الرئيسية » (13) التقوى اليوم هي الجرأة في العدل والنزاهة

(13) التقوى اليوم هي الجرأة في العدل والنزاهة

المسجد

يكتبها فرحات عثمان

إن من يتمعّن في نتائج امتحان الباكالوريا ليجد فيها تجليات لعديد النقائص التي تشكو منها البلاد، خاصة الفرقة الكبيرة بين حال مدن الشريط الساحلي  ومدن البلاد الداخلية أو العميقة.

فالهوة التي تقصم البلاد إلى شطرين ليست فقط في النقص الفاحش في التنمية الاقتصادية والإجتماعية وفي توزيع الثروات بالنسبة لداخل البلاد، بل هي أيضا وخاصة في الحق والحظ الفادح في التعليم والثقافة لصالح الساحل.

ذلك ما يجعل العدد الأوفر من المتفوقين في الامتحان من مدن مثل بنزرت ونابل وسوسة وصفاقس، والعدد الأقل من القصرين وسليانة مثلا. وهذا ليزيد وضوحا الاختلال في التوازن المرعب بين جهات البلاد الذي لا يجرؤ بعد الساسة على الاهتمام به جديا.

ونحن نعلم أن للرموز الثقافية الدفع الفاعل في تغيّر الأشياء، مما يؤشر حتما لانقلاب شعبي جديد إذا لم يقع تدارك الأمر بسرعة بقرارات جريئة تفرض تغيير نمط التعاطي مع السياسة رأسا على عقب والقطع مع الأنموذج الحالي، هذه السياسة البهيمة التي يفرضها نظام متهافت للعلاقات بين الدول.

إلا أن ما يتعين فعله على مستوى أنفسنا لهو أسهل بكثير من مقتضيات السياسة على الساحة الخارجية في علاقاتنا مع الدول الصديقة والشقيقة التي لا مندوحة، نظرا لحجم تونس وموقعها، من التعامل معها والأخد بعين الاعتبار لرغباتها. رغم ذلك، على الساحة الداخلية، حدث ولا حرج  عن العبث السياسي والأخلاقي !  حتى من يدّعي المنطق الديني الذي يغترف منه مرجعيته، فقد جعل عمله السياسي سياسويا  لا يعطي للأخلاق قدرها.

فهاهم الساسة من حزب النهضة، رغم تواجدهم في ردهات الحكم، يتكالبون على مصالحهم المادية، مقدّمين مطالب للتعوبض المادي أمام هيئة الحقيقة والكرامة،  متمسكين بتعويض مالي لما فاتهم، وكأن الشعب هو الذي كان وراء الضر الذي لحقهم. لأن الشعب هو الذي يدفع اليوم الثمن رغم حالته المزرية !

وفي هذه الحال البئىسة لساستنا، يمكننا ولا شك تصريف قول الحسن بن يسار البصري في البعض من رقائقة : « ويحنا، ماذا فعلنا بأنفسنا؟ لقد أهزلنا ديننا، وسمّنّا ذنيانا، وأخلقنا أخلاقنا وجدّدنا فرشنا وثيابنا ! »

عقلية الغنيمة

هذا ما فعلته مثلا عائلتا راشد الغنوشي وحمادي الجبالي رغم تواجد الأول في الحكم وشدة قرب الثاني منه، وتمتعهما بامتيازات الحكم، كأنه جشع مفرط منهما في الحصول على المزيد.

نعم، إنه من حق من ظُلم سابقا إبراز الحقيقة كاملة و غير منقوصة  حتى يطلع عليها كل التونسيين؛ ولكن هل يتطلب هذا التعويض المادي؟ هل تصرّف بهذا الجشع المادي كل من ظُلم في العهد القديم ؟ هناك عدة نزهاء لم يقدموا أي مطلب للهيئة لقناعتهم أن النضال الحق لأجل تونس لا يستحق أي تعويض. فلنحيي هؤلاء الوطنيين الحقيقيين!

لئن كان الأمر حقا مجرد إظهارٍ للحقيقة، فلم التعويض؟ هل الكرامة في التعويض المادي؟ أليس أفضل وسيلة لطي صفحة الماضي هي القطع مع عقليته، أي عقلية الغنيمة؟ لكن هاهي على حالها عند ساسة اليوم !

إن المثل الشعبي يقول أن السكاكين تكثر عندما تسقط الضحية. ولا شك أن الأمر نفسه، بل أفضع، عندما يسقط نظام ويأتي آخر، أو تفقد دولة هيبتها، فيكثر الانتهازيون وتزداد أطماعهم مع نقصان أخلاقهم وتقواهم. لأن القضية أولا وقبل كل شيء قضية أخلاقية بامتياز.

فهذه هيئة الحقيقة والكرامة تعتقد رئيستها أنها فوق القانون، فلا تعترف بقرارات قضاته، بينما أرادها الدستور لحماية دولة القانون وإعادة الهيبة له عبر خدمة الحقيقة والكرامة! وهذه جحافل الانتهازيين ممن ظُلم من طرف العهد البائد، تماما كما ظُلم الشعب كله تحته، تريد نصيبها من مال هذا الشعب الفقير الذي لا أحد يعوض له ما أصابه، وهو أعتى !

إن ثورة الشعب أصبحت ثروة للبعض؛ والكل يتم باسم باسم الوطنية والثورية الكاذبة؛ وخاصة باسم الأخلاق والتقوى في زمن النفاق هذا. فمتى طالب وطني بتعويض لجهاده من أجل البلاد، خاصة وأن مستوى الشعب اليومي تحت الصفر، فلا يستطيع العيش بكرامة؟ أي كرامة هذه التي يقع فيها تبديد أموال شعب زوالي لمن هو في الحكم، ينتفع بعد برواتب عالية، ناهيك عن الامتيازات المرتبطة بسرير الحكم؟

أليس من الأخلاق إعطاء المثل الأعلى والامتناع عن المطالبة بأي تعويض مادي للاكتفاء بشرف خدمة الوطن؟ أليست هذه هي الوطنية الحقة؟ وأين التقوى في  غسل أوساخ الماضي بالمال عوض تنظيفها بالأخلاق وحسن السيرة والتصرف؟ أليس هذا المطلوب ممن واجبه السعي لخدمة الشعب والكف عن الفساد والإفساد، خاصة وأن مرجعيته دينية ؟ هل هذه أخلاق من طرف من يؤكد على محوريتها في السياسة؟ وهل هذه تقوى ممن يمتهنها كتجارة مربحة؟

جرأة العدل والنزاهة من التقوى

إننا إذا أخذنا بالدين كما يجب،  أي اجتهدنا في فهم معانيه وتثوير حكمة الله، نكون بحق أتقياء. هذا، وقد بينت في يومية سابقة معنى التقوى الصحيح في الدين؛ فلنضيف هنا أنها، إذا امتهنا  السياسة أي الإسلام السياسي كما يفعل حزب النهضة، ترتبط وثيق الارتباط بالعدل. لأن الدين هو العدل.

والعدل يعني ما قام في النفوس أنه مستقيم وأنه ضد الجور. فهل من العدل مثلا أن يطالب اليوم من له امتيازات الحكم التعويضات على ما لحقه سالفا؟ أهذا شكره لله الذي أبدل عسرا يسرا؟

وهب ذلك حقه، ألا يسقط الحق عندما نرى أغلبية الشعب لا تحصل لا فقط على حقها في المواطنة، بل وأيضا في العيش الكريم؟

إن العدل عامة، وفي السياسة خاصة، هو التصرف الذي ليس فيه أي ميلان إلى الهوى والجور. فأين كل هذا في ما رأينا من تكالب على المال ممن يدعون زهدهم في الدنيا؟

مادامت حالهم لا تختلف عن حال غيرهم في علاقتهم بالحكم وبأوساخ الدنيا، فهلا كفوا عن الكلام في الدين ومغالطة الشعب بمعسول الكلام وزخرف التجديل؟ فهذا من دلائل انعدام النزاهة التي هي البعد عن السوء وعن اللؤم، أي أن يكون المرء نزيه الخلق، يسير على هدي الرسول في الأخذ بمكارم الأخلاق. هذه هي التقوى اليوم زمن النفاق والخداع. وهي تقتضي الجرأة في النزاهة وقول الحق ولو على النفس.

إن الدين أساسا النية الطيبة، وهي نزاهة تصرفاتنا، خاصة منها السياسية. فالسياسي المسلم هو من ينزه نفسه عن القبيح ويباعد عن القبيح. أما إذا فقدنا النزاهة وفقدنا العدل، ماذا بقي من التقوى؟

إن الأخلاق الإسلامية أهم ما لنا في ديننا، إلا أننا نسيء لها بفهمنا له تآكل، شرب عليه الدهر وأكل، ناسين لب لبابه، ألا وهو روحه السنية ومقاصده. فمما يُروى عن التابعي الربيع بن خثعم أنه كان يقول : «عليكم بالسرائر اللاتي تخفى على الناس؛ وهن على الله تعالى بواد». والسرائر هي ما تعرّف اليوم بالمتخيل imaginaire واللاشعور inconscient وفيها الحاكم الليبيدو. فهو إما حاكم عادل يعطي لكل ذي حق حقه أو هو جائر لا ينتصر إلا لمن تنكر لصبغة الله في خلقه فمسخها أو أراد مسخها.

ذلك لأنه مواصلة قهر ما فينا من إحساس وشعور عاطفي بما فيه الحسي الجنسي هو من باب التطاول على سنة الله في خلقه كما يفعل الطاغوت وأهله؛ والمحافظة على القوانين الجائرة التي تحد من الحريات الخاصة للمؤمنين هي من باب التقديس لأصنام معنوية، على كل مسلم حق العمل على تحطيمها بأسرع ما يمكن ورفض القبول بها واحترامها، إذ في ذلك التشويه لديننا وفتح الباب فيه لكل مخادع زنيم يتسربل بقميص الإسلام لإفساده، كما هي الحال اليوم بداعش.

إن على الحكام اليوم في بلاد الإسلام، عوض السهر على مصالحهم الذاتية، العودة إلى دينهم الصحيح حتى لا تنقلب يوما بلادهم إلى داعش آخر. وهذا لا يكون بداية إلا برفع كل القوانين الجائرة التي بها تُسرَق من الناس حقوقهم الثابثة في حياة حرة مطمئنة في ظلال الإسلام الوارفة، خاصة منها تلك المتعلقة بالحياة الخصوصية للمؤمن، ومنها الجنسية، التي لا دخل فيها إلا لله حتى وإن بدا لنا العبد في تصرفه الخاص عاصيا لله.

التجارة بالدين

إننا طبعا ننحو هنا باللائمة على طرف من الأطياف السياسية أكثر من غيره لأنه هو الذي يتبجح بالدعوة للدين فيتاجر به عوض احترام مبادئه وأدبياته. فليس جديد أن يتكالب على المادة مثلا من عهدنا ذلك منه سابقا؛ إنما العيب، كل العيب، أن يأتي مثله من ينتقد سيرته ويندد بفساد أخلاقه. فأين الدين التي يُغالط الشعب به؟ وأين التقوى التي يدعيها؟

إن الدين هو الحق، والله هو الحق. فالتقوى هي التزام الحق ونبذ الباطل؛ وكل كذب في الدين وعلى الدين باطل. من ذلك هذه التجارة الوضيعة التي أصبح البعض يمارسها بتونس وببلاد الإسلام مما جعل ديننا ظلامة مقيتة ودعدشة مجرمة.

الأغرب هو أن تجد مثل هذه الجاهلية الطريق إلى أذهان الناس؛ ولعل الأمر يهون لو لم يكن ذلك إلا من الغوغاء، لكن هذه الحال التعيسة تخص صفوة الصفوة من النخب في بلدنا وفي غيرها من بلاد العرب والإسلام.

لقد تكررت الانتهاكات لا لقانون البلاد فقط بل للدين ومبادئه دون أن يتحرك من له القدرة على تنقية الحياة التونسية من مثل هذا الرجس؛ فالساسة في أفضل الحالات هم المشارك الموضوعي لمثل هذه الانتهاكات للدين وللدستور، همهم المصلحة الشخصية والمزيد من الأموال رغم تواجدهم بسدة الحكم وتمتعهم بامتيازاته.

إن واجب الحزب الإسلامي خاصة التمسك بالتزاماته بإرساء ديمقراطية حقة بتونس. لهذا، من المتوجب على النهضة هدم ما في أنفس البعض من رجالاتها من أصنام الطغيان. فالأمل الذي نحلم به لتونس هو أمل غد أفضل تتناغم فيه الحريات، كل الحريات، مع أفضل ما في الأخلاقيات والآداب الإسلامية من تسامح ومحبة وحلم دون تغطرس ولا استبداد برأي! أليس الله يقول : « إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء »[القصص 56]؟

نعم، إن للنهضة، من منطوق توجهها الإسلامي، مسؤولية رعاية الأخلاق الإسلامية والهداية إليها. ولكنه من المفيد التذكير بأن الهداية نوعان في الإسلام. فإلى جانب الأولى المشار إليها بالآية المذكورة، وهي هداية التوفيق للعمل وخلق الإيمان في القلب – التي هي من خاصيات الله وحده فلا يملكها غيره -، هناك هداية الإرشاد والدلالة والبيان؛ وهذه هي التي بإمكان النهضة العمل بها ومن واجبها أيضا، بل ومن واجب كل مسلم مِـنّا جميعا!

ولا يكون هذا في مجتمعنا، الذي نريده ديمقراطيا، بالتسلط والتجبر مع انعدام كل حرية، بل بالدعوة المسالمة والإجتهاد الفكري والتبيين العقلي والتربية المتسامحة؛ وإلا تاجرنا بالدين.

فالقيام بما أوجب الله علينا لهو من التقوى، وهي في سؤاله دوما إصلاح نيتنا وتقويم أغلاطنا؛ كل ذلك في جو من الحرية التامة حتى تكون الموعظة بحق حسنة والإيمان بالله عن قناعة لأنه يأتي عن خيار حر، لا عن قهر وانعدام مسؤولية.

إنه لا مجال بتونس لإسلام قصّر لا مآخذ عليهم يأتمرون بما يقوله لهم تجار الدين؛ بل الإسلام الوعي والمسؤولية، إسلام الإنسان الراشد الذي حُمّل الأمانة لما فيه من عقل ورجاحة فكر يمكّنانه من التوصل لوحده، دون وصاية أحد، إلى التفريق بين الحق والباطل، بين الصالح والطالح. وهذا لا يتوفر إلا في جو من الحرية التامة بلا قيود.

في كتاب له، يقول الشيخ راشد الغنوشي، بعد التأكيد على أن حزب النهضة تطور حثيثا لاستيعاب مستجدات الحداثة، أن هذا التطور «انضبط بحدود.. ما يطيقه منهج تفسير النص الإسلامي الذي تواطأ عليه المسلمون وخلاصته بأن التطور ينبغي أن يتم في إطار المعلوم من الدين بالضرورة، فما هو ثابت نصا يقينا، ما هو يقيني في مورده واضح معناه من النصوص لا نملك إلا التسليم.. يمكن أن لا نطبق بعضه الآن لأن ظروف التطبيق غير متوفرة، ولكننا لا نستطيع أن نحوّله عن اتجاهه.»

عندما يقول ذلك يحق لنا أن نتساءل : أليس هذا عين التجارة بالدين اليوم؟ أين سلطة إعمال العقل؟ أين كونية الإسلام إذا تمسك بنمط من الحياة كما كانت في عهد الرسول؟ ألسنا بذلك نحاكي المسيحية في تأليه نبينا الذي يبقى إنسانا قبل كل شيء، فنأخذ بسنته حتى تلك التي كانت لا تخص إلا عهده؟

ألسنا نحاكي اليهودية في إزالة الرحمة عن الله، وهي أخص خاصياته، بإن نجعله يحكم حكما ليس فيه الصلاح والفائدة إلا لفترة وزمان؟ كيف ندّعي الإسلام إذن، وديننا يدعونا إلى إعمال العقل وإلى العدل والإنصاف والتسامح، فيكتفي من المؤمن _ رغم أنف الجميع _ بالإقرار بتوحيد الله دون العمل بسائر الشعائر لكبير رحمته وسعة غفرانه؟

إنه من المتأكد اليوم إعادة النظر شموليا في معتقداتنا وجزئيا في مفهومنا للوحي ولقدسيته. فليس المقدس ما هو غير قابل للنمو والتطور، وهي سنة الله في حياة البشر، والوحي كلام الله للبشر، لأنه إذا كان كذلك أصبح صنما يُعبد، وقد جاء الإسلام فأزال الأصنام. لكن، يا ترى، هل أزال حقا كل الأصنام؟ ألم نحتفظ بداخل أنفسنا بأصنام خفية أو سرية؟

إن إقامة الوحي كنص لا يحق لنا المساس ببعضه، حتى وإن كان ذلك تطبيقا لنص آخر صريح يؤكد على ضرورة الأخذ بمقاصد الشريعة، لهو من باب عبادة الأصنام، وإن كانت معنوية، ولا عجب أن تكون كذلك في عصر المعلوماتية والافتراضية! وهذا من التجارة الكاسدة في دين لبّه التجدد المستدام، وإلا بار كالتجارة الخاسرة.

الدين في الاجتهاد 

لقد حذّر رسول الإسلام من يوم يعود فيه الدين الحنيف إلى ما كان عليه في بدايته، غريبا وحيدا؛ فهل نبتغي التعجيل بذلك اليوم بالعمل على ما يبتغيه أعداء الإسلام من تضييق الخناق عليه؟

إننا، وإن لم نشعر بذلك، نعمل في صالحهم  بجعل ديننا مجرّد شعائر وطقوس وعادات عوض استرجاع ما وصل إليه من علو كعب في الحضارة والثقافة مع الحفاظ على أعلى قدسياته، وخاصة روحة الثورية الأزلية.

ولا غرو أن ذلك لا يكون إلا بالانفتاح على الغير والأخذ بكل ما في الإسلام من نزعة ثقافية تنهل من دعوته الملحة لإعمال العقل في كل شيء والتأقلم مع كل ما في الكون من مآرب ومشارب، دون التقيّد بفهم خاطيء للمقدس في الإسلام.

إضافة لما سبق، لنعرّف ما هو مقدّس بتفسير عكسي، فنقول أن المقدس ليس ذاك الشيء المحنط، الذي لا روح به، وإلا كان صنما لا ينفع ولايضر.  إن المقدس في لسان العرب هو المنزه عن العيوب والمطهّر من النقائص. أما أن نصرف التقديس كما يفعله اليوم كل من أخذ بحرفية النص فذلك من باب تقديس الأصنام، لأنه يجعل من نص حرفي صنما له عوض المرور إلى روحه.

إن الإسلام أولا وقبل كل شيء إيمان، وهو أعلى درجة من مجرد الإسلام، أي الإسلام الشعائري. فالإسلام هو الحنيفية السمحة، خاتم الأديان، أي العهد الأخير، ولا مجال لأن يكون بحق كذلك إذا رفضنا الأخذ بكل فتوحات العلم وثوابت الحضارة البشرية. ويأتي هذا بالاجتهاد المستمر.

لقد اعترف راشد الغنوشي بأن « الحركة الإسلامية… دخلت بقوة كأن ليس في البلد إسلام سابق، وكأنها فاتح جديد يريد أن يعيد تشكيل الإسلام في تونس تشكيلا كاملا. ثم تبيّن بعد ذلك أن هنالك تراثا إسلاميا في تونس ». كما تبيّن له أن « للمجتمع كلمته ورد فعله وأنه ليس عجينة طيّعة، وأن الشعب التونسي الذي يبدو مائعا ليّنا، في الحقيقة له ثوابت، وَهِمَ بورقيبة عندما غرّته شعبيته وزعامته أنه يمكن أن يشكل بكل حرية، أن يعيد تشكيل هذا الشعب. ولكن لما سقط بورقيبة بعد أكثر من نصف قرن من معاشرته للمجتمع التونسي لم تبكه عين…»

كما وهم بورقيبة، حسب الغنوشي، في فرض رأيه على الشعب، فالنهضة تغلط أيضا في فرض نمطها السياسوي على الشعب التونسي العتي الذي له تمسك شديد بتقاليده، ولكنه تجذر حيوي، متفتح على المحيط الخارجي، آخذ بكل المستجدات.

إن ديننا الحنيف يبقى، رغم ما طالته من تشويه أيادي الأعداء من الداخل والخارج، هذه الثورة الروحية الكبار على كل ما يتحجر في المخلوقات إذا نضبت من ماء الحياة. فالإسلام روحانيات قبل أن يكون شكليات، إذ هو ثقافة قبل صفته الشعائرية الخاصة ببعض البشر.

لذلك من المتحتم أن يتجدد بانتظام بآلية الإجتهاد. في هذا، يقول خاتم الأنبياء : « من أراد العلم فليثوّر القرآن »، وتثوير القرآن هذا هو قراءته ومفاتشة العلماء به في تفسيره ومعانيه. وقيل : لينقّر عنه ويفكّر في معانيه وتفسيره وقراءته. ويقول الرسول الأكرم مشجعا على الاجتهاد : « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر »؛ فإذا كان هذا في الحكم، ما بالك في الاجتهاد في الفكر وبالرأي؟

لقد كان للرأي المكانة الفضلى عند السلف، حتى أن أصحاب المذاهب، مثل مالك وأبي حنيفة والليث، كانوا يتتلمذون على ربيعة بن فرّوخ فيلجؤون إليه ليجتهد برأيه في كل أمر أشكل عليه فيأتيهم بالحكم فيما على وجه تركن إليه نفوسهم وتطمئن له القلوب. لهذا لقّب ربيعة الرأي.

وبعد، تقول الحكمة السنية : ما زال العالم عالما ما دام يطلب العلم، فإن ظن أنه علم فقد جهل. فمهما علم ابن آدم، ما أوتي من العلم إلا قليلا : «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» (الإسراء، 85).

الشريعة بمقاصدها

إن  الاجتهاد في الإسلام لهو بمثابة الواجب العيني اليوم نظرا لما آل إليه حال الإسلام في جاهليته الجديدة؛ وهذا يقتضي الأخذ بمقاصد الشريعة. الكل يعلم أن الفقه الإسلامي كان، من الشافعي إلى الشاطبي، يقف على رجل واحدة إلى أن مدّه هذا الأخير برجله الثانية، ألا هي مقاصد الشريعة التي لا يمكن اليوم فهم الدين إلا بها. ورغم ذلك، نحن لا نعمل بها أو بصفة غير كافية ولا شافية للمنطق وللعقل السليم.

لا مناص عند الكلام في الدين من أن ينطلق ذلك من روح الموافقات، مصنف الشاطبي، ليضيف له لبنة من لبنات علم الإسلام حتى يكون اليوم موافقا للعقل والعلم. إلا أنه ليس العقل الغربي كما عهدناه، وكما لم يعد له كل العلمية والموضوعية، بل العلم الحسي الفهيم، وهو تمام الأخذ بالمعقولات دون تجاهل ما كان يُعد من غير المعقولات. ذلك أنها ليست إلا معقولات لم تعقلن بعد ولا مناص لها من ذلك لما يميز العقل البشري من تطور مستدام.

هكذا الحال أيضا لكل قراءة للإسلام إذ هي في تطور لا ينتهي ما دامت تأخذ بروحه، أي لب لبابه، بما أن كل مقاصد الشريعة فيها، إذ هي تختزلها بحكمة ربما تفوت لبيب اليوم ولا تفوت لبيب الغد. ولا غرو، ليس اللبيب هذا الجاهل الذي يغتر بلبه فيجعل منه صنما معنويا لا مكان له في دين حطم كل الأصنام بلا استثناء.

إن الدين محوري في حياتنا، ولكن ليس كنص لا يتطور حسب روحه المتأقلمة مع مقتضيات الزمن بما أنها أزلية، بل كحرف في تناغم مستديم مع كل ما يقبله العقل البشري وتستسيغه فطرته أيا حدث ذلك من أصقاع الأرض بما أن الإسلام عالمي التعاليم كوني المباديء.

وبما أن الدين هو العدل والنزاهة، فلا بد من الجرأة فيهما لتفعيلهما على ضوء مقاصد الشريعة خاصة وأن الفقه القديم تهافت ولا بد من تحيينه. في هذا، يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في فاتحة مقاصد الشريعة الإسلامية، معللا سب كتابته لهذا المؤلف :

« دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيت من عسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة إذا كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها يذعن إليها المكابر ويهتدي بها المشبّه عليه كما ينتهي أهل العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلى الأدلة الضروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة فينقطع بين الجميع الحجاج، ويرتفع من أهل الجدل ما هم فيه من لجاج، ورأيت علماء الشريعة بذلك أولى، وللآخرة خير من الأولى.

«وقد يظن ظان أن في مسائل علم أصول الفقه غُنية لمتطلب هذا الغرض بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول، رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النظار مستمر بينهم الخلاف في الفروع تبعا للاختلاف في تلك الأصول، وإن شئت فقل قد استمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع، إذ كان علم الأصول لم يدوّن إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين؛ على أن جمعا من المتفقهين كان هزيلا في الأصول يسير فيها وهو راجل، وقلّ من ركب متن الفقه فدُعيت نزال فكان أول نازل، لذلك لم يكن علم الأصول منتهًى ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه، وعسُر أو تعذّر الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال.»

هذا الرأي الحصيف لشيخ من أبرز شيوخ، لا تونس وحدها والبلاد المغاربية، بل الإسلام طرا، يبيّن مدى الضروة القصوى اليوم إلى إعادة النظر في مسلمات عدة من المسائل التي عُدّت غلطا  قطعية وليست هي من الإسلام لا جملة ولا تفصيلا، إذ لا تعدو أن تكون إلا من رواسب الإسرائيليات فيه التي شوهت تعاليمه السمحة.

لا شك إذن أن مداومة الحديث في المسكوت عنه في حياتنا للتذكير بالحقيقة يشحذ همة الساسة لاستباط الحل الأفضل للخلاص من التلاعب بالدين الذي نعيشه والذي تداعياته وخيمة على البلاد والعباد، والدين نفسه في إناسته.

فهذا التلاعب دعدشة مقيتة تتغلغل في الأدمغة، فيصبح الإسلام من جرائها ظلاميا بعد أن كان تنويريا مؤسسا لحضارة عربية أمازيغية إسلامية كونت حداثة قبل الحداثة الغربية، هذه الحداثة التي انطفأت أنوارها اليوم، زمن ما بعد الحداثة.

يقول الشيخ ابن عاشور في فاتحة نفس الكتاب ما يلي، نسوقه من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين، إذ هذا منا اجتهاد في مسائل أصول الفقه، وبالأخص في مفهوم التقوى الجريئة، أي العادلة النزيهة:

«على أن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقاصدها ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكن العارف بها من انتزاع الفروع منها أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ يمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثا على التشريع وتقاس فروع كثيرة على مورد لفظ منها باعتقاد اشتمال تلك الفروع كلها على الوصف الذي اعتقدوا أنه مراد من لفظ الشارع، وهو الوصف المسمى بالعلة.»

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.