الرئيسية » (17) هل الحج والعمرة اليوم من التقوى؟

(17) هل الحج والعمرة اليوم من التقوى؟

الحج والعمرة

يكتبها فرحات عثمان

 يذهب العديد من أهل الإسلام إلى تحديد بداية نزول القرآن في مثل هذا اليوم من شهر رمضان من سنة 610 مسيحية. وإن لم يكن اتفاق في ذلك، إذ قيل أيضا يوم الثامن عشر أو الرابع والعشرين أو غيره، وكلها أقوال لا حجة واضحة عليها، فلا خلاف أن بدء نزول القرآن كان في شهر رمضان المبارك.

وهناك أيضا خلاف في أول الآيات المنزلة، وإن ذهب الجمهور من علماء المسلمين إلى أنها الآيات الأول من صدر سورة العلق.

هذه السورة تؤكد دون أدنى شك النزعة العلمية لدين الإسلام، إذ هو بحق دين عقلاني فيه الحظ الأوفر لإعمال العقل، أفضل ما في الإنسان. وذلك ما جعل الدين القيّم ينتشر بسرعة فائقة ويؤسس لحضارة كونية.

إلا أن أهله أضاعوا اليوم هذه النزعة العلمية العليمة بنبذهم إياها وركونهم إلى التقليد. مثال ذلك  أنهم يتمسّكون عند ذكر تاريخهم بإحياء المناسبات المفرحة، ناسين أو متناسين المناسبات المحزنة رغم أن فيها العبرة والاعتبار.

فالمسلم يحتفل أيضا في السابع عشر من رمضان بحدث هام في التاريخ الإسلامي، وهو الذي مهّد بحق لدولة الإسلام، إذ مثّلت غزوة بدر مولد دولة الإسلام بقيام اللبنة الأولي لها بالانتصار الساحق للمسلمين بهذه المعركة. وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة، الموافق للثالث عشر من شهر مارس عام 624م.

ورغم أنه حصلت معارك أخرى بعد بدر، منها ما كان فيها انهزامهم، كوقعة أحد، لا نرى أهل الإسلام يذكرونها أو يتكلّمون فيها إلا نادرا. ولا شك أن في هذا النقص المفرط للتقوى التي هي دوام الحرص على رعاية حقوق الله؛ وهي لا تكون إلا بالحرص على عدم العناية بشيء من الدين وترك أشياء أخرى لعلها أهم، بل الأهم.

هذا لا يخص المناسبات الدينية فقط، بل أيضا الشعائر، كشعيرة الحج والعمرة كما نبّينه في هذا الطرح. فقد ابتعدنا عن الفهم الصحيح لهاتين الشعيرتين حتى أصبحتا صناعة وتجارة لا يبتغى منهما المسلم حقا وجه الله، بل فسخ ذنوب سرعان ما يعود إليها ما دام في وسعه فسخها بزيارة متجددة للبقاع المقدسة.

ولعل ما حدث أخيرا من تجاوزات ومغالطات بتونس في قوائم الحجيج من طرف الأئمة، حسب وزارة الشؤون الدينية، لهو الدليل القاطع على ما نقوله من انقلاب الحج إلى مجرد تجارة وانعدامه من روح التقوى الصحيحة.

عندما يُفرغ الحج من التقوى

الحج ليس إلا خامس أركان الإسلام، وهو لمن استطاع إليه سبيلا، أي لا زيارة إلا عند الاستطاعة. وككل شيء في دين القيمة، ليست الاستطاعة مادية فقط، بل ليست هي مادية بتاتا في أفضل الحالات، إذ تبقى أساسا معنوية وأخلاقية قبل كل شي.

الاستطاعة بمعنى الإطاعة، أي الإجابة؛ فهي إجابة دعاء الله لفعل الخير ونبذ الشر؛ فهل أفضل من كف اليد واللسان عن الغير، أيا كان فعله، أخذا بدعاء الله ورعاية لحقوقه؟ أليس من الإحسان، وهو لب الدين، إكساء العريان وإطعام الجائع، وهم كثر حوالينا؟

لذا، الزيارة الأفضل لله والطاعة الأصح له لهي في مجاهدة النفس للحد من نوازعها بصفة متواصلة، والإجابة المستدامة طوعا لما يدعو إليه الإسلام من مكارم أخلاق والإصلاح في الأرض.

هذا حال المطّوعة، الذين يتطوّعون بالجهاد الأكبر، أي جهاد النفس، فهم الذين يطيعون حقا تعاليم الإسلام، لا يتلاعبون بها بحج ليس القصد منه إلا رغبة فسخ ذنوب لا يفسخها الله في الحقيقة، بل يزيدها إثما بمثل ذاك التصرف، إذ فيه المخاتلة والتحيّل على الله، بينما لا ينخدع الله !

لقد جعل البعض ممن يدّعى الإسلام من الحج والعمرة الوجوب الذي لا غاية منه مصلحة ذاتية، فإذا بنا حيال هذا المسلم الدعيّ الذي يعمل، عن قصد أو غير قصد، على نسف دينه يوميا، كما يشاء ويشتهي، بتصرفات خرقاء ليس فيها إلا الفساد والإفساد. ثم هو بعد ذلك يعتقد بالحج والاعتمار أنه يولد من جديد بلا ذنوب، فيدّعي التقوى خداعا !  ليس هذا من التقوى، بل من تبليس إبليس! في ذلك صدق المثل الشعبي التونسي حين عيّر الحاج الذي يذهب للحج مزمزما ثم يعود للبلاء متحزّما.

للأسف، هذا هو المفهوم الخاطيء للحج، المهيمن على العديد من العقول، والذي لم يعد فيه من الإسلام إلا الرسم؛ وقد تسرّب من الإسرائيليات كالعديد من المفاهيم التي قلبت سماحة الإسلام رأسا على عقب.

نعم،  شوّه أهل الإسلام دينهم باستيراد ما يُشبه شعيرة الاعتراف في الدين المسيحي، فأصبح لنا في الإسلام، لا مجرّد كرسي الاعتراف، بل أرضه. لذلك نرى المسلم يحرص على الحج والعمرة لا للتقوى بل لتنظيف نفسه من أوساخها. فهلا كفّر عن ذنوبه بإطعام المسكين أو إكساء الفقير أو بصدقة الكلمة الطيبة التي هجرت أفواهنا والابتسامة على الوجه وقد أصبح المسلم عابسا قمطريرا؟

إلى متى تكون مكة، وهي أرض العبادة، بمثابة ذلك الكرسي الذي ينحنى أمامه المسيحي للحصول من رجل الدين الجالس فوقه على غفران الله لذنوبه، وإن كانت من أفحش الفواحش، أي فيه الظلم للعباد والإفساد في الأرض؟ متى كان في الإسلام خليفة لله بعد الرسول الأكرم، الذي لم يكن له إلا الشفاعة لعباد الله لا ضمان الغفران الذي هو لله؟

في الفهم الصحيح للحج وللعمرة  

الحج هو القصد للزيارة؛ وهو لغويا كثرة القصد؛ وفي تعارف الشرع الإسلامي، الحج هو قصد بيت الله لإقامة النسك. أما العمرة، فهي الزيارة أيضا، وهي تطوع؛ إلا أنها أصبحت حجا أصغرا عند معظم الفقهاء.

إلا أن الحج في الإسلام ، أولا وآخرا، توحيد الله وعبادته، سواء كان ذلك عند الحنفية (حيث الحج هو قصد البيت في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة) أو المالكية (حضور جزء من عرفة ساعة من ليلة النحر والطواف سبعا بالبيت والسعي سبعا بين الصفا والمروة) أو الشافعية (عبادة تلتزم الوقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة) أو الحنبلية (قصد مكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص).

ما من شك أن توحيد الله، ما دامت النية طيبة، ممكن أيا كان الزمان والمكان والفعل؛ بل من الثابت أنه لا حج إذا فسدت النية فيه، فصار من باب المداهنة والمراءاة وابتغاء ما في الدنيا من زخرف ومسح للذنوب بما يتوفر من مال. وهذا يناقض نزعة الإسلام التي لا تفرّق بين البشر إلا بالتقوى، وليست هي مجرد شعائر بل كسب وعمل حسب مقاصد الشريعة.

يفرّق اليوم الفقهاء بين الحج كفريضة و حج التطوع أو حج النافلة، فيذهبون إلى الضرورة القطعية للأول لصفته كركن من أركان الإسلام، مع علمهم أنه في حدود الاستطاعة، وإمكانية الانصراف عن  الثاني للتصدق بنفقة الحج مثلا على من بحاجة له، إذ ذلك أفضل وأعظم أجرا.

للتأكيد على هذا، من المفيد هنا ذكر ما قاله الإمام ابن تيمية في الاختيارات، وهو في أتم الوضوح : « والحج على الوجه المشروع أفضل من  الصدقة التي ليست واجبة. وأما إن كان له أقارب محاويج، فالصدقة عليهم أفضل. وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته. فأما إذا كان كلاهما تطوعا فالحج أفضل؛ لأنه عبادة بدنية مالية، وكذلك الأضحية، والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك، لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات، ويصلي الصلوات الخـمس، ويصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ولا يعتدي على أحد ».

هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن  الفقهاء عادة ما يغضّون النظر عن الاستطاعة التي ليست فقط في المال والصحة، إذ يمكن أن تكون معنوية، أي أن حال الفقراء والبائسين حيال من ينوي الحج من شأنها أن تكون حالة عدم استطاعة معنوية.

إن الاستطاعة على عمل الخير هي من أفضل الواجبات الشرعية؛ وقد لخصها الولي الصوفي سيدي عبد القادر الجيلاني أفضل تلخيص في خطبة هي من أقصر وأبلغ الخطب، إذ صعد المنبر فقال : « اللقمة في بطن جائع خير من بناء ألف مسجد، وخير ممن كسا الكعبة والبسها البراقع، وخير ممن قام لله راجع، وخير ممن جاهد الكفر بسيف مهند قاطع، وخير ممن قام الدهر والحر واقع؛ وإذا نزل الدقيق في بطن جائع له نور كنور الشمس ساطع؛ فيا بشرى لمن اطعم جائع !»

صناعة الحج وتجارة العمرة

إن حال الحج والعمرة اليوم جد مزرية؛ فالزيارة تقام، أولا، في ظروف عصيبة، فيها كل التجاوزات لحق المؤمن لعبادة ربّه بكل حرية. ثم هي، ثانيا، تقع على أرض أصبحت تُنتهك فيها حقوق المسلم المشروعة رغم أن الله ضمنها؛ فإذا المسلم فيها عديم حقوق المؤمن في الحرية والكرامة، ومنها التساوي بين الجنسين وحريتهما التامة في المعتقد والرأي والتصرف في حرمة حياتهما الخصوصية بدون رقيب.

لقد أصبح الحج اليوم صناعة والعمرة تجارة، كأن المسلم يمنّ بهما على الله، وهو غني عن العالمين، خاصة الذين يستجيبون لتكليف ويسهون عن تكليف أعظم وأخطر أصبحت مضرّته أكبر من نفعه على أهل الدين القيم بما خالطه من تجارة وسياسة.

يقول مثلا أهل الإسلام أن العمرة سنة ثابتة؛ فهل هي ثابتة حسب نية الرسول حقا، أي في ابتغاء وجه الله، لا مسخ الإسلام ومقاصده بالحصول على فسخ ذنوب وفواحش؟  إن كل سنة نبوية لا تبقى سنة واجبة إلا إذا لم تنتف منها النية السليمة؛ فهي التي تضمن ألا تصبح مجرد حركات آلية ومظاهر كلها رياء وكذب، وذلك بالحرص عليها في ظروف من النزاهة التامة، ليس فيها أي خدمة لمن يسيء للإسلام، وإلا انتفت منها كل تقوى.

فكما يقال، أجر العمرة على قدر النصب والنفقة؛ لم لا يكون إذن النصب في فعل الخير والنفقة في مواطن أفضل وأكبر ؟ أليس في بلاد الإسلام العديد من الفقراء واليتامى وأبناء السبيل الذين هم، بصريح العبارة شرعا، لأحق بالمال الذي يخصصه الحاج والمعتمر لزيارة بيت الله؟ أليس مكان بيت الله الحقيقي في قلب المؤمن، كما أن قِبلته في كل مكان ما دامت العبادة صافية لا مخاتلة فيها ولا تبيلس؟

لذلك، وباسم الاجتهاد الذي بدونه يندثر ديننا ليصبح غريبا كما بدأ – لا قدرّ الله – ومن باب أن الخطأ مع حسن النية أفضل في الدين القيّم من التقليد المضر به، لَمِن الإسلام القول أن الإيمان الصحيح اليوم هو في الامتناع عن الحج وعن العمرة ما داما يتمّان في أفظع الظروف على أرض لا يُحترم فيها الدين السمح في تسامحه.

لقد اختلطت السياسة بالدين الشيء الذي أفسده. فلم لا يُعنى بالحج والعمرة أهل من الإسلام نزهاء، يتطوعون لخدة دينهم بصفاء نية وصدق سريرة، بعيدا عن زخرف الدنيا، من أهل الحسنى، لا تزمت في إيمانهم؟ عندها، بالإمكان حقيقةً السعي للعودة بالحج والعمرة إلى فهمهما الصحيح، أي ابتغاء وجه الله.

في انتظار ذلك، ليعود حج الناس وعمرتهم الفعل التقي والكسب النزيه المتمثّل في الصدقة بإطعام وإكساء المساكين أو الزيادة فيه نظرا لاستشراء الفقر المدقع، وأيضا في الكلام الطيب والعمل الصادق بكف اليد واللسان عن الغير، إذ في ذلك أفضل التقوي.

هل نحن بحاجة إلى التذكير أنه لا حجاب بين الله وقلب العبد المؤمن الصادق السريرة ؟ ففعل ما ذكّرنا به أعلاه لمن صفوة التقوى التي تفرض نفسها على ضمير المؤمن النزيه، إذ الإيمان الصادق أن يأخذ العبد بما يمليه عليه ضميره معتمدا في ذلك على أخلاق الدين القيّم ومكارمها ليساهم في إتمامها على هدي سنة الرسول الكريم.

الحرم المكي بين الدين والسياسة

إن ما يعيشه عالمنا الإسلامي اليوم من دعدشة للدين القيم ومسخ بجاهلية جديدة، وما يحدث بالأراضي المقدّسة، يشين حتما ديننا؛ وليس من النزاهة عدم التنبه لذلك. وقد بدأنا نرى بعض أهل الحق  يدعون مثلا لمقاطعة الحج ما دام يتم في ظرورف لا تليق بالدين القيم وقداسته. وقد وصل ذلك أيضا بالبعض ممن يغارعلى دينه التخمين في الدعوة إلى نقل الحج من أول الحرمين إلى ثالثهما وأول القبلتين، أي من مكة إلي القدس. فما دام الدين تسيّس، فليكن في ذلك فائدة، ألا وهي خدمة القضية الفلسطينية! هكذا يقول المنطق حسب قولهم؛ وهو قول له وجاهة.

طبعا الأمور موكلة في الإسلام الصحيح إلى ضمير المؤمن في علاقته المباشرة مع خالقه؛ فهو الذي يقرّر ما يمليه عليه ضميره باعتماد أخلاق الدين القيم وحدها.

ولعلّه من المفيد هنا التذكير بما حدث في فترة عصيبة من التاريخ الإسلامي لا بد من معرفتها اليوم حتى ننير البعض مما عتم على الأذهان في هذه الفترة الحالكة من تاريخنا المعاصر، إذ كثر فيها الدجل واختلط بها الحابل بالنابل حتى أصبح تبليس إبليس من الإسلام.

لعل العديد من أهل الإسلام لا يعلم أن الحج لم يسلم من تداعيات الخلافات السياسية والفتن العقائدية التي لازمت التاريخ الإسلامي منذ وفاة الرسول.

فهذه الخلافات أدّت في فترات حدّتها إلى قصف بيت الله الحرام بالمنجنيق؛ كما أنها أدت أيضا إلى نقل الحج مدة زمنية من مكة إلى بيت المقدس؛ كان ذلك خلال الصراع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير أثناء الحرب الدامية التي عقبت وفاة مؤسس السلالة الأموية وانتقال الحكم من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.

فقد نازع ابن الزبير بن العوام، حواري الرسول الأكرم، السلالة الأموية بأن تحصن بمكة وتحكم في العراقين وطالب بإمارة المؤمنين لنفسه لما كان يدّعيه من أولوية له فيها. ولعل ذلك كان يكون له إذا قبل دعوة البعض ممن ناصر الأمويين عندما طالبوه بالقدوم إلى دمشق عاصمة الدولة الأموية، الشيء الذي رفضه ابن الزبير فأضعف حظوظه في التغلب على أعقاب السلالة الحاكمة. فكانت وقعة مرج راهط وتغلب مروان بن الحكم الأموي وصعد لسدة الحكم بدمشق ثم خلفه ابنه عبد الملك أميرا للمؤمنين أو خليفة لله كما كان يدّعي.

لقد احتدم الصراع على الحكم بعد انقسام الامبراطورية الإسلامية إلى قسم أموي بدمشق وقسم حجازي عراقي بمكة. المهم الذي يجب معرفته هو أن الأمويين، أثناء هذه الحرب الدامية، نقلوا الحج من مكة، التي كانت تحت نفوذ أعدائهم، إلى بيت المقدس.

ووجدت سلالة ابن مروان الأموية بكل سهولة بين الفقهاء من يدعّم مقولتها في شرعية هذا التبديل، إذ أهمية بيت المقدس الدينية لا تُنكر، وهي أول القبلتين وثالث الحرمين، وقد عاشت فترة مضيئة من تاريخ الإسلام، بما أنها تقترن بالاسراء والمعراج.

كان هذا سهلا بالطبع لكون بيت المقدس تحت نفوذ أصحاب الحكم بدمشق؛ إلا أن الأهم للتأكيد عليه هو أن تحويل الحج إلى القدس دام بضع سنوات دون أن ينكر العديد من فقهاء الإسلام الأجلاء صحته؛ فلم تستعد مكة مكانتها كقبلة الحج الوحيدة إلا بعد مصرع ابن الزبير بمكة وعودة الحرم المكي إلى النفوذ الأموي.

تحييد الحرم المكي والحج

لعل في هذا التذكير التاريخي مصلحة الإسلام وقد شوهت تعاليمه الأغراض السياسية، خاصة منها تعاليم الوهابية التي لا تأخذ بالإسلام الصحيح، بل بالإسرائيليات التي تغلغلت في دين الحنيفية.

هذا التيار المتزمت في الإسلام لا يمثل بحال من الأحوال لا روحه ولا نصه حسب مقاصده في حقيقتها. فهو بدعة لا شرعية لها للرعاية الرسمية لمناسك الحج. فكيف يواصل المسلمون القبول بتوظيف الدين من طرف السياسة بهذا الشكل؟

مصلحة الإسلام اليوم أكثر من أي وقت مضى  تقتضي أن تتكلف برعاية مقتضيات الحج كلها سلط مستقلة تمثل هذا الدين حق التمثيل، بعيدا عن أي تزمت وتشويه. ففي ذلك العودة الضرورية المتأكدة إلى حقيقة الحج؛ لأن الحرم الشريف في قداسته مستقل الذات عن كل سلطة دنياوية، إذ الحاج بمكة بين أيدي الله وحده.

أما إذا لم يتم ذلك، فهلا فكرّ أهل الإسلام، استنارة بتعاليم التاريخ، في الدعوة لأن تكون بيت المقدس قبلة الحجاج حفاظا على روح الدين الإسلامي من التشويه وقد أفحش في ذلك لا أعداؤه فقط، بل وقبلهم كل من ادعي رعاية الإسلام ممن سعى ويسعى لهذم أسه من الداخل. بذلك تتدعم ولا شك، على المستوى السياسي النبيل، دعوى من يبتغى تحرير فلسطين؛ ذلك لأن في الحج إلى بيت المقدس من التدعيم للقسط الوفير دون خزعبلات للقضية الفلسطينية !

نعم، لقائل أن يقول أن كل ذلك كان ممكنا لتواجد بيت المقدس بين أيدي المسلمين؛ إلا أن هذا لا يمنع من اللجوء إلى الفكرة، بل وتوظيفها أيضا لخدمة قضية فلسطين العادلة التي لم تسلم من تلاعب التجار بها. فكما هو معلوم، وضعية القدس حسب القانون الدولي هي تدويلها؛ وهذا ما ترفضه إسرائيل رفضا قاطعا.

إن دراسة فرضية الدعوة لنقل الحج والعمرة إلى أول القبلتين ثالث الحرمين الشريفين لمن شأنه تقديم الدعم الكبير للقضية الفلسطينية تذكيرا بضرورة تدويل القدس ودحضا لمزاعم إسرائيل في جعلها عاصمتها.

فأي أفضل تدويلٍ للقدس من الاعتراف بها قبلة لحجاج المسلمين؟ وأى دعم للقضية الفلسطينية من جحافل الحجاج تأتي كل سنة لتأكيد وضعية القدس الدولية كمهد للملة الإبراهيمية التي جاءت الحنيفية المسلمة خاتمة لها؟

بذلك، ولا شك، تتدعم على المستوى السياسي النبيل دعوى من يبتغى تحرير فلسطين، لما في الحج إلى بيت المقدس من القسط الوفير حقيقة وبدون خزعبلات من ينتفع لمصالحه الذاتية بالقضية الفلسطينية ! وبذلك يكون أيضا الحج المبرور نزيها، إذ هو زيارة لله في بيته وخدمة للسلام على أرضه؛ أليس الإسلام السلام قبل كل شيء؟

العودة بالحج إلى التقوى الصحيحة

إن تعاسة ما نعيشه اليوم لهو المسخ السافر للدين القيم؛ فهل من حل للعودة بالحج إلى التقوى الصحيحة لإعادة صفائه للإسلام وقد تلاعبت بتعاليمه لا أيدي الأعداء فقط، بل حتى من يدّعي رعاية حقوقه؟

ماذا نرى اليوم؟ الحج، هذه الشعيرة الدينية الكبار، تحت سلطة دينوياوية سياسية لا تعمل حقا بتعاليم الإسلام الصحيحة، بل تشوهها. لذا، رأينا أن على المملكة السعودية، بطوع إرادتها واختيارا منها، إذا أرادت الحفاظ على شرف ومسؤولية رعاية الحرمين الشريفين، أن تجعل مناسك الحج تحت سلطة مستقلة عنها، تمثل حقا الإسلام في سماحته. بذلك تخدم الإسلام حقة خدمته وتحترم تعاليه؛ وهي الأولى بذلك لتواجد الحرم الشريف على أرضها.

إن هذه الحال المناهضة لروح الإسلام الصحيح لتقتضي إخراج الدين من السياسة في أقرب وقت. فيخطىء من يعتقد أن في الإسلام الخلط بين الدين والدنيا أو السياسة؛ فإن كان الإسلام دين ودنيا حقا، فذلك بمعنى التفريق بين مجال الدين ومجال الدنيا، إذ الأول للمجال الخاص، وللحياة الخصوصية في الإسلام حرمتها؛ والثاني للمجال العام الذي لا دخل للدين فيه بأي حال من الأحوال.

من أوكد الواجبات اليوم على أهل الإسلام، ممن لا يبتغي إلا مصلحة الإسلام، العودة لمنابعه الصحيحة والاتعاظ بالتاريخ لنصرة هذا الدين وقد شوهت تعاليمه الأغراض السياسية، خاصة منها تعاليم التيارات المتزمتة التي لا تأخذ بفهم صحيح للحنيفية المسلمة.

ولا شك أن فكرة تكليف رعاية مقتضيات الحج كلها السلط المستقلة الممثلة للدين حق التمثيل، بعيدا عن أي تزمت وتشويه، لا بد لها أن تفرض نفسها. ففي ذلك العودة الضرورية المتأكدة إلى حقيقة الحج؛ لأن الحرم الشريف في قداسته مستقل الذات عن كل سلطة دنياوية؛ فالحاج بمكة بين أيدي الله وحده.

إن الفظاعة التي وصلت إليها حال الإسلام اليوم هي التي تقتضي، كما قلنا، أن ترفع الوهابية يدها عن مكة فتجعل رعاية مراسم الحج بين أيدي حماة للإسلام ممن لا صفة سياسية  لهم، فلا تزمت عندهم ولا أغراض سياسوية، همهم الأوحد خدمة الإسلام بصفته ملة البشرية قاطبة.

فهذا ما لا يمكن أن تتكفل به الوهابية بعد اليوم إذ أفسدت لب لباب الإسلام بفهمها المتهافت للدين. لذا من واجبها، خدمة للإسلام، المبادرة بتعيين من يرعى مناسك الحج حق الرعاية من المتصوفة، أهل الإسلام الصحيح، إذ لا سلفية حقة إلا صوفية الحقائق بشهادة ابن تيمية نفسه، زعيم السلفية !

بذلك يتم إنهاء هذه الحرب العشواء بين الصوفية والسلفية التي لا خير فيها للإسلام؛ فقد حان زمن سلام الأتقياء!

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.