الرئيسية » تونس : من أجل هبّة هوياتية أصيلة

تونس : من أجل هبّة هوياتية أصيلة

الهوية التونسية

بقلم فرحات عثمان

لقد وصلت اللخبطة القيمية أقصى مداها في تونس  ولات وقت تردد اليوم في الحرص على الحث للخروج من هذا المأزق التي سيأتي على الأخضر واليابس في هذه البلاد، إذ ختامه الهاوية الأخلاقية.

فلا خلاص لا في الانبتات الغربوي وقد انهارت حداثة الغرب المتهالك في مادية مزرية، ولا في الغي الشرقي المتهاوي في تزمت سلفي ليس فيه من الروحانيات، وهي لب الدين، ولا نقيرا.

إن لتونس هوية خاصة بها تستمدّ جذورها من ماضيها التليد ومن إسلام صوفي مغاربي اختزل كل رونق الإسلام وبهاءه؛ فكيف نحقّق الهبة الهوياتية الضرورية بتونس الاستثناء ؟ وكيف نستغل خاصيات الهوية التونسية أفضل استغلال؟

ضرورة بلورة الهوية التونسية :

لنقل أولا أن بلورة الهوية ضرورة متحتّمة في كل الحضارات جسّدت طموحها إلى ما وصلت إليه من فتوحات؛ وليست هي إلا الإجابة على سؤال تطرحه كل حضارة على نفسها عندما تبتغي الانعتاق من ربقة الانحطاط، خاصة عند تواصل غروبها : لماذا تخلّفنا وتقدّم غيرنا ؟

إن الشعور بالتخلف والنقص لا يصبح حكرا على ثقافة إلا إذا انعدم الشعور المقابل المكمّل للإحساس الأول، ألا وهو القناعة بإمكانية التفوّق من جديد على النفس وما فيها من كوابل للتوق إلى الأفضل. وهذا يتم بالثقة الضرورية في الذات، ولكن لا إلى حد عقدة التفوق على الآخر إذ ليست هي إلا مركّب نقص لا ينفع، بل يضر كل الضرر.

ولا شك أن من عوامل استعادة الثقة في النفس العودة إلى الماضي، أي التجذّر في كل ما كان أساسيا في الحضارة التي وصلت إلي أشد الانحطاط بعد أن بلغت أوجها، إذ تلك سنّة الحياة ومصائر الدول. فلننطر كيف بنى الغرب حداثته بالعودة إلى ماضيه الإغريقي الروماني وقد ساعدته في ذلك أي مساعدة  الحضارة العربية الإسلامية نظرا لتفتحه عليها وأخذه منها !

ونحن إذا ذكّرنا بماهية الاحتلال الفرنسي، الذي كان ثقافيا أوّلا وقبل كل شيء، وبمدى أهمية الرموز الثقافية عند تشكيل رؤى الشعوب وتصرّفاتها، علمنا أن المشكل الأساسي اليوم لهو انعدام الرؤية الواضحة للهوية التونسية؛ فهل هي هوية مهمّشة، غربيا أو شرقيا، أم هي هوية قائمة الذات لا بد من نفض الغبار عنها لإحيائها من جديد؟

حتمية إحياء الهوية التونسية القاعدية :   

الكل يعلم أن الرئيس الأول لتونس المستقلة ونخبها سعوا إلى ربط البلاد بالغرب مع نبذ أسس الهوية التونسية القاعدية رغم ما اتسمت به سياسة الرئيس بورقيبة وتكوينه من ثقافة شبه متّزنة بين الأصل والفصل.

وهذا ما يُواصله البعض من النخبة التي أنعتها بالسلفية المدنية في تجسيده للانبتات ضد عموم الشعب وضد السلفية المتزمتة الدينية التي تستغل من ناحيتها رفض الشعب الصريح لفرض تهجين آخر للهوية التونسية  الحقيقية. فسعيها فيه احتلال لا ينقص فحشا عن الاحتلال الغربي، بل هو أفحش، لأن المخاتلة والخداع تتم فيه باسم الدين. لهذا، فالضرر لهو أكبر بالهوية االتونسية الأصيلة، ألا وهو الاحتلال الإسلاموي.

ذلك لأن الهوية التونسية، وإن كانت عربية إسلامية، فهي أيضا أمازيغية متصوّفة كما لها روافد أخرى عديدة من كل أفق حضاري متأت من تلك الحضارات المتعاقبة على الأرض التونسية وقد كانت على مر العصور بوتقة انصهرت فيها الحضارات.

فلإن كان من المنطقي والواجب عدم قطع التواصل مع معالم الهوية العربية الإسلامية بهذه البلاد، فالمفروض المتحتم ألا يكون ذلك إلا بربطها بما يمت حقيقة إلى جذورها، أي تفتح التونسي على العالم،  وخاصة محيطه المتوسطي، وتسامحه وحبه للآخر، أيا كان وأيا كانت ملامحه ومشاربه. فأهم ميزة للهوية التونسية هي الغيرية، إذ التونسي هو الآخر  قبل أن يكون ذاته.

الهوية التونسية  القاعدية : قسورة وحمر مستنفرة      

هذه الهوية التونسية، إذا أردنا استعمال البلاغة القرآنية (سورة المدثر: 49-50)، فيها من الحُمر المستنفرة و فيها أيضا القسورة. فالحمر المستنفرة ترمز إلى رؤية الاستنفار السوسيولوجية لعالم الاجتماع التونسي محمود الذوادي، وهو يقصد بها «شدة الاستفار التي تتصف بها علاقات التفاعل التونسي مع التونسي الآخر» فيقول أن «تعامل التونسي مع التونسي الآخر يتّسم عادة بنوع من الجفاء والحذر والتوتر»؛ وهذا وإن كان صحيحا فهو يخص فقط الآخر المجهول، أو البرّاني، إذ لا شك، كما يعترف به السيد الذوادي، في «وجود تعامل معاكس عند التوسيين الذين يعرفون بعهم بعضا، أي عندما تربط علاقاتهم روابط الدم والزمالة والجيرة…».

وإذا علمنا أن هذا ينضاف إلى تفشّي العنف اللفظي والجسدي عند التونسيين، علمنا أن حالة الاستنفار ليست إلا المؤشر على خوف التونسي من غيره خوفه من نفسه ومن ردّة فعل تتجاوز المعقول؛ والمعقول هنا هو ما يمنعه القانون.

فلا يجب أن ننسى أن المحيط الذي يعيش فيه التونسي محيط كله قوانين رادعة، لا محيط حريات يساعد على العيش بكل طمأنينة وحسب الطبيعة. لذلك، لا ترى التونسي على طبيعته إلا عندما يكون مع من يرتاح إليه، إذ هو عندها لا يخاف على نفسه.

إلا أن هذا الخوف ليس مردّه الضعف والاستكانة، ما دمنا بيّنا نزعة العنف المعنوي والمادي في التونسي، بل مردّه الخوف من قوته التي من شأنها حمله أبعد مما يسمح به المحيط وقوانينه المتعجرفة الظالمة.

ففي التونسي ما يكفي من الحكمة الشعبية التي تحمله على توقي الحذر والابتعاد عن المغالاة والمبالغة نظرا لأنهما خاصياتان فيه، فإذا لم يكبح جماحهما أخذتاه بعيدا. وهذه الخاصية الكامنة في التونسي هي ما أسميه بطبيعة القسورة، أي الأسد، إذ في كل تونسي أسد نائم؛ وهي الطبيعة التي عندما تستيقظ تجعل من إرادته في الحياة إرادة عصيّة على كل جبار عنيد. فهي التي تغنّى بها شاعر البلاد الخالد.

لا شك إذن أن طبيعة الاستنفار هي مجرد هذا الطلاء الخارجي الذي يساعد على الحفاظ على النفس وكبحها عند الضرورة؛ أما الثابت  النفساني والإجتماعي في التونسي، فلا شك أنه طبيعة القسورة.

لذلك، فالهبة الهوياتية الأصيلة للتونسي تقتضي تحريره من القوانين المجحفة التي تحمله على الخروج من جلده للتأقلم مع المحيط الجائر. فبتحريره من تلك القواعد المجحفة يتخلص التونسي من طبيعته الظاهرة، أي طبيعة الاستنفار أو الحمر المستنفرة لتبقى طبيعته الأصيلة، طبيعة القسورة، التي كما بين لنا التاريخ تعود من حين إلى حين في قالب ثورات متعاقبة.

أليس من الأفضل نشر السلام مع النفس ومع الآخر حتى يحيا التونسي حسب طبيعته، طبيعة الليث الهاديء أو القسورة دون أي استنفار، إذ لا داعي له من أي الخوف بقوانين تكرّس حقوقه وحرياته كما اعترف بها الدستور؟

الإحياء بعدم الإنحياز ومخاطبة اللاوعي

إن إحياء الهوية التونسية لهي الشرط الضروري بتونس لإعادة «بناء الجماعة المهشّمة» حسب تعبير إدوارد سعيد، وهذا يقتضي الأخذ بما يمّيزها من طرافة، ألا وهي في نفس الوقت طبيعة الحمر المستنفرة والقسورة، كما بيّنا؛ وذلك من شأنه تمكين الإحياء السريع الناجح لها.

وإضافة الجانب المبدئى المشار إليه سابقا، وهو الإطار القانوني الذي لا يصح أي شيء بدونه اليوم، لا بد من توجّهات تفعّله في الواقع المعيش نظرا لما يرفعه، كما بيّنا ذلك في مقالة سابقة،* من إشكالية لما في هذه الهوية من تعقيد بالمعنى السوسيولجي للفكر المركّب المعروف عند إدغار موران، أي الغنيّة بثراء مكوناتها،  الإناسية خاصة.

فهذا هو الذي يتوجّب الحفاظ عليه من الاندثار إذ قد تم دفنه تحت رماد الصراع الأيديولوجي العقيم بين غُربتين، غربوية ومشرقية، ليس فيهما لا استشراق ولا إشراق.

ونحن إن حرصنا على تنميط الهبة الهوياتية بالإطار القانوني حتى تكون أصيلة – للضرورة القصوي للقانون في أي إحياء، أيا كان شأنه، فهذا مما لا ينتطح فيها عنزان -، لنا أن نتساءل : كيف يتم ذلك، في استنباط القوانين وبعده، دون الإضرار بذاتية الهوية؟

إن الإحياء الصحيح ليس البتة في الانحياز لا للغرب ولا للشرق، بل يكون باستقلال جديد، يتم على المستوى الذهني أساسا، عن المرجعيات المتهافتة غربية كانت شرقية. بذلك تكون الهوية التونسية على حالها الأصيلة، فنتعرّف عليها كما هي في أصالتها، إذ هي نور على نور!

ولا شك أن هذا يتم أولا بحزمة قرارات وقوانين على النطاق الداخلي والخارجي للبلاد ثم على الحرص على تطبيقها للعمل على تزكية كل ما فسد في المتخيّل الشعبي. فذلك هو الذي يمكّن من أن تُرفع من اللاوعي الجماعي البعض من العراقيل التي تنمّي فيه إرهابا فكريا فاحشا أو تبعية مقيتة لمن همّه طمس الخصوصيات التونسية الطريفة التي تجعل منها هذه الاستثناء الحقيقي، ما أسمّيه الاستثناء تونس.

باديء ذي بدء، لا بد إذن من تفعيل ما جاء في الدستور من حقوق وحريات في الميدان الشخصي وذلك بإبطال العدد الأكبر والأهم في رمزيته من القوانين المخلة بالدين في تحريمها لحرية الحياة الخصوصية، إذ حُرمتها من ثوابت الإسلام.

ثم لا بد قانونا من التأكيد على حق التونسي في حرية التنقل، ويؤدي هذا حتما إلى المطالبة بحق التونسي في التنقل بحرية. فعلاقات تونس مع الخارج،  وبالخصوص مع الغرب، وعلى رأسه فرنسا،غير سوية ولا عادلة، إذ  استغل ويستغل الغرب ثروات البلاد بدون مقابل جدّي.

وليس أقل اليوم من حرية التنقل للتقليل من ذلك الظلم،  الشيء الممكن بواسطة آلية تأشيرة المرور التي اقترحتها لما فيها من احترام للضوابط الأمنية الحالية مع التقيّد بالتزامات القانون الدولي وحقوق الإنسان، إذ حرية التنقل منها بدون أدنى شك.

مع العلم أن حرية التنقل للتونسي مع أوروبا من شأنها تصفية الأنفس بصفة جسيمة وحاسمة من كل ما يمثّله اليوم التغرّب من مشاكل ومخاطر تغذي الإرهابين المادي والمعنوي. لذا، فمن صالح الاتحاد الأوروبي نفسه، وفرنسا بالذات، المحافظة على تواجدها بالأرض التونسية بفتح حدودها للتونسي حتى يظل متعلقا بأفضل ما في الحضارة الغربية أي إناستها.

ولاشك أن لفرنسا بصفتها المحتل السابق للبلاد المسؤولية الأكبر لما حظيت وتحظى به اللغة الفرنسية من ماض وإن بدأ يتلاشى في المجتمع التونسي. فعليها أن تعمل جاهدة للمحافظة عليه ومنعه من الزوال وذلك بالمساعدة على رفع الحدود القارية أو استنباط تأشيرة خاصة بها، تكون مثلا فرنكوفونية، تخصص للتونسيين بوصفهم رعايا بلد على درب الديمقراطية لهم الحق في التنقل بكل حرية؛ ناهيك ما قدمته وتقدمه البلاد لأجل اللغة الفرنسية.

ولعله من المفيد التذكير هنا بأن ذلك من إرث الزعيم بورقيبة الذي قال فيه أحدهم وصدق : «لم أر رجلا خارج فرنسا أقرب إليها من الرئيس بورقيبة؛ ولم أر في العالم العربي رجلا أقل تشابها للعرب منه».

ولا شك أن هذا الجانب من شخصية المجاهد الأكبر (هذا اللقب الذي يجب اليوم قلبه إلى الجهادي الأكبر) هي المفتاح لفهم تونس اليوم والغد من زاوية التاريخ النفسي للشعب التونسي. فلقد أضر بتراث بورقيبة عبادته لشخصه؛ لذا آن الأوان لعبادة لا ماض يجب إحياؤه كما يفعل البعض اليوم بل عبادة الثابت في الهوية التونسية، أي هذا التفتح على الآخر المميّز للتونسي الأصيل.

بهذا يتم تمهيد السبيل السويّ للتصالح مع هويتنا بوثبة حاسمة تقر الاستثناء بهذه الربوع التي حان الوقت لأن ترفع راية السياسة الأخلاقية. فلا سياسة اليوم بدون أخلاق كما لا معاصرة بلا أصالة.

إلا أن الأصالة ليست لا في تقليد الآخر بدعوى تقدّمه ولا في إحياء التليد في الذات بصفة هوجاء، بل يكون ذلك بالتناغم بين الحديث والتليد في لا بد له أن يكون حيويا بالضرورة. فهذه من سمات زمن مابعد الحداثة وهي الخاصية التي تتقمص تونس اليوم دون أدنى شك معالمها القاعدية.

 

* في الهوية التونسية أو العود على البدء

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.