، الجهاد الأكبر، مصارعة للنفس وإعلاء للدين !     وهذه هي حقيقة الشهادة في الإسلام، لا ما يُروج له من فهم غير إسلامي رسب إلى ديننا من اليهودية، إذ لا وجود لأول انتحاري في الإسلام بل في التوراة، ألا وهو شمشون! فهل نطبق الإسلام أو اليهودية في بلاد الإسلام؟

خلاصة القول أن الجهادي الذي يبتغى الشهادة لا بد له أن يعلم أن الشهادة إسلاميا ليست إلا الخبر اليقين، لذلك تقتضي الحياة لا الموت؛ لأن الخبر القاطع يتطلب ما من شأنه الإتيان حيا به لدحض الباطل. وهذا يدعّم ما سنقوله الآن وهو أنه لا جهاد في الإسلام اليوم إلا الأكبر، أي جهاد النفس.

ومن واجب النخب اليوم العمل على رفع اللبس الذي خالط العقول في مفهوم الشهادة، إذ ليست هي في الانتحار المحرّم شرعا. ذلك لأن الشهادة التي نمجّدها  يوميا ما كانت أبدا في الإسلام من القتل والتقتيل والإفساد في الأرض، بل هي في الحياة والبقاء والإبقاء عليها حتى يتم الإتيان بالدليل القاطع والخبر اليقين.

هذا أقل ما يمكن أن يفعله الجهادي الحق في هذه الظروف، وهو من باب أضعف الإيمان في زمن أصبح الدين مطية لكل من هب ودب ممن عاداه، سواء ممن يريد له الشر أو من يعتقد المنافحة عنه وهو يشينه ويمسخ تعاليمه السمحة. والأفضل له طبعا هو ممارسة الجهاد الأكبر، جهاد النفس.

ضرورة قول الحقيقة حول الجهاد

إن الابتعاد عن الكلام الفضفاض وترديد الشعارات الجوفاء متحتم أيضا من طرف أهل الإسلام بخصوص الجهاد في الإسلام أيضا. فلا يكفي اليوم أن يقول الفقهاء والساسة أن الجهاد ليس الإرهاب والعدوان وترويع الآمنين وإزهاق الأرواح البريئة، أي كل ما هو محرم تحريما قطعيا في الإسلام.

إنه المنطقي والمفروض والضروري أن يبيّنوا السبب في هذ الحكم وإلا ذهب كلامهم سدى، وهو ما قلناه أعلاه، أي أن الجهاد الأصغر كما يفهمه المسلمون اليوم قد انتهى وولّى زمنه تماما كما انتهت فترة الهجرة، فلم يبق اليوم إلا الجهاد الأكبر، أي جهاد النفس. وهذا يقتضي الحياة للمعاناة وللإتيان بالمثل الرسني والخبر القاطع على أن الإسلام سلام؛ فتلك هي الشهادة الصحيحة.

إن الإصداح بحقيقة أنه لا جهاد اليوم إلا الأكبر متوجّبة؛ ولم يعد ممكنا تمييع الموضوع بالقول مثلا أن للجهاد الشرعي أنواعا، فتقول       مثلا، كما قعل البعض، بجهاد الفكر والقلم أو جهاد المال مع  الحرص على حصره نظريا في أبواب الخير والإسهام في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

فالمعلوم اليوم أن الإرهاب لا وجود له دون ما تضخه فيه بعض الأنظمة الإسلامية من أموال. فهل هذا من جهاد المال؟ نعم، إنه يتعدى شرط الخير والإسهام في التنمية. ولكن من يدلل على ذلك وكيف؟ وهل من النزاهة عدم رفض إمكانية وجود جهاد بالسلاح حتى وإن ضيقنا من حالة اللجوء إليه بجعلها الضرورة القصوى عند الاعتداء وفشل كل الوسائل السلمية؟

هناك من الفقهاء من يصف هذه الحالة بالكي الذي هو آخر الدواء، فيقول أنها ليست من الجهاد، إذ لا تعدو أن تكون من باب الدفاع الشرعي عن النفس؛ ولا ضير من ذلك، بل هو من المنطقي المفروض في كل القوانين البشرية. إلا أن سحب صفة الجهاد على هذه الحالة، بل والقول بإمكانية استعمال السلاح باسم الدين، ليس إلا إضعافا فاحشا لنزاهة رفضنا للإرهاب إذ تجعله   متهافتا متهاويا.

فكيف يمكن القول من ناحية أنه في الإسلام جهاد يتوجب على المسلم ثم الاعتراف بوجوده للحاكم الذي له إمكانية الأمر به؟ فهذا ما نراه من أنظمة لا تتورع في مساندة الإرهاب؛ أليس الإرهاب سراب دون مثل هذا الدعم ؟ وما هي الأنظمة في نهاية الأمر ؟ أليست هي مجموعة من المسلمين يرون الجهاد فرضا إسلاميا يتوجب الأخذ به والحث عليه؟

إنه لا مجال اليوم إلا الإقرار بانتفاء الجهاد تماما لإخراج الدين من عنق الزجاجة الحالي، ثم التذكير بأن استعمال العنف هو من أخص خصوصيات الدولة بما في ذلك القضايا التي اعتدنا زج الدين فيها وليست هي مما يهم المسلم، بل من قضايا الدول ومصالحها الخصوصية لا غير.

علينا بالكف عن التصرف وكأن الإسلام لا يزال في بدايته وطفولته، أي فترة الدعوة والانتشار، بينما هو اليوم في فترة الكهولة المحنكة بعد أن أقام دولته واستقر خاصة بالقلوب. لذلك لا يمكن حاليا إلا القول أن استعمال القوة لا الجهاد هو من اختصاص الدولة وحدها لا من حق المؤمن بتاتا؛ بذلك يقع دعم مقولة الفتوى في الإسلام لم يبح للفرد أو الجماعة اقتحام الجهاد من تلقاء أنفسهم؛ وإلا تهاوى استدلال الفتوى من تلقاء نفسه.

ذلك لأن الإسلام يقر بالعلاقة المباشرة بين العبد وخالقه، فإما أن نحصرها في أمور العقيدة فلا نعترف بالجهاد إلا الخاص النفس، وإلا دعمنا قول المتزمت الذي يناهض باسم الدين والرابطة المباشرة بين العبد وخالقه كل حاكم يراه ظالما طاغوتا، فلا يعتد بكلامه.

لقد حان الوقت لعلماء المسلمين نبذ كل ما تآكل من منطق شرعي لاستعمال أدلة غير متهافتة؛ منها خاصة ما يقتضي المناداة بتحيين القوانين الوطنية التي تدعي الأخذ بالدين بينما ليس فيها منه نقيرا. وهذا يحتم أيضا فتح باب الاجتهاد في الدين الذي كان غلقه من تداعيات فتنة خلق القرآن.

فتح باب الاجتهاد في الدين

إن ألد أعداء الإسلام لبداخله ممن يسعى ضد تعاليمه بالأخذ بحرفه دون مقاصده. هؤلاء، رغم ادعائهم التعلق بالدين القيم، لا هم لهم إلا تشويه تعاليمه السمحة وجعله ملة ظلامية لا هذه الثورة العقلية التنويرية التي أتى بها، فأسس لحضارة علمية عالمية كانت إناسية وحداثية قبل الحداثة الغربية المتهاوية اليوم تحت نير المادية الزاحفة على أرضنا بتواطيء من تجار الدين.

إن الإسلام ثقافة قبل أن يكون شعائر، وهو روحانيات واجتهاد متجدد لا هذا التمسك المتهافت بحرف نص لا يعطي قيمتها السنية للمقاصد، بينما هي الأهم في دين تعاليمه أزلية ورسالته خاتمة للرسالات السماوية. فكيف يكون دين الحنيفية بتلك الصفة وهو هذا التزمت الذي لا يقبل به لا العقل ولا النقل عند كل مؤمن نزيه لا يتاجر بدينه ؟

لقد حان الوقت لفتح باب الاجتهاد في الإسلام وقد أغلقته السياسة، فعجلت بسقوط دين القيمة إلى الهاوية التي نراه فيها بداعش وببلاد الجاهلية الوهابية؛ فهي لا تأخذ إلا بالإسرائيليات الراسبة في الإسلام، وقد شجعتها ودعمتها في ذلك الإمبريالية العالمية منذ القدم إلى الآن.

لا إسلام حقيقة إلا الإسلام المتصوف، صوفية الجنيد السالك، كما ذكّر بذلك متن ابن عاشر. وهذا يقتضي المجاهدة المستدامة، وهو الاجتهاد في دين لا بد له أن يبقى جديدا متجددا حتى لا يلحقه خور التزمت. فها نحن على رأس مائة سنة جديدة، ليكن إذن تجديد إسلامنا بربوعنا المغاربية، وبتونس بالذات، أرض التصوف، الدين الحق!

فكيف يبقى الإسلام آخذا باجتهاد من سبقنا من االسلف الصالح الذي صلح لزمنهم وما عاد يصلح لزمننا؟ إن التجارة لتكسد إذا لم تتجدد، ولكل شيء بداية ونهاية إلا إذا تجدد. كيف إذن لا يتجدد الإسلام ولنا ما يسمح بذلك، قرآن علمي عالمي وسنة صحيحة في ما اتفق عليه الشيخان علينا تأويلهما حسب مقاصد الشريعة نستلهمها حسب مقتضيات العصر وثوابت الحضارة البشرية. هذا ما يمليه الضمير الحي وتقتضيه النزاهة العلمية والفكرية !

ولا شك أن الجهاد أي مجاهدة النفس من الاجتهاد أيضا وذلك بإعطاء المثل الأسنى في نبذ العنف وكف اليد واللسان على الآخر المختلف، أيا كانت مشاربه، إذ لا كنيسة ولا كهانة في الإسلام.

فإن كان للحاكم الحق في السهر على الأمن المادي والتعايش السلمي بين الناس، ليس له أن يصبح كالصنم بين الله وعباده في أمور الدين إذ هي مما لا يخص إلا الله في علاقة مباشرة بين الخالق وعبده.

لذا، لا دخل للسلط في الحياة الخصوصية للعباد، وليس لها خاصة هتك حرمة الحياة الشخصية بما فيها في احترام أو عدم احترام قواعد العقيدة الإسلامية التي لها الله وحده لحمايتها. أليس هو بالقادر على ذلك أم هل نشك في أنه القدير؟

لنتذكر هنا ما كان من جد النبي الكريم عند هجوم أبرهة الأبرش على الحرم الشريف؟ ألم يغادره أهل مكة تاركين لله وحده حق الدفاع عن حرمة بيته؟ هل نحن أفضل من سلفنا الصالح؟ إلى متى نقيم الأصنام في ديننا وقد هدمها بلا رجعة ؟

لقد حان الوقت أيضا للتذكير أن الإسلام الصحيح هو بدون أدنى شك دين الحريات الخصوصية لا ما بقي من إسرائيليات في فقه أكل عليه الدهر وشرب.

مجابهة التزمت بالتصوف

الإسلام، كما هو توحيد، هو أيضا عدل وكلمة سواء؛ وهو اليوم في  قراءة عالية الكعب في الأخذ بالدين القيم، ألا وهي قراءة المتصوّف. فالتصوّف أفضل ما أنتجه الفكر الإسلامي الكوني النزعة، العقلانيها؛ ولا شك أن النجاح في مجابهة التزمت تكون  بإحياء علوم الصوفية وفقهها الخصيب في زمن الخداع، هذا الذي يريد أن يجعل من دين التنوير ملة ظلامية.

إن التصوف هو الإسلام الأصيل، لا يأخذ بالإسرائيليات التي داخلت دين محمد فشوهته ومسخت تعاليمه السمحة ولبه الإناسي؛ فهو متجذّر في الروح الإسلامية الحقة مما جعل لفقه التصوف مكانة متميّزة عند أفضل الفقه السني، كصاحب النظرية المقاصدية، الإمام الشاطبي.

سوف نتحدث في اليومية الموالية عن هذا الإمام الجليل وعن الإسلام الصوفي عموما؛ لنذكر فقط هنا رمزا من رموز روح الجهاد، خاصة الجهاد الأكبر منه، وهي شخصية من صفوة الصفوة الإسلامية، ألا وهو الأمير عبد القادر الجزائري، مثال المجاهد الأكبر الصوفي. فلا شك أن حياته وفكره لأفضل ما يمكن ذكره للرد على الأكذوبة السخيفة التي تتهم أهل التصوف بالعمالة خلال عهود الاحتلال.

ليس صحيحا ولا منصفا اتهام أهل التصوف بالعمالة، إذ مما لا شك فيه أن أكبر ما ميّزهم عبر تاريخ الإسلام له الجهاد في سبيل الدين والدفاع عن بيضته. لهذا رأينا العديد من الزوايا والرباطات في أنحاء البلاد وعلى الحدود، أو ما كان يسمّي بالثغور، حيث يرابط الصوفي في خلوته مع الله وجهاده العدو على حدود بلاده. وكم من صوفي بدأ جهاده الأكبر، وهو جهاد النفس، بجهاد أصغر، أي جهاد عدو الإسلام! ولا غرابة في ذلك إذ التصوف يربط الجهادين ربطا محكما.

على أن الصوفي له الحكمة في العمل بلب لباب الدين الذي يقتضي عدم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة. لذلك، عندما يرى أن الجهاد الأصغر لا فائدة فيه إلا المراءاة، يتجاهله حاثا على ما هو أفضل، مما يمكّن من الاستعداد من جديد للجهاء الأصغر عندم يأذن الله به، وذلك بالتزام الجهاد الأعظم، جهاد النفس. وهو اليوم يرى أن لا بقاء إلا للجهاء الأكبر.

لقد كان الأمير بحق مثال الصوفي، هذا الرجل الكامل؛ فلم يكن صوفيا في سجنه ونفيه فقط، أي عند غروب عمره، بل كان صوفيا تاما، سواء في ولايته على الجزائر أو جهاده للمحتل الفرنسي، كما بيّنه ويبيّنه فكره وكتبه.

الصوفية بالنسبة لهذا المناضل الجزائري الكبير « ليسوا هؤلاء الذين يأكلون النار ويدخلون مسامير الحديد في أشداقهم، ويدخلون التنور ويمشون راكبين على ظهور الأشخاص ليعرفهم العوام، لأن ما يصدر عن هؤلاء منه ما هو شعبذة، ومنه ما هو سيمياء، ومنه ما هو خواص نفسية يتوارثونها بينهم».

إن حياة المجاهد الصوفي عبد القادر لتختزل خير اختزال سيرة من سبقه من أهل التصوف كأفضل الجهاديين في أخذه بداية بالجهاد الصغير، ثم المرور منطقيا ونهائيا إلى الجهاد الأكبر. وكما كان يقول الأمير بنفسه، إن التصوف لهو بحق « إخلاص العبادة لله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية». فلا بدع في تصوف عبد القادر ولا تقليد خاصة، بل هو جهاد أكبر واجتهاد مستدام، وهما صفوة روح الشريعة الاسلامية.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.