الرئيسية » يوميات رمضانية (2): حرية الصائم بين واجب الإطعام والتخمة في الطعام

يوميات رمضانية (2): حرية الصائم بين واجب الإطعام والتخمة في الطعام

رمضانيات

يكتبها فرحات عثمان

مما لا يخفى على المؤمن أن لكل تعاليم الله وأحكامه مقصد، وهو دوما في صالح العبد، وإن خَفَت عنه مصلحته، كما يبيّن الله هذا في محكم كتابه في مواضع عدة، لعل أبلغها قصة النبي موسى عليه السلام مع الخضر.

فهذا نبي مرسل لا يفقه من حكمة الله نقيرا، ولا عجب في ذلك إذ هي البحر المحيط الذي لا نهاية فيه لفصوص حكم الله في جدتها وتجددها. لذا كذب ولا شك على نفسه قبل غيره من ادّعى معرفة مقاصد الله في شريعته؛ إلا أنه لا يمكنه الكذب على الله.

إنما قصارى جهد المؤمن الحق أن يجتهد في علم مقاصد حكمة الله ليعمل بها حسب اجتهاده الذي لا يرقى أبدا للمستوى القطعي، بما أنه طبعه النقصان. فليس بوسع أهل الإيمان الحق الجزم بتمام توصلهم للنفاذ وبصفة نهائية لكنه الشريعة؛ فلا علم بشري يعلو إلى مستوى المعرفة اللدنية، فيبقى العلم لله أبد الآبدين.

لذا، في دين الإسلام، العالم الحق هو الجاهل الذي لا يفتأ يتعلم لرفع جهله؛ وإن ظن أنه علم فقد جهل بدون أدنى شك؛ فتبقى معرفة حكمة الله الأفق الذي يوجه المؤمن شطر وجهه إليه، سالكا نحوه، لا يتوقف عن الضرب في الأرض إليه؛ وهذا هو الإجتهاد المستدام الذي لم بعد يعرفه جهلة الإسلام رغم ادعائهم ذلك، إذ ما علموا إلا الشيء القليل وغاب عنهم الأهم في الدين.

حرية العبد من ثوابت الإسلام

من هؤلاء الجهلة في زعم معرفة الدين بأحلام العصافير التي تميزهم أصحاب مقالة توجّب الصوم وضرورة الالتزام بعدم الإفطار علنا، بل وفرضه قسرا على الناس، مثل ذلك هذا الحزب الذي يتزعمه السيد عادل العلمي.

فعوض التفرغ للعبادة والتأمل في حكمة الله السنية، هوذا ينوي التشهير بمن يفطر علنا، أي يسعى لا للتهريج فقط في الدين، بل وللإفساد في الأرض !  إن مثل هذا الفعل، علاوة على أنه يخالف القانون التونسي، لهو من الخور الذي ليس بعده خور من زاوية الدين الصحيح.

فهلا علم السيد العلمي ومن لف لفه أن الإسلام ما كان يوما الرهبوت والنقموت الذي يريده أهل التزمت أمثالهم، إذ الحنيفية المسلمة  رحموت كلها؟ أليس الله الرحمان الرحيم؟ فمتى استعبد الفقهاء الناس حسب أهوائهم وتصريفاتهم للدين وقد أراد تعالى عباده في ملته أحرارا ؟

إن للعبد في الإسلام تمام الحرية، لا يستعبده أحد، لأنه لا يُسلم أمره إلا لخالقه. والمسلم الحق هو الذي لا ينتبه لفعل غيره ولا لتصرفاته، حسنة كانت أو سيئة، ما دامت لا تعتدي عليه ماديا. فخصلة المسلم الحق في غض النظر عما يشين نظره، وكف يده ولسانه عن فعل غيره الذي لا يمد يده عليه.

إنه  يكتفي بالحرص على مراقبة فعله الشخصي لا غير، لأن مجاهدة النفس هي الجهاد الأكبر، والنفس لأمارة بالسوء.  وهذا، بلا منازع، يتأكد خاصة في شهر العبادة والتقوى، رمضان المبارك. لذا، من فعل السوء، بل وأشنعه، الاعتداء على حرية الغير في إفطاره علنا، لأنه مثل هذا الاعتداء يتم باسم الدين، وهو براء من هذا الإفساد.

أصل رمضان هو واجب الإطعام

ثم هلا ساءل السيد العلمي وأتباعه أنفسهم، فلعل من ينوون التشهير بهم أكثر تقوى منهم وأحسن إسلاما رغم إفطارهم؟ فهل دخلوا قلوبهم ليعرفوا سبب إفطارهم وقد منع الله التنقيب عن الأفئدة على من هو خير منهم، أكرم العباد، سيد الآنام؟

ألا يجوز أن يكون فاطر رمضان ممن حرص على إفطار المسكين وزيادة، فسهر على إكسائه وإسعاده، كما يدعو الله إليه ؟ أليس إطعام المسكين عوض الصوم الحق الثابت في الإسلام الذي لا مراء فيه؟ ألم يكن البعض من الصحابة والتابعين الأجلاء لا يترددون في اللجوء إلى مثل هذه الكفارة عملا بتعاليم دينهم وتمسكا بسماحته بإحياء كل ما فيه من تيسير ورفع حرج؟

كيف يفهم السيد العلمي وأتباعه قوله تعالى في سورة البقرة، بالآية 184: « وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين »  ؟ أليس في الفقه الإسلامي – هذا الاجتهاد الذي لا بد لنا من تجديده، لأن كل ما لا يتجدد يفسد كالتجارة التي تبور -، أليس فيه طبقة معروفة ومحترمة من المؤمنين، لا المنافقين، تسمّى أصحاب الأعذار ؟

طبعا، هناك من يفهم العذر فهما ضيقا، فيراه مجرد استثناء، بينما هو أكثر من ذلك في لغتنا العربية. فالعذر هو الحجة، وهي البرهان، أي ما يُدفع به الخصم، فيكون به الظفر عند الخصومة؛ من ذلك المحجة، أي الطريق والسبيل، بل جادة الطريق وسواء السبيل.

فلا كراهة في الصوم حتى لا تكون كراهية له، إذ الصوم تقوى، والتقوى من الوقاية، أُبدلت الواء تاء؛ فهي إذن خوف الله، لكن لا بمعنى الرهبة منه – فذاك رب اليهود لا رب المسلمين -، إنما للحصول على وقايته وصيانته.

هذا هو الإسلام الصحيح الذي جهلناه اليوم كما جهلنا أصل الصيام، وقد كان إطعاما للمساكين بمشاركتهم ما يحسّونه من لسعة الجوع، لا كما أصبح كله في لذة الطعام للصائم، بل والتخمة؛ فلا يعير الصائم أي انتباه للفقير البائس الجوعان.

لذا، عوض إضاعة الوقت في التسلط على حريات الناس، حبذا لو سعى السيد العلمي وزبانيته للتعرّف على حال الفقراء والمساكين ومدهم بما يستحقّونه من عون وإغاثة ! فهلا عملوا ما ينفع ولا يضر ! أليس هذا هو الإسلام الصحيح الذي لم يعد يعرفه الناس، غوغاء كانوا أو صفوة صفوتهم؟

ثم ليتمعن جيدا في قوله تعالى بالآية 185 من سورة البقرة «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»؛ فهذه الآية، كما قال الإمام السيوطي هي « أصل القاعدة الكبرى التي تقوم عليها تكاليف هذه الشريعة »!

واقع رمضان التخمة في الطعام

الحقيقة أن أهل الإسلام نسوا على مر الزمن حقيقة الصوم وواجب الإطعام للمرور إلى الحال التي عليها اليوم شهر الصيام، ألا وهي المهرجان الشعبي للأكل والتخمة.

فهل بقي من الصائمين اليوم من يفكّر حقا في أخيه الجائع وأخته المسكينة؟ أليس نرى الجمع الغفير يفضّل النوم وترك الكسب نهارا لإتحاف معدته ليلا بكل ما لذ وطاب، ناسيا جوهر رمضان وحقيقة الصيام ؟

ألم يحن الوقت لضرورة التذكير بخاصيات الصوم الإسلامي الذي امتاز بروحانياته خلافا لما كان عليه في الديانات الأخرى، مما أدى إلى انقراضه فيها؟  لئن بقي الصوم اليوم هذه الشعيرة التي يحرص عليه أهل الإسلام حرصا شديدا، فليست لأنها خاصية لهذا الدين وقد عرف في جميع الملل والنحل.

ما ميّز الإسلام هو الحرص على أن تكون الشعيرة ذات مقصد قبل كل شيء، أي مقصد الإطعام، وإلا سقطت الشعيرة، لأن انتفاء السبب ينفي المسبب.

فإن لم يحرص الصائم على الشعور تماما مثل المسكين بتسلط الجوع دون التهرب منه بترك العمل والركون للراحة، لا صوم له. والأفضل له عندها عدم ترك العمل والكفارة بالعودة إلى أصل الصوم، أي إطعام الجائع.

مع العلم أن الدراسات السوسيولوجية تبيّن اليوم  أن تعلّق المسلمين بالصوم الشكلي من المسببات الهامة لعزوفهم عن مقصد الصوم الأصلي.

الدليل على ذلك هذا النشاز بين ما نراه من شدة تمسكٍ بالصيام وحرصٍ على مظاهره الخادعة، رغم أنه ليس الأهم في ترتيب قواعد الإسلام، مع انصراف العديد ممن يصوم عن الصلاة؛ أو لعله لا يتذكرها إلا أيام رمضان، رغم أن الصلاة أهم وأعلى قدرا.

هذا الذي جعل من رمضان، لا تلك الشعيرة الدينية المتميزة بالتقوى الصحيحة، بل مهرجان التخمة في الطعام، حسب ما نبيّنه في هذه اليوميات.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.